اقتصاد ومال

لبنان أصبح قدوة يحتذى بها في مجال مكافحة تبييض الأموال وما حققه خلال السنوات الأخيرة يعتبر إنجازاً قياسياً
إعداد: تريز منصور

د. بعاصيري: نأمل ولادة غافي الشرق الأوسط وشمالي افريقيا نهاية العام الحالي

استطاع لبنان بفترة زمنية قياسية عالمياً مدتها ثلاث سنوات (­2003-2000) تحقيق إنجاز هام، وهو حذف اسمه من لائحة البلدان والأقاليم غير المتعاونة مع مكافحة تبييض الأموال. وأبدى عزماً صارماً في توثيق التعاون الدولي، واصراراً على التقيد بتوصيات مجموعة “غافي”، وأفضل الممارسات في تطبيق التشريعات المتعلقة بهذا المجال. وحقق لبنان إنجازين هامين في العام 2003، وهما: إنهاء فترة المراقبة التي خضع لها، وإنضمام هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال فيه الى مجموعة “إغمونت”، مع إعتراف مجموعة العمل المالي بالتقدم الهام الذي أحرزه لبنان على صعيد الأنظمة الجديدة التي أقرها واتخاذ تدابير تطبيقية بموجبها.

 وقد اكتسب لبنان خبرة فريدة يستطيع العديد من البلدان الاستفادة منها لأغراض مكافحة تبييض الأموال، وتقوم هيئة التحقيق الخاصة بمحادثات عربية ودولية لإنشاء منظمة إقليمية (غافي الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا) على غرار منظمة “غافي” العالمية، وهي قد تبصر النور أواخر هذا العام. ومن شأن هذه المنظمة رفع الصوت العربي في المحافل الدولية، والمشاركة في صنع القرارات.

ما هي المراحل التي مرّ بها لبنان في مجال شطب اسمه عن اللائحة السوداء، وما هي الإنجازات التي حققها على هذا الصعيد...؟ أسئلة عديدة حملتها مجلة “الجيش” الى أمين سر هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال الدكتور محمد بعاصيري.

 

■ ما هي العوامل الرئيسية التي دفعت بمنظمة “غافي” الى وضع اسم لبنان على لائحة الدول غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال، وما هي المراحل التي قطعها لبنان لإجاز عملية الشطب؟

 ­ وضعت منظمة “غافي” اسم لبنان على لائحة البلدان والأقاليم غير المتعاونة مع مكافحة تبييض الأموال في 6 حزيران 2000 لأسباب عديدة أهمها، انه يعتبر مركزاً مالياً متقدماً في منطقة الشرق الأوسط، وهو لا يملك تشريعات قانونية لمكافحة تبييض الأموال. إضافة الى وجود السرية المصرفية، التي كانت تحول دون تمكن لبنان من التحقيق في عمليات تبييض الأموال، لا سيما وأن التحقيق في بعض العمليات بدا مستحيلاً.

 وهذه الأسباب مجتمعة، دفعت بـ”غافي” الى وضع اسم لبنان على ما يسمى باللائحة السوداء.

 والجدير ذكره هنا، أن جمعية المصارف اللبنانية كانت قد وضعت في العام 1998، إتفاقية الحيطة والحذر، والتي على أساسها كانت المصارف تقوم بإجراءات معينة تمكنها من معرفة هوية زبائنها وعملهم الأساسي، والتحقق من وجود أو عدم وجود عمليات تبييض أموال. وفي حالة الشك، يتم تبليغ جمعية المصارف، التي تعطي بدورها الإذن بإقفال الحساب. لكن هذه الاتفاقية لا تخوّل الجمعية أو المصرف القيام بالتحقيق الرسمي بأية عملية قد تخفي تبييض أموال.

 وأضاف الدكتور بعاصيري: “بعد إعلان اسم لبنان في اللائحة السوداء بذلت جهود حثيثة من قبل جميع المسؤولين، لا سيما من قبل سعادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي حثّ المسؤولين اللبنانيين على سن قانون يعنى بمكافحة تبييض الأموال، كما قام باتصالات مكثفة مع مجموعة “غافي” تهدف الى تجنب لبنان فرض عقوبات من قبل هذه المجموعة عليه.

