قصة قصيرة

لأنّها أمّ
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

​إذا عرفتَ أنّ امرأة وَلَدَتْ طفلها ثم رمته بين أكياس القمامة التي تفوح منها رائحة عفن قاتلة ويحوم عليها الذباب وتلعب بينها الجرذان، ثم مضتْ لا تلتفت إلى الوراء كأنّ ما رمته كيس يحتوي قشر موز وبطاطا ومحارم قذرة لا طفل من لحم ودم يتنفّس ويخبط الهواء بيديه ورجليه ويبكي، إذا عرفتَ هذا، قلتَ: «إن هذه ليست أمًّا من صنف البشر، لكن من صنف الحيوان».

​وإذا قالوا لك: «إنّ أمّا تركت زوجها وتبعت عشيقها غيرَ قلقة على أطفال لها ما زالوا يحتاجونها إلى جانبهم، وقضت عمرها لا تسأل عنهم أو حتى تراهم وتعرف ما حلّ بهم». إذا قالوا لك هذا، قلتَ: «إن هذه المرأة هي من فصيلة الجواميس ذات الأظلاف والقرون، لا الناس».

​لكن عندما تسمع حكايتي، يا صديقي، ستعرف أنك بحكمك هذا، قد قسوتَ على الجاموس وظلمتَ الحيوان. وإليك الحكاية:

​في ساعة سأم وضجر، جلستُ قبالة التلفاز، ورحتُ أقلّب الأقنية بجهاز التحكّم عن بُعد، من غير أن أستقرّ على واحدة، إلى أن بلغ بي المطاف محطّةً تعرض فيلمًا وثائقيًا عن الحياة البرية في أفريقيا. ولمّا كان مثل هذه الأفلام يستهويني، رفعتُ الصوت، واستقمتُ في جلوسي بعد اتّكاء، وفتحتُ عينيّ انتباهًا، وأصغيت.

​الفصل صيف. الحرّ شديد. والسهل الواسع أصفر قاحل. وفي ظلّ إحدى الأشجار القليلة كانت ثلاثة أشبال جائعة عطشى تتمدّد حول أمّها، وتنظر إليها بعيون تسأل عن الطعام والماء. وكانت الأمّ هزيلة تُعَدّ أضلاعها واحدة واحدة، ما يدلّ على أنها لم تذق الطعام منذ أيّام. أما عيناها فتراقبان بيقظة واهتمام قطيعًا من النُو والحُمُر الوحشية يعبر السهل في رحلة طويلة إلى حيث يتوفّر الكلأ والماء.

​كانت اللبوءة تنظر إلى أشبالها الجياع حينًا، وتُجيل بصرها في القطيع العابر أحيانًا بحثًا عن طريدة منفردة تُمسك بها في محاولة واحدة، لأنها إذا فشلت، فقد لا تستطيع القيام بمحاولة ثانية. وربما كان في فشلها نهاية لها ولأشبالها.

​بعد طويل ترقّب وانتظار، لاحت أمامها بارقة أمل، عندما رأت جاموسة تمشي بعيدًا عن القطيع بضع عشرات من الأمتار، وإلى جانبها صغيرها الذي لم يبلغ أشُدَّه بعد.

​متخفّيةً بين الأعشاب العالية، راحت اللبوءة تتقدّم باتّجاه طريدتها لا مشيًا على قوائمها ولا زحفًا على بطنها، لكن بين هذا وذاك. وإذ أيقنت أنّ فريستها باتت في متناولها، جمعت كلّ قواها الباقية، وانطلقت. ولكن يا لها انطلاقة!! اللبوءة مصابة في إحدى قائمتيها الخلفيتين جرّاء معركة سابقة من أجل البقاء. لذلك كانت تقفز باذلةً جهدها كلّه، صابرة على شديد ألمها. لا تستطيع الآن أن تتراجع وتستسلم. المسألة مسألة حياة لأربع أرواح أو موت. إنها تريد الصغير لأنّها، بحالتها، لا تقدر على أمّه. لكنّ الأخيرة عندما رأت المفترسةَ تدنو بوثبات سريعة من صغيرها، استدارت وخارت، وقرّرت المواجهة بكلّ ما أوتيت من قوّة.

​انقضّت اللبوءة على الصغير الذي سمّاه المعلّق «نِيُو»، كما سمّى أمّه «نوتام». ولستُ أعرف لِمَ أطلق عليهما هذين الاسمين. ربما لأنهما قريبان من «نُو» اسم الفصيلة.

