إلى الأرض

لا تذمّر لا يأس بل عمل وأمل
إعداد: باسكال معوّض بو مارون

التكيّف مع متطلّبات الواقع أهم مبادئ الصمود في الأوقات العصيبة؛ وهذا المبدأ الذي تطبّقه قيادة الجيش مبتكرةً الحلول لمواجهة الأزمة، بدأ يجد تطبيقاته في مجال إسهام العسكريين في إنتاج قسم من الخضار التي يحتاجون إليها... المبادرة الأولى في هذا المجال أطلّت من بعلبك التي اشتهرت تاريخيًا بوفرة محاصيلها فأحد معابدها كان مكرسًا لـ«مركوريوس» إله الزراعة والخصوبة. هذه المبادرة التي انطلقت خلال الربيع الماضي ما لبثت أن امتدت لتشمل قطعًا أخرى. فها هو الفوج المجوقل المتمركز في غوسطا، يزرع مساحات واسعة في البقاع. وها هو لواء المشاة الخامس يستثمر نحو 73 ألف متر مربع بين صور والناقورة.

 

سواعد العسكريين المتأهبة دومًا لمواجهة الخطر تعمل اليوم على مواجهة الواقع الصعب. لا تذمر، لا يأس، بل عمل وأمل، ألم يُقل: أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام!

لواء المشاة السادس الذي تنتشر مراكزه من ثكنة الشيخ عبدالله وبريتال وحورتعلا مرورًا بيونين وشعث، وصولًا إلى اليمّونة ودار الواسعة، كانت له مبادرة سريعة في التكيّف مع الظروف. ويقول قائده العميد الركن جوني عقل «بعد صناعة الكمّامات والصابون ونفق التعقيم ومواده التي أمّنت للّواء حمايةً واكتفاءً ذاتيين في زمن الكورونا، ها هو التوجّه اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد إلى تأمين المواد الأولية التي يحتاجها عسكريو الجيش لتأمين معيشتهم».

بدأت الفكرة صغيرة من زراعة تعتمد الري «على النقطة» في الأراضي التابعة للّواء خصوصًا وأنّ غالبيتها تقع في مناطق خصبة. أما باقي الأراضي فتم تعزيزها بالتربة الحمراء لزراعتها، وتأمين قنوات لريّها. ويوضح العميد الركن عقل: «زرعنا الخضار من الخيار والبندورة والخس والفجل والقثاء والفليفلة والباذنجان... فصل الربيع يشهد سنويًا فورة زراعية، وقد وصلت هذا العام إلى لوائنا في مختلف مناطق تمركزه. فاكتست أراضينا بطبقة خضراء منسّقة تزخر بالخضار بمختلف أنواعها. مع حلول الشتاء كان اللواء قد جهز خيمة زراعية، وهكذا أتيح له أن يواصل انتاج الخضار والبقوليات. والتحضيرات حاليًا مستمرة لموسم جديد، ففي شباط يمكن زراعة مختلف الأنواع.

 

الخبرة والسواعد

ويتابع قائد اللواء: «فصلنا عددًا من العسكريين الضليعين بالزراعة لاستصلاح الأراضي في كل مركزٍ تابع للّواء. وتأمّنت الشتول من المشاتل المحيطة كهبات أو بأسعار تشجيعية من أهالي المنطقة. وهكذا بدأ المشروع الزراعي في أراضي اللواء لمدّ مطابخه بالمواد الأولية على مختلف أنواعها. وبذلك يكون مشروعنـا مفيـدًا علـى الصعيديـن المالـي والصحـي، خصوصًـا وأنّ زراعاتنـا عضويـة مئـة بالمئـة».

نتحدث إلى اثنين من العسكريين أوكل إليهما الاهتمام بزراعة نحو ألفي متر مربع من الأراضي في محيط قيادة اللواء بالمحاصيل المختلفة، يبدوان سعيدين بعملهما الإضافي خصوصًا مع البدء بجني الثمار: «جميل جدًا أن نستثمر خبرتنا الزراعية في خدمتنا العسكرية. نعمل صباحًا من السابعة حتى العاشرة، ثم مساءً من السادسة وحتى الثامنة».

العسكريان المزارعان يهتمان بالمزروعات ويحرصان على تغذيتها بالسماد الطبيعي، من دون استخدام أي مواد كيماوية، وكم يكون فرحهما عظيمًا حين يقومان بجني المحاصيل وإيصالها إلى مطابخ اللواء، ليتوافر بذلك غذاء صحي لعسكرييه.