 وبعد لقاءات عديدة بين مسؤولين في مجموعة “غافي” ومسؤولين لبنانيين وعلى رأسهم رياض سلامة، تمكّن لبنان. من عدم الوقوع ضحية فرض العقوبات، لأنه وعد بوضع قانون حضاري لمكافحة تبييض الأموال.

 وفي 20 نيسان 2001 صدر القانون 318، الذي يعنى بمكافحة تبييض الأموال، وعرّف في نصوصه ماهية جريمة تبييض الأموال، وتحدث عن العقوبات التي تفرض بحق مرتكبيها وحصر رفع السرية المصرفية بهيئة التحقيق الخاصة التي أنشئت بموجب القانون نفسه.

 

  ■ ما هي المهام الأساسية التي قامت بها هيئة التحقيق الخاصة بعد تأسيسها، وكيف تم شطب اسم لبنان عن اللائحة السوداء؟

 ­ بعد تأسيس هيئة التحقيق الخاصة وأمانة سرها، والقيام بمجموعة من التحقيقات الميدانية، زار وفد من منظمة “غافي” لبنان ولمس إلتزامه القوي في مجال مكافحة تبييض الأموال، وعزمه الصارم في مجال توثيق التعاون الدولي والتقيد بتوصيات مجموعة “غافي”، واطلع الوفد على تطبيق التشريعات الحديثة والمتطوّرة، وعندها اتخذت “غافي” قراراً قضى بحذف اسم لبنان من لائحة البلدان والأقاليم غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال، ولكنها أبقته ضمن مهلة المراقبة وهي سنة.

 ولقد شهدت سنة 2003 تطورات هامة في مجالات عديدة. ففي شهر تموز قبلت هيئة التحقيق الخاصة في عضوية مجموعة “اغمونت” ­ وحدة الإخبار المالي، وذلك في أثناء الجلسة العامة الحادية عشرة التي عقدتها المجموعة في مدنية سيدني ­ أستراليا.

 وفي 3 تشرين الأول 2003، وبعد أن قام فريق المراقبة المعني بمنطقة أفريقيا والشرق الأوسط بدراسة ميدانية لنظام مكافحة تبييض الأموال في لبنان، عقدت “مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال “غافي” جلسة عامة في ستوكهولم وقررت، في ما يتعلق بلبنان، انهاء مرحلة المراقبة، التي تلي عادة حذف اسم البلد المعني من لائحة البلدان والأقاليم غير المتعاونة. ولا شك في ان انهاء هذه المرحلة وقبول لبنان في عضوية مجموعة” أغمونت” هو خير دليل على متانة النظام اللبناني لمكافحة تبييض الأموال وعلى المكانة المهنية التي بلغتها هيئة التحقيق الخاصة.

 من جهة أخرى أقرّ مجلس النواب اللبناني التعديلات المقترحة على القانون رقم 318 لا سيما بعد أحداث 11 أيلول، لتسهيل الملاحقات القضائية وزيادة فعاليتها، ولحظ تمويل الإرهاب والمساهمة في الأعمال والمنظمات الإرهابية كجريمة فعلية.

 وعدّل مصرف لبنان التعميم رقم 83 للمرة الثانية في غضون سنتين، وذلك بالاستناد الى اقتراحات هيئة التحقيق الخاصة، التي أصدرت بدورها تعميماً جديداً حددت بموجبه الحد الأدنى لمتطلبات “إعرف عميلك”، خصوصاً في ما يتعلق بالعملاء الذين فتحوا حساباتهم المصرفية قبل صدور القانون رقم 318.

 ووضعت هيئة التحقيق الخاصة برنامجاً متطوّراً يدعى “نظام إبلاغ المعلومات عن بعد” الذي يتيح التبادل السريع للمعلومات بين مختلف الهيئات المعنية، ما أدى الى ارتفاع عدد التقارير عن المعاملات المشبوهة التي أبلغت الى هيئة التحقيق الخاصة، من قبل الشرطة والجمارك.