​غرزت اللبوءة أنيابها المحدّدة في قائمة «نيو» الخلفية. لكنّ الجاموسة استأسدت، ونطحت غريمتها بقرنيها الطويلين، ورمتها بعيدًا. فأعادت اللبوءة الكَرّة، وهاجمت من جديد. لكنّ هذه المرّة نصيبها كان ضربة ثانية بقوة، على بطنها؛ فارتمت على الأرض مضرّجة بدمائها. لوت رأسها، وأراحته على التراب المصطبغ بالأحمر. أما الأشبال فكانت تناديها، وتقفز في أمكنتها لا تبرَحها. أمّها علّمتها أن تنتظر حيث هي حتى تعود إليها بما يملأ بطونها الفارغة.

لكن عذرًا يا صغاري. هذه المرّة لن أستطيع العودة إليكم لإطعامكم، ولا حتى لأشمّ رائحتكم. من الآن فصاعدًا ستكونون وحدكم بانتظار مصيركم. ثم لفظت اللبوءة روحها وعيناها على أشبالها.

​دارت الجاموسة حول صغيرها، واحتفّت به. آه!! إنه ينزف. لكنّه قادر على الوقوف على قوائمه. نظرت حولها. القطيع ابتعد وغاب عن بصرها. الآن لا تعرف ما عليها فعله. أتبقى مع صغيرها في القفر وفي هذا موت محتّم لكليهما لأن الضواري ستحضر عاجلًا أم آجلًا؟ أم تلحق بالقطيع وتنجو بنفسها من الهلاك؟ لا. لن تفعل هذا ولا ذاك. هناك حلّ ثالث.

​قرّائي الأعزّاء. يقول العلماء: «إنّ الحيوان يتصرّف بدافع من غريزته لا عقله». لكني واللهِ لم أعرف بأيّ دافع تصرّفت هذه الجاموسة. من الآن فصاعدًا سأسمّيها باسمها: نوتام، لأن ما قامت به أثار عجبي، ولا يمكن أن يكون بفعل الغريزة فحسب. لقد مشت وئيدة الخطوة أمام صغيرها في مسار القطيع الذي غاب، لأنّها أدركت أن لا نجاة لهما إلا بانضمامهما مجدّدًا إلى هذا القطيع. ولما التفتت إلى الوراء ورأت الصغير يتبعها عن كثب، ولو بعَرَج، زادت السرعة قليلًا. وكلما كان «نيو» يتوقّف عن السير مرهقًا وينام، كانت نوتام تعود إليه، وتقوم بلحس رقبته وجبهته حتى يقف ويمشي من جديد.

​أرخى الليل سدوله، وادلَهَمَّ الظلام. ثم طلع القمر بدرًا على السهل الشاسع الذي أصبح خاليًا من أيّ هضبة أو شجرة تحجب الرؤية. سكون تامّ لا يعكّره سوى وقع سبعة أظلاف على الحصباء، وزئير سباع بعيد كلما تناهى إلى مسمعَي نوتام، ارتعدت فرائصها رعبًا. لكنها تابعت بشجاعة لأنها تريد النجاة لصغيرها. لأنها أمّ.

لو كانت نوتام أمًّا بشرية، لَبَكَتْ وهي تجتاز السهل في هذا الليل البهيم المخيف. لَحَزِنَتْ حتى الموت وهي تفكّر في أنّ زوجها تركها تعاني وحيدة، ومضى لمغازلة امرأة أخرى وأخرى. لكن ربما كان من حسن حظّ الحيوانات أنها لا تفكّر. محنة العقل والتفكير تختصّ بالإنسان وحده دون سائر المخلوقات.

​ومن حسن حظّ نوتام أنْ لا وحش مرّ في طريقها أو ضارٍ رآها. وبعد طويل صبر ومعاناة، أدركت وصغيرها القطيع الذي كان قد بلغ نهر «مارا» مع هبوط الظلام؛ فارتوى، وارتاح، ومكث عند الضفّة لا يجتازها إلى الضفّة المقابلة ما دامت العتمة تلفّ المكان.

​بحثتُ عن نهر «مارا»، فإذا هو نهر عظيم يمتدّ حوضه على مسافة طويلة بين كينيا وتنزانيا. هذا النهر بلغته نوتام عند بزوغ الفجر من دون إهدار دقيقة في الراحة، لأن الوقت كان ثمينًا جدًّا، ودقيقة واحدة قد تفصل بين الحياة والموت.

​عند الضفّة ارتمى نيو على الأرض إعياءً. أما نوتام، وعندما رفعت رأسها إلى العلاء وخارت ثم سقطت على الأرض لترتاح، فخِلْتُها امرأة نظرت إلى السماء، وشكرت الله لأنه نجّاها وصغيرها، ثم ارتمت على ركبتيها تسجد وتبكي.