 

القمح من صور!

ما هو الوضع في صور؟ وكيف تحولت مساحة جرداء إلى أرض معطاء تجود بمختلف أنواع الخضار؟ الجواب لدى لواء المشاة الخامس الذي يتمركز في قطاع جنوبي الليطاني بين منطقتي صور والناقورة. قائد اللواء العميد الركن إدكار لاوندس يخبرنا عن مشاريع زراعية في محلة الشواكير على الساحل، حيث تتمركز الكتيبة 54، على مساحة تقارب الـ73 ألف متر مربع.

فكرة استثمار الأرض للزراعة كانت وليدة الحاجة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد يقول العميد الركن لاوندس، ويضيف: العسكريون هم بمعظمهم أبناء قرى، ولديهم خبرة واسعة في مجال الزراعة. في المقابل، كان لدينا مساحات غير مستثمرة في مناطق انتشار اللواء، فقررنا استغلالها. قسمنا الأراضي إلى قسمين: 33 ألف متر مربع تمّت زراعتها بالخضار و40 ألفًا أخرى زرعت بالقمح. وقد تنوّعت المحاصيل الزراعية بين القمح والخس والملفوف والبقدونس والجرجير والباذنجان، ويذهب الإنتاج إلى النوادي العسكرية».

نجاح التجربة دفع القيمين عليها إلى تطويرها وفق العميد الركن لاوندس الذي يشرح: «خصصنا لكل قطعة من قطع اللواء بقعة من الأرض يهتم بها عسكريوها ويستثمرونها، كما شكلنا لجنة تشرف على حسن سير العمل وترشيد الاستفادة من المحصول الزراعي».

 

جنى المجوقل في مطابخ جبل لبنان

من صور إلى غوسطا، تكرّرت التجربة مع الفوج المجوقل الذي أخبرنا قائده العقيد الركن مارون بو هلّون عن المشروع الذي بدأ في غوسطا في حزيران الماضي، حين اقترح أحد الضباط حراثة ملعب كرة قدم في الثكنة وزراعته، نظرًا لعدم الاستفادة منه بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي جراء جائحة كورونا.

وفي الإطار نفسه قدمت لنا مؤسسة فارس فتوحي عرضًا لاستصلاح أرض (2500 متر مربع) وتتريبها وتمديد أنظمة الري الخاصة وزراعتها في الثكنة.

ويضيف العقيد الركن بو هلون: «تحمسنا للتجربة فكررناها في مركز انتشار الفوج في البقاع، على أرض للجيش مساحتها 20 ألف متر مربع. ثم استصلحنا وزرعنا 25 ألف متر مربع إضافية، لتصبح مساحة الأراضي المزروعة الإجمالية 45 ألف متر مربع.

تتنوّع مزروعات الفوج بحسب الموسم؛ فخلال الصيف جنى العسكريون مواسم الباذنجان، والبندورة، والخيار، والقثاء... أما حاليًا، فهم يجنون خيرات الأرض من الخس، والملفوف، والبروكولي، والقرنبيط والسلق. ويجري العمل وفق القواعد العلمية بإشراف المهندس الزراعي مروان حيدر والخبير الزراعي زياد خليل، وتسهم فيه مجموعـة من أصدقـاء الفـوج.

بدأت الفكرة محدودة لكنّها ما لبثت أن توسّعت، ومع زيادة مساحة الأراضي ووفرة المحاصيل، أصبح لمطبخ الفوج وعسكرييه حصة وازنة من الإنتاج. ومؤخرًا استطعنا تأمين الخضار لمطابخ جبل لبنان من محاصيلنا التي تضاعفت كثيرًا، لتبلغ خلال شهر واحد الألف كيلوغرام».

ويلفت العقيد الركن بو هلون إلى أنّ الفوج يدرس فرضية زراعة البطاطا في البقاع نظرًا إلى الحاجة الماسة إليها في المطابخ العسكرية.

إنّها خطوة مباركة تؤكّد سعي جيشنا لمواكبة الظروف والتخفيف من قسوتها عبر مبادرات تعتمد على جهود العسكريين وسواعدهم. مَن اضطرهم التقشف إلى الاستغناء عن اللحوم في وجباتهم، يقومون بواجبهم كاملًا، ويضيفون إليه واجبات أخرى انطلاقًا من الإحساس العميق بالمسؤولية، ومن التزام وطني لا تحدّه صعوبات أو مخاطر.