في القلب والعقل

كيف يعيش إبن الشهيد غياب أبيه
إعداد: ثريا شطح

بين ألم الفراق والشعور بالفخر والاعتزاز

 

..وعاد إلى عائلته محمولًا على الأكتاف، شهيدًا ملفوفًا بعلم الوطن، مكللًا بالشهادة والتضحية والوفاء. هم على يقين أنّه معهم، روحه ترافقهم، وهو في عليائه، يفرح لفرحهم وينكسر لحزنهم.
صورة الأب البطل الشهيد الحاضرة بقوّة في أذهانهم لا تلغي الغصّة والألم، ولا تعوّض عن الدور الأساسي والمهمّ الذي يؤدّيه الأب ضمن العائلة على صعيدي السلطة والرعاية.


ماذا يقول علم النفس؟
ما هو الأثر النفسي لغياب الأب الشهيد على عائلته؟ وكيف يمكن لزوجته أن تتعاطى مع الواقع بعد أن خسرت شريك عمرها؟
المحلل النفساني الدكتور روجيه بخعازي، يجيب قائلًا: إنّ بعد الأب عن المنزل يؤثّر سلبًا على كلّ افراد عائلته، وخصوصًا الأولاد الصغار، لأنّهم بحاجة إلى من يجسّد صورة الأب «الشجاع» و«المنقذ» و«البطل»، والتي يصعب على الأم تجسيدها.
الأثر كارثي اذًا؟ يجيب بخعازي: ليس بالضرورة توافر بديل عن والده، فإن والد كالجدّ والعمّ والخال يمكن أن يخفّف من حدة الآثار النفسيّة التي يعانيها الطفل، لكن في جميع الأحوال، على العائلة أن تحاول استدراك الوضع والتخفيف من الصدمة التي يعانيها.
ويشدّد بخعازي في حديثه إلى «الجيش»، على ضرورة تربية إبن الشهيد على فكرة مفادها أنّ أباه منذ اللحظة الأولى لدخوله المؤسّسة العسكرية وارتدائه البزة، أعطى وعدًا صادقًا من خلال قسم اليمين بالدفاع عن أرض الوطن. هذا الأمر ينعكس ايجابًا عليه ويضعه في موقع احترام القوانين والتزام موجباتها.
وهذا يعني أنّه قام بواجبه، وبما يمليه عليه القانون كعسكري. وبالتالي فإنّ استشهاده يقع في اطار القانون.
ويضيف موضحًا: اذا لم تترسّخ هذه الحقيقة في ذهن إبن الشهيد، فهو قد يستغل الإطار العائلي الحاضن والمتعاطف الذي يحيط به، مع ما لذلك من نتائج قد تكون مدمّرة.


كيف نخبر طفلًا أنّ أباه قد استشهد؟
يجب أنّ يتمّ ذلك بطريقة إيجابية غير صادمة، يقول د. بخعازي. ومن بعدها يجب مراقبة مدى تكيّفه مع الفكرة مع عدم قبوله للواقع يعني وجود مشكلة حقيقية.
أمّا إذا كان الولد مراهقًا، فعلى الأم أن تتفهم مرحلة ثورة ابنها الذي يرى أصدقاءه يعيشون ضمن كنف الأسرة وفي ظلّ حضور أب راع، وحاضن. مع ذلك يمكن استيعاب هذه الثورة، فالتحدث عن بطولة أبيه، ينعكس إيجابًا على نفسيّته ويعطيه شعورًا بالفخر والاعتزاز، ويساعد في تخطي الصدمة وتقبّل الواقع.
ومن هنا يجب على الأمّ أن تكون واعية ومتفهمّة، وقد يتطلّب منها الأمر التساهل في بعض الأحيان انطلاقًا من الوضع النفسي للطفل. لكن حتى في حالة التساهل يجب مراعاة مبدأ عدم إحساس الولد بالشفقة عليه، لأنّ الاولاد يستغلّون عطف الأم وتعاطفهم معها.
وما هي الحالات التي تستدعي عرض إبن الشهيد على طبيب نفساني؟ يجيب بخعازي: رفض المراهق للواقع وعدم استيعابه لفكرة استشهاد أبيه، من الحالات الأكثر خطورة، والتي تنذر بضرورة عرضه على أهل الاختصاص لمواكبته ومساعدته على تخطّي الأمر. بالنسبة إلى من هم أصغر سنًا ينبغي مراقبة تصرفاتهم، وفي حال وجود ما يشير إلى الكذب والاحتيال، أو الرغبة في الوحدة والعزلة، ينصح بمراجعة الطبيب أو المعالج النفسي.
 وردًا على سؤال، نبّه بخعازي من خطورة إبعاد الأولاد عن أمّهم بعد استشهاد أبيهم، وذلك بغضّ النظر عن القوانين القائمة، لأنّ غالبية الأمّهات لديهن الأهلية لتربية أولادهنّ واحتضانهنّ. وأيّ محاولة لإبعاد الأولاد عن أمّهم تلحق بهم الأذى النفسي، قبل أن تلحقه بها. وفي هذه الحالة يكونون قد خسروا أباهم بالموت وأمّهم بالحياة.
 

آلام وآمال
 من رحم الوجع وألم الفقدان، تنهض زوجة الشهيد المقدم المغوار ميلاد هلالي لتقول إنّ الله لا يترك أحدًا، وإنّ الإيمان ضروري للخروج من الظلمة إلى النور، وتخطّي التجارب الأليمة، بسلاح الأمل.
كلود هلالي التي فقدت زوجها وهي في ربيع عمرها، تقول: ليس من السهل أن تقوم الأم بدورها وبدور الأب، خصوصًا أنّه أساس العائلة ورمز القوة والحماية. وتضيف، أشعر بكبر المسؤولية الملقاة على عاتقي، وأحيانًا يتعبني الشعور بالفراغ الذي تركه زوجي، إلاّ أنّ إيماني يمنحني القوّة لأتابع.
في منزل المقدم الشهيد عبدو جاسر، تستقبلك زوجته بابتسامة، فيما تبدو على وجوه أولادها الثلاثة علامات الفخر والفرح والأمل بالحياة.
تتحدّث عن زوجها البطل الذي تعتبر أن روحه ما زالت حاضرة معها. تقول: تخطّينا صدمة الاستشهاد ولكن الألم ما زال موجودًا، مع ذلك فالحياة تستمرّ، خصوصًا أنّني مسؤولة عن أولادي وواجبي احتضانهم ورعايتهم.
روي الإبن البكر للمقدم الشهيد يتحدث عن فقدان أب كان يودّ أنّ يرافقه على مدار حياته، «لأنّنا بأمسّ الحاجة إليه، ولكن وجود أمي إلى جانبنا خفّف كثيرًا من حدّة الألم ومرارة الفقدان. استشهاد أبي يشعرني بالفخر والاعتزاز...».
لا ينكر روي بأنّه في بعض المحطات يشعر بفراغ كبير خصوصًا في المناسبات العائليّة، وفي عيد الأب تحديدًا يمرّ بغصّة، لكنّه يعبّر عن فرحته باهتمام المؤسسة العسكرية بعائلات الشهداء.
أمّا رالف الإبن الأصغر للشهيد جاسر، فيبوح بأنّه لا يمانع في الانتماء إلى المؤسسة العسكرية والدفاع عن أرض الوطن وسيادته، عندما يصبح كبيرًا. ويقول: صحيح أن استشهاد أبي كان صعبًا، إلاّ أنّ الشهادة مدعاة للفخر والبطولة.