رحلة في الإنسان

كيف يغيّر الحمل والإنجاب دماغ المرأة؟
إعداد: غريس فرح

حـقـائـق تصيب العلماء بالذهول

أعجوبة الحمل لا تنحصر بمجرّد تكوّن الجنين في الرحم، وحصول الولادة. إنها أكثر مما يتصوّر العقل، فهي تتعدّى ذلك إلى ما يحصل في الدماغ من تغيّرات، كشف عنها العلم أخيرًا، وأصابت العلماء بالذهول.
ماذا يحصل في دماغ المرأة في أثناء الحمل وبعده، وما هي التغيرات التي تحصل لتسهل لها الـتأقلم مع حياتها الجديدة؟

 

نشوء دماغ متجدد
باعتبار أن دماغ المرأة يتغيّر تدريجًا منذ بداية الحمل، فإن ما ينجم عن ذلك قد يحدث بعض المشكلات الصحيّة، إلاّ أن المكافآت التي تجنى من جراء هذا التغير تفوق التصوّر.
فالأمومة كما يؤكد الاختصاصيون تعزز أنواعًا من المعارف الفطرية، وتؤمن مقاومة الضغوط، إضافة إلى أنها تغذي الذاكرة.. وفي الواقع، فإن الجهاز العصبي في أثناء الحمل وبعده، يحوّل المرأة من إنسان مركّز على ذاته، إلى آخر معطاء ومستعدّ للتضحية. وهذا يحدث نتيجة نشوء خلايا عصبية جديدة، ونمو بعض المناطق الدماغيّة، إضافة إلى تدفّق الهرمونات التي تؤثر في مشاعر الحامل وتصرّفاتها.
وهو ما يجعلها قادرة على التصدّي للتحدّيات اليوميّة، في الوقت الذي ينحصر فيه تفكيرها بالجنين أو المولود الجديد.

 

المؤثرات الخارجية والروائح
يحاول المولود الجديد جاهدًا، بالفطرة، جذب اهتمام الأم من خلال بكائه ورائحته المميّزة، إضافة إلى طريقة تعلّقه بها لدى حمله بين ذراعيها. فجميع هذه المؤثرات تتغلل عميقًا في جهازها العصبي لتدفع دماغها إلى درجة تركيز عالية.
والمعروف علميًا أن المؤثرات الحسية التي تنجم عن ملامسة الطفل وضمه والاستمتاع برائحته، تؤدي دورًا بالغ الأهمية على جميع الصعد. وهنا يجدر بالإشارة أن النساء يعتمدن عمومًا على الروائح منذ لحظة اختيار الشريك إلى حين التحضير للأمومة والاعتناء بالأطفال.
في هذا السياق، أجريت دراسات على الفئران باعتبار أن القدرات العلمية لا تزال محدودة نسبيًا في ما يتعلّق بإجراء الفحوصات على الدماغ البشري. ونتيجة ذلك، تمّ التأكد أن الدماغ يتمكّن من إحداث تغيير ذاتي عندما يتطلب البقاء ذلك، فخلال حمل الفئران مثلًا، عرف أن كتلة الأعصاب الشميّة، أي المتعلقة بالروائح، تبدأ بزيادة كميّة الخلايا العصبيّة التي تتيح للأم اكتساب معرفة فطرية، الهدف منها اكتشاف الدور الخفي الذي تلعبه روائح الأطفال على صعيد بقائهم. من أجل ذلك، تعتمد كتلة الأعصاب الشميّة على منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala) كوسيط يتلقّى المعلومات، ويحوّلها إلى مشاعر تقوّي الروابط بين الأم والطفل.

 

شجاعة وحذر
على صعيد دراسة الفئران، عرف أن الفأرة الأم تلتصق بصغارها إلى حد خشية تركهم من أجل التفتيش عن الطعام، مع ذلك فهي تغامر بذلك معرّضة نفسها والصغار للخطر. والسؤال المطروح كيف يحدث ذلك؟
حسب دراسة أجرتها مجلّة العلوم الأميركية بهذا الشأن، كشف الباحثون عن تغيرات بالغة الأهمية في تركيبة فروع الخلايا العصبية، التي تحمل الدفاعات الكهربائية إلى منطقة اللّوزة الدماغية. وهي تغيّرات تتيح للأم المغامرة بحذر شديد، وتحوّل خوفها على الصغار إلى شراسة تخوّلها الدفاع عن بقائهم. والأم كما هو معروف قادرة على استكشاف المستقبل من أجل حماية الطفل. وهذا يحصل نتيجة زيادة في حجم الكتلة الرمادية في الدماغ بعد الإنجاب. وتحصل هذه الزيادة في عدة مناطق دماغيّة في مقدّمها الجبهة الأمامية (pre frontral) من أجل تأمين مراقبة الطفل والتخطيط لمستقبله.

 

أفيون الأمومة
عندما يحين وقت الولادة، يتدفق هرمون الأكسيتوسين الذي يسهّل تقلّصات الرحم، ومن ثمّ هرمون البرولاكتين الذي يؤمن إنتاج الحليب. أما باقي الهرمونات التي تنهمر في هذه اللحظة الحاسمة، فتقدح زناد التغيرات الدماغية التي تواكبها. وقد لاحظ الباحثون تغيرات تتيح للمرأة الحصول على السعادة التي تغمرها في أثناء الوضع وبعده. كذلك لاحظوا وجود لاقطات عصبية أفيونية تساعد الأم على الاستمتاع بالرضاعة. وقد تمّ التقاطها في أدمغة الفئران التي تصاب بالإدمان، الأمر الذي يعيدها إلى الوكر مرّات عدّة من أجل إرضاع صغارها.
 

روابط أفضل
وتؤكّد الدراسات في هذا الحقل، أن التدفق المستمر للهرمونات الدماغية خلال الحمل وبعده، يساعد على نمو نتوءات صغيرة على الخلايا العصبية، وهي نتوءات شبيهة بأشواك الورود وتعرف باسم الفروع العصبية. هذه الفروع تزيد من مساحة الخلية مسهّلة المزيد من الترابط العصبي، وبالتالي التبادل السريع للمعلومات. إلى ذلك فهي تزيد من حدّة الذكاء، وتساعد على تحسين أداء الأم بشكل يعجز عن فهمه العقل البشري.
إن ولادة الطفل تحتاج إلى أم تسخّر جميع قواها للاعتناء به وتأمين راحته وبقائه.. على هذا الأساس تتولى الطبيعة تحصينها من أجل القيام بهذه المهمة. في هذا الإطار، يقف علم الأعصاب الأحيائي مذهولًا أمام ما يحدث. صحيح أنه استطاع إلى حدٍ ما كشف النقاب عن بعض الدوافع الطبيعية التي سبق وأشرنا إليها، مع ذلك لا يزال يعجز عن فهم اللحظة المعجزة التي تختصر الحدث برمته. إنها اللحظة التي تحمل فيها الأم الطفل بين ذراعيها وتلفه بالدفء والحنان، اللحظة التي تعبّر من دون كلام عن ألوهية ولادة طفل جديد.