علم نفس

كيف نخرج من دوامة القلق؟
إعداد: الرقيب أول كرستينا عباس

يتمنى الناس عادة أن يعيشوا حياة تخلو من الأزمات، طُرقها معبّدة بالورود الجميلة، منزوعة الأشواك ولا تشوبها شائبة...لكن، لا حياة من دون منحدرات يقابلها ارتفاعات، ولا طرقات من دون أشواك إلى جانبها ورود، ولا أعمال من دون معضلات تقود إلى الحلول. طالما نحن نحيا، طالما سنواجه عقبات وتحديات. ولكن كيف نجابه هذا الواقع؟ وهل القلق في شأن أزماتنا يساعدنا على تخطيها والتغلّب عليها؟ أم أنّه يزيد من وطأتها ويساهم في تدهور صحتنا الجسدية والنفسية؟


عندما كان السير William Osler قلقًا قبيل تقديمه امتحانه النهائي في Montreal General Hospital صادف جملة من ٢١ كلمة باللغة الإنكليزية قرأها حينها فغيّرت تفكيره وأسهمت بنجاحه في الامتحان، ثمّ في حياته بمجملها لاحقًا. هذه الكلمات هي ما معناه: «ليس علينا أن نتطلع إلى هدفٍ يلوح لنا باهتًا على البعيد، وإنّما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عملٍ واضح بيّن».
في محاضراته أمام الطلاب يشدّد السير Osler دائمًا على ضرورة أن يعيشوا كل يومٍ بيومه، من دون التشبث بالماضي الصعب وأخطائه ولا التفكير المفرط في المستقبل المجهول ومدى غموضه، لأنّهم بهذه الطريقة فقط يمكنهم أن يعيشوا الحياة من دون قلق أو توتر. هذا القلق الذي إذا ما استسلمنا أمامه خسرنا كل الحسنات التي يمكن أن نعيشها في هذا اليوم، ونضيع في دوامة من التحديات، ثم ننغلق على كآبةٍ في نفسنا تجرّنا نحو الهاوية حيث لا يعود بإمكاننا النجاة من الدمار المحتّم.
وفي هذا السياق، ترى الاختصاصية في علم النفس والمحللة النفسية الدكتورة ماري-أنج نهرا مرعي، أنّ الشعور بالقلق هو نوع من أنواع الارتباك والتوتر، يصيب الإنسان عندما يقابل ظروفًا أكبر من قدرته على الاحتمال وأصعب مما قد يتخيّل نفسه فيها، وهذا الشعور يجعله عاجزًا عن السيطرة على أمور حياته وتمالك أعصابه. «المؤشّرات التي تدلّ على أنّ القلق يتملّك الفرد كثيرة» تضيف د. نهرا مرعي، و«من أهمّها العوارض النفس-جسدية كوجع الرأس، الرجفة، الدوخة، قلة النوم، الاعتكاف، عدم الشعور بالرغبة في الأكل، وقلة التركيز». وتخبرنا أنّ للقلق تأثيراتٍ عديدة قد تبدأ جسدية وتنتهي نفسية. ففي المرحلة الأولى يشعر المرء باضطرابٍ نفسي يؤدي به للكآبة، ثمّ يترجم بمرضٍ عضوي وبعدها يصبح عاجزًا عن فهم نفسه ومداراتها، فيسعى للعلاج عند طبيب من خلال العقاقير أو عند معالج نفسي.

 

حل المشكلة يخفف القلق!
يعتبر Dale Carnegie في كتابه how to stop worrying and start living أنّ تحليل المشكلة وحلّها يساعدان الإنسان على تخطي قلقه وتوتّره تجاه هذه الأزمة ما يعطي خطوات عملية من أجل التمكّن من تحليلها بفاعلية:
١- قراءة وقائع المشكلة: كتابة موضوع القلق بشكلٍ محدّد ودقيق وتحديد ما يمكن القيام به في هذا الشأن.
٢- تحليل الوقائع.
٣- الوصول إلى قرار ثمّ الانطلاق لتنفيذه.