 ولا بد من الإشارة هنا الى التنسيق الحاصل بين مختلف الأجهزة اللبنانية المعنية بمكافحة تبييض الأموال، والذي ازدادت فعاليته وقطع شوطاً بعيداً منذ إنشاء وحدة لمكافحة تبييض الأموال لدى كل من الشرطة والجمارك. كذلك لا بد من التنويه بالدور الذي قامت به لجنة التنسيق الوطنية.

 وتابع د. بعاصيري حديثه عن نشاط الهيئة وقال: “وفي خطوة أوصلت بها نشاطها الى خارج الحدود، قامت هيئة التحقيق الخاصة بتدريب موظفين معنيين بمكافحة تبييض الأموال في بلدان مجاورة، كما قدمت مشورتها بشأن القوانين الجديدة التي أصدرتها هذه البلدان بشأن مكافحة تبييض الأموال. وعلى الصعيد الدولي، تعزز التعاون بين الهيئة اللبنانية والهيئات المماثلة الأجنبية. ولقد شاركنا كمتحدثين في مؤتمرات عالمية عن تجربة لبنان في مجال مكافحة تبييض الأموال وعن خروجه بفترة قياسية من اللائحة السوداء، لا سيما في واشنطن ومونتريال وريو دو جينيرو وأبوظبي وعمّان ودمشق ومصر...

 

  ■ كيف توصلت الهيئة الى حذف اسم لبنان من اللائحة السوداء، مع المحافظة على السرية المصرفية التي هي من خصوصيات العمل المصرفي اللبناني، والتي كانت أيضاً سبباً أساسياً وراء وضع اسم لبنان في اللائحة؟

 ­ إن دور السرية المصرفية الحفاظ على المال النظيف وليس المال القذر. كما وان القانون 318 لا يتعارض على الاطلاق مع قانون السرية المصرفية، وقد حصر رفع السرية المصرفية، كما ذكرنا سابقاً، بهيئة التحقيق الخاصة. وهناك مستلزمات وشروط قانونية واجب توافرها لدى الهيئة من أجل رفع السرية المصرفية في أي حال من الأحوال. ومن هذه الشروط مثلاً، أن الشبهة يجب أن تكون مؤكدة، وعلى الهيئة إجراء التحقيق الميداني قبل اتخاذ أي قرار.

 ولقد أكدنا لـ”غافي” أن لبنان جدي في عمله، وأن قانون السرية المصرفية هو فقط لحماية الأموال النظيفة، وأنه هام جداً بالنسبة للبنان، لأنه العامل الأساسي لاستقطاب رؤوس الأموال الخارجية سواء كانت لبنانية أم أجنبية. كما أننا أثبتنا أن هيئة التحقيق الخاصة تلتزم بمعايير “غافي” التي تنص على 40 توصية عامة و8 توصيات خاصة صدرت أعقاب أحداث 11 أيلول.

 

  ■ أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خلال ندوة إقليمية حول مكافحة تبييض الأموال، أن لبنان اكتسب خبرة فريدة تستطيع العديد من البلدان الاستفادة منها لأغراض مكافحة تبييض الأموال. كيف يتم ذلك؟

 ­ لقد نظمت الهيئة ندوة خاصة بمكافحة تبييض الأموال، بالتعاون مع معهد الاستقرار المالي التابع لبنك التسويات الدولية، وهي تعقد للمرة الأولى ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي، ضمّت هذه الندوة 26 بلداً من بينها: تركيا، أرمينياً، باكستان وايران. وكان من أبرز المتحدثين فيها أعضاء من البنك الدولي وبنك التسويات الدولية ووزارة المالية الأميركية...

 ولقد أكد الحاكم في كلمته أن خبرة لبنان في مجال مكافحة تبييض الأموال أصبحت قدوة يحتذى بها عالمياً، لأسباب عديدة أهمها، وضع تشريعات ممتازة وتطبيها بدقة لامتناهية. ولقد لمس المسؤولون في “غافي” خلال زياراتهم الى لبنان، عمل الهيئة المتطوّر جداً، فأكدوا أنه يرقى الى مستوى أفضل الأجهزة الحكومية في العالم.