​لم تطل راحة نوتام وابنها، لأنه ما مضت دقائق معدودات وأصبح بالإمكان تمييز الخيط الأبيض من الأسود، حتى هبّ القطيع من رقاده يريد عبور النهر إلى الجهة المقابلة، وقد اختار موضعًا تقلّ فيه المسافة بين الضفّتين تقصيرًا لزمن العبور، وتقليلًا لفرص التماسيح المتربّصة تحت سطح الماء. لكنّ السيّئ في هذا الموضع هو أن الضفّة المقابلة شديدة الانحدار، وعرة، وتكثر فيها الصخور.

​قفز القطيع إلى النهر مئات مئات. وكذلك فعلت نوتام. ولم يعُد يُرى في الماء إلا رؤوس طافية تتقدّم، وعيون تنظر يمنة ويسرة بخوف. ولكن سرعان ما خرجت التماسيح الجائعة، وانقضّت على ما كُتب له العمر القصير من الجواميس؛ فماجت المياه، وأرغت وأزبدت متحوّلةً إلى ساحة حرب، بل ميدان قتل لا رحمة فيه.

​عند صخور الضفّة احتشدت الجواميس تريد الخروج من الماء في أسرع وقت. الضعيف منها كان يأخذ بالتسلُّق ثم يسقط في الماء ليدوسه القويّ ويخرج. الخوار يشقّ أجواز الفضاء. والمشهد أشبه بمشهد جيش يقتحم آخر خطّ دفاع للعدوّ. القذائف تسقط على رؤوس الجنود. الألغام تنفجر تحت أقدامهم. لكن الأوامر واضحة: لا حركة إلى الوراء. لذلك سقط الكثيرون دون الحواجز، وقلّة عبروا سالمين.

​مئات الجواميس سقطت ميتة عند الصخور، وآلاف عبرت إلى برّ الأمان. وها هي نوتام تكاد تبلغ الضفّة في آخر موجة عبور. وقبل أن تضع قائمتها خارج الماء، نظرت إلى الوراء لتتأكّد من أن ابنها يتبعها. لكنها رأته ما زال واقفًا عند الضفّة حيث كان وقد تهيّب القفز إلى الماء المصطبغ بالأحمر. عادت أدراجها لحثّ صغيرها على اللحاق بها. ولما نادته، قفز وأخذ يسبح باتّجاهها. إنهما الآن وحيدان في النهر. كلّ يسبح باتّجاه الآخَر. ولما التقيا في وسط المسافة بين الضفّتين، شبّ من الماء، بلمح البصر، تمساح لم ينل نصيبه من الوليمة بعد، وأطبق فكّيه على عنق نوتام وشدّ نزولًا يريد إغراقها، فغرقت لثوانٍ، ثم جمعت قوّتها ورفعت رأسها، ونظرت إلى ابنها وخارت بقوّة كأني بها تصرخ به: «أهربْ وانجُ بنفسك». فأخذ نيو يجاهد باتّجاه ضفّة الخلاص. واستمرّ التمساح ممسكًا بعنق نوتام يُغرقها حينًا، وهي ترفع رأسها حينًا آخر، وتستدير لتبصر ابنها، وتتأكّد من أنّه بلغ الضفّة بسلام. ولما اطمأنّت عليه وكانت قواها قد تلاشت وخارت، استسلمت؛ فغار رأسها في اللجّة العميقة، وظهرت على السطح للتوّ فقاعات كبيرة من الهواء، ثم سكن كلّ شيء.

​انقضى النهار، وهجم الليل وساد الظلام. وعندما أطلّ الصباح وأشرقت الشمس، كانت صخور الضفّة مخفيّة تحت مئات الجواميس النافقة. قال المعلّق: «ولكن وسط هذا السكون الحزين وفي حضن الموت الرهيب، ثمّة قلب واحد يخفق». ثم تحرّك رأس لم يخرج له قرنان بعد، ووقف جاموس صغير على قوائم ثلاث. أما الرابعة فكان يرفعها عن الأرض اتقّاءَ الألم. هذا الصغير كان نيو.

​نظر نيو من حوله باحثًا عن أمّه. لكنه لم يجد إلا جثثًا باردة لا حياة فيها. شمّ كثيرًا منها. لكنه لم يعثر على رائحة أمّه. داس الجثث وتسلّقها إلى الحافة. وفوق وقف طويلًا ينظر إلى الماء تارةً وإلى اليابسة من حوله طورًا. لم يجد أمّه. لم يجد أحدًا. القطيع رحل قبل ساعات. إنه الآن يتيم ووحيد. لا أحد سواه في السهل. استدار، ومشى ضعيف الهمّة بطيء الخطوات.