 

هكذا يظهر القلق
على الصعيد الاجتماعي، تقول الدكتورة نهرا مرعي إنّ القلق الكامن في عقل الإنسان قد يظهر عبر التوتّر والشجار المستمر مع الآخرين على أبسط الأسباب، وفي حال زاد عن حدّه يُترجم عبر تعنيف أحد الأفراد المحيطين به، سواء كان في مكان عمله أو في البيت، وقد تتطوّر الحالة إلى حدّ تعنيف الذات. وتشير إلى أنّ الأمور قد تتدهور لتصل إلى مرحلة الانطواء على الذات.
من جهته، يقول الدكتور O. F. Gober (كبير اتحاد مستشفيات غالت وكولورادو وسانتافي) «إنّ ٧٠٪ من المرضى كان بإمكانهم تفادي تدهور صحتهم فقط لو أنّهم تمكّنوا من التيقّظ لمخاوفهم والأمور المقلقة في حياتهم... فالمخاوف تسبّب القلق. وهذا الأخير يسبّب الضغط والتوتر، مما يؤذي أعصاب المعدة ويؤثّر بالتالي على عملية الهضم التي تصبح عسيرة». ويؤكّد أيضًا أنّ العديد من الأمراض الجسدية والعصبية أساسها الشعور المفرط بالقلق والسماح للتوتر بالتغلّب على أعصابنا.
من ناحية أخرى، وبما أنّنا اليوم نعيش في حالة أزمة وتواجهنا مشكلات وتحدّيات كثيرة، تؤكّد الدكتورة نهرا مرعي أنّه حكمًا سوف نشعر بالقلق لأنّه لا يوجد أزمات من دون قلق، لكن يمكننا أن نقاوم الارتباك والتوتّر عبر اتّباع عدة أساليب تساعد في مواجهة هذه الحالة. وتقترح أنّه يمكننا: «الاستماع إلى الموسيقى الهادئة، النوم باكرًا، الأكل جيدًا وبانتظام، ممارسة الرياضة، تجنّب الأخبار السيّئة والسلبية، القيام بالأمور التي تسعدنا أكثر (كشرب القهوة صباحًا مع من نحب مثلًا أو الركض في الحديقة أو المشي يوميًا...)، الابتعاد عن مصادر الحزن والقلق، الحياة الاجتماعية السليمة، «الفضفضة» أو التفريغ من خلال التنزّه مع الأصدقاء، مشاورة اختصاصي نفسي، الصلاة، وأحيانًا الجلوس مع ذاتنا لفترة والاختلاء مع أفكارنا حتى ننظّمها... كلّها أمور تخفّف من وطأة القلق في حياتنا».

 

بين القلق ونكران الواقع
تؤكّد الدكتورة ماري-أنج نهرا مرعي أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين القلق والعيش في حالة نكران للواقع. فالقلق هو وعيٌ زائد للواقع الذي نعيشه، وأحيانًا تكبير الصورة وتضخيمها إلى حدّ الوصول لتكبير الصورة أكثر بكثير ممّا هي عليه في الواقع. أمّا العيش في حالة نكران فهي العكس تمامًا حيث نرى أنّ الأمور عادية جدًا مهما كانت خطورتها، لا نعيرها اهتمامًا أو نراها وكأنها شيء بسيط. هي آلية دفاعية نفسية يستعملها الإنسان حتى يهرب من القلق أو يتجنّب الغوص في المشاكل.
هذان الأمران هما من الأساليب التي يعتمدها الشخص في عقله الباطني من دون أن يدري أو يقصد، وبالتالي تكون هذه طريقته في التعامل مع واقعه.