 والجدير ذكره هنا أن لبنان وقع مذكرات تفاهم وتبادل معلومات مع دول متقدمة مثل أوستراليا وبلجيكا وفرنسا وتايلاند وموناكو...

 

  ■ الى أي حد تستطيع الجهود المبذولة في مجال مكافحة تبييض الأموال تعزيز الاستثمار الأجنبي في لبنان وتدفق رؤوس الأموال الخارجية؟

 ­ من دون أدنى شك، أن رؤوس الأموال الخارجية، تأخذ بعين الاعتبار المناخ السياسي والاقتصادي والوضع المصرفي والتشريعات. ويمكنني التأكيد أن تأثيرات هذه الجهود جاءت إيجابية جداً وكبيرة على لبنان، بحيث إننا لمسنا هذا الأمر، من خلال إرتفاع نسبة الودائع المصرفية الأجنبية والتحويلات الخارجية.

 

  ■ هل من المؤكد أن الساحة اللبنانية لا تشهد عمليات تبييض أموال حالياً، وهل يمكننا الاطمئنان من أنه لا توجد أمامنا عقبات أو تحديات مستقبلية في هذا المجال؟

 ­ إننا نعترف بالتحديات التي سنواجهها في المستقبل، باعتبار أن مرتكبي عمليات تبييض الأموال لن يكفوا عن تطوير أحدث الوسائل، الأمر الذي يعرض الأنظمة النافذة ووسائل المكافحة المالية لتحديات جديدة. لذا، علينا أن نتعهد بتكريس وقتنا ومواردنا لهذه المهمة، لا سيما الموارد البشرية، وأن نستعد دوماً لتحديث الأنظمة عند الحاجة.

 أما على صعيد حصول عمليات تبييض أموال في لبنان اليوم، فإن الهيئة قامت بعمليات تحقيق عديدة مستندة الى معلومات جاءت من مصادر داخلية وخارجية، وتبيّن لنا، بأن لبنان لا يشهد قياساً مع الخارج أية حركة ناشطة أو ملحوظة في مجال تبييض الأموال. علماً ان حجم عمليات تبييض الأموال يقدر في العالم ووفق إحصاءات صندوق النقد الدولي، بحدود 5-3 من الناتج القومي العالمي الذي يصل الى 1.5 تريليون دولار أميركي (1000 مليار دولار أميركي).

 

 ■ هل من مشاريع مستقبلية؟

 ­ هناك مشروع قيد الدرس، يصب في خانة إنشاء منظمة إقليمية (غافي الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا)على غرار مجموعة “غافي” العالمية. ولقد قمنا بمحادثات غير رسمية جرت في ستوكهولم بشأن ذلك، وقد حضر الاجتماع مسؤولون من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة “غافي”، بالإضافة الى ممثلين عن مجلس التعاون الخليجي وبلدان عربية أخرى، علماً أنه يوجد خمسة منظمات اقليمية في العالم على غرار “غافي” في أميركا الجنوبية، والكاريبي، وأفريقيا، ونيويورك وآسيا.

 وفكرة تأسيس هذه المجموعة، نشأت مستندة على خبرتنا في الدول العربية في مجال مكافحة تبييض الأموال، والتي تدفعنا للتعاون على إيصال الصوت العربي الى المحافل الدولية ومعالجة خصائص المنطقة، وأن لا نكون بعد اليوم في موقع المتلقي، لأنه يمكننا حضور كل اجتماعات “غافي” بصفة مراقب ومتكلم ومناقش.

 ونأمل بأن تتم ولادة هذه المجموعة قبل نهاية العام 2004، ولكن مقرها لم يحسم لغاية اليوم بين لبنان والبحرين.

 

هيئة التحقيق الـخاصة

 وتضم هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال الى رئيسها حاكم مصرف لبنان السيد رياض سلامة، أربعة أعضاء هم: أمين السر الدكتور محمد بعاصيري، رئيس لجنة الرقابة على المصارف السيد وليد علم الدين (عضواً)، القاضي شبيب مقلّد (عضواً)والأستاذ جوزف أنطكلي (عضواً معيّناً من قبل مجلس الوزراء).