 

وقاية أم وعي الحالة؟
قد يكون من الصعب أن يتجنّب الإنسان الوقوع في الشعور بالقلق، لكن من واجبه أن يقرأ نفسه ويفهم مشاعره وكلّ الأمور التي تحصل في داخله من صراعات وتحديات، أن يسمع ما يقوله له صوته الداخلي وما هي حاجاته والأمور التي يريد القيام بها في حينها: «إذا كان بحاجة إلى راحة فعليه أن يرتاح، إذا كان بحاجة للخروج والتنزّه فليخرج... من الضروري أن يكون بحالة إصغاء نفسي حتى يستطيع تجنّب تَبِعات القلق، تؤكد د. نهرا مرعي.
وفي كتابه how to stop worrying and start living يقترح Dale Carnegie (مدير معهد كارينجي للعلاقات الإنسانية) سبع خطوات من شأنها أن تساعدنا على منع القلق من السيطرة على حياتنا اليومية، وهي: أولًا العيش ضمن day-tight compartments أي العيش كل يومٍ بيومه من دون الحنين إلى الماضي الحزين ولا الخوف من المستقبل الغامض، أي العيش بحسب ما يقول المثل «تروك هَم بكرا لبكرا». ثانيًا، رؤية الجانب الجيّد من الأمور، فكل حالة نمرّ بها يكون لها جانبان أحدهما سيّئ والآخر جيّد وعلينا التركيز على ما هو حسَنٌ لنا، بمعنى «النصف الملآن من الزجاجة». ثالثًا، يُنصح بالبقاء منشغلين لأنّ الإنسان القلق ينسى نفسه وكل ما يوتّره عندما ينغمس في عمله.
أمّا الخطوة الرابعة، فهي وضع الاحتمالات في الحسبان: ما هي نسبة حدوث الأمر الذي أنا قلقٌ منه، وإذا حدث ما هي الفرص المتاحة لمجابهته؟ خامسًا، أن نقوم بأقصى ما يمكننا القيام به دائمًا ومن دون تلكّؤ فهكذا على الأقل يكون الإنسان راضيًا عن نفسه. سادسًا، count your blessings not your troubles أي أنّنا بدل أن نقضي معظم أوقاتنا في سرد التحديات والأزمات والنواقص التي لدينا، علينا التمتّع بكل النِعم التي نمتلكها، والتي قد تكون أمورًا ناقصة لدى الكثيرين. سابعًا وأخيرًا، القيام بأمرٍ خيّر كل يومٍ مع أحدهم، مما يرسم بسمة في حياته، وهذا من شأنه أن يجعلنا ننغمس في الخير وفي فرح الآخرين، الأمر الذي يُبعدنا عن توترنا وقلقنا الداخلي: Forget yourself by becoming in others.
نعود إلى الدكتورة نهرا مرعي التي تختم حديثها عن الموضوع بلفت النظر إلى العيش في حالة نكران الواقع وهي نقيض حالة سيطرة القلق، ولكنّها أيضًا خطيرة بالقدر نفسه: «تحصل حالة النكران إجمالًا بعد أن يعيش الإنسان صدمة معيّنة، وتعبّر عن عجزه عن تقبّل الأمور كما هي في الواقع». وتنصح بأن لا نفرض على من يعيش هذه الحالة أن يرى الواقع كما نراه بالقوة أو بالإجبار، لأنّنا بهذه الطريقة نضغط عليه أكثر ونخلق لديه توترًا إضافيًا يمكن أن يفقده السيطرة على أعصابه أكثر. التصرّف الصحيح هنا يكون بتوجيهه عند اختصاصي نفسي، وبهذه الطريقة، نكون قد اهتممنا بصحتنا النفسية وبصحة مَن هم من حولنا أيضًا.
يؤدي القلق المفرط إلى مخاطرَ شتّى، جسديًا ونفسيًا، وهو لا يتيح حلّ المشكلة التي سبّبت هذا الشعور في الأصل بل يُضخّمها. حياتنا كلّها تتأثر بمشاعرنا الداخلية، ونحن من نقرر الاستسلام لهذه المشاعر والسماح لها بالتغلّب علينا، أو التصدّي لها وقبول التحديات وتحويلها إلى فرص.