مئوية

لبنان الكبير: فصل من مسيرة نضال اللبنانيين
إعداد: ليال صقر الفحل

يفيدنا التاريخ بأنّ مصير البلدان الصغيرة غالبًا ما يكون عرضة للتحكم به من قبل الدول الكبرى التي تبني مواقفها وفق مصالحها. لكن التاريخ يفيدنا أيضًا بأنّ الشعوب تستطيع التأثير في المعادلات الدولية عندما تمتلك إرادة وطنية جامعة. في ما يأتي قراءة مع البروفسور أنطوان حكيّم في فصل من نضالات اللبنانيين في سبيل استقلالهم وحريتهم. إنّه الفصل الذي يروي مسيرة انتقال لبنان من نظام المتصرفية إلى دولة لبنان الكبير.

 

عندما نتكلّم عن لبنان الكبير، نعني لبنان بحدوده الحالية، مقارنةً مع حدوده في ظل نظام المتصرّفية أو البروتوكول الذي وُلد بعد الأحداث الدامية التي عصفت بالجبل اللبناني في العام 1860. وأُقر هذا النظام بالاتفاق مع الدول الخمسة الكبرى، واستمرّ العمل به حتى العام 1915، حين ألغاه جمال باشا وأخضع المتصرّفية للحكم العثماني المباشر.

كانت حدود لبنان في أيام المتصرفية محصورة بالمناطق الجبلية من السلسلة الغربية، إذ سُلخت السهول والمرافئ عن الجبل بإصرارٍ من ممثّلي الباب العالي. اتّبع الأتراك هذه السياسة للتضييق على سكان لبنان وإرغامهم على الهجرة بسبب تطلّعاتهم الاستقلالية وحُسن علاقتهم بالغرب.

ويوضح البروفسور حكيّم أنّ سكان المتصرفية لم يتوقفوا عن المطالبة بتوسيع الحدود، وضمّ سهل البقاع والمدن الساحلية إلى الجبل. وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى بسنتَين، توتّرت العلاقة بينهم وبين الباب العالي واستمر هذا التوتر حتى نهاية الحرب. بعد وصول الاتحاديين إلى الحكم في العام 1908، وإعادة العمل بالدستور، استبشر سكان الولايات العربية وسكان لبنان خيرًا، لكن سياسة التتريك التي اعتمدتها الحكومة الجديدة والهزائم التي مُنيت بها السلطنة بعد حرب ليبيا والبلقان، جعلت السكان العرب ينفرون من حكم الأتراك.

في هذه الأجواء، نشطت الجمعيات العربية (في بيروت ودمشق والقاهرة وبلاد الاغتراب) التي طالبت بالحقوق السياسية واللامركزية الإدارية واعتماد اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب التركية، وتعديل النظام الضريبي ونظام الخدمة العسكرية.

برزت حركة مطلبية في المتصرفية وفي أوساط الجاليات في بلاد الاغتراب، ركّزت هذه الحركة على: توسيع الحدود، حق امتلاك لبنان مرافئ خاصة به، إقامة محكمة تجارية في الجبل، وإنتاج التبغ والملح وتصديرهما من دون إخضاعهما لنظام الاحتكار المعمول به في السلطنة.

في تلك الحقبة، بلغ النفوذ الفرنسي في المتصرفية ذروته، على المستويَين العثماني والدولي، كانت فرنسا تُعد المرجعية الأولى لكل ما له علاقة بالشأن اللبناني. إذ كان سفيرها في إسطنبول يفاوض الباب العالي باسم الدول الموقّعة على البروتوكول لاختيار المتصرّفين أو لإدخال تعديلات على النظام اللبناني، لكن الاتحاديين امتعضوا من هذه الهيمنة الفرنسية.

بعد نشوب الحرب في أوروبا في تموز 1914، أعلنت حكومة إسطنبول النفير العام الذي أحدث قلقًا في الولايات العثمانية كافة وفي لبنان (على الرغم من أنّه لم يكن يطاله بسبب نظامه الخاص)، وأطلقت فورًا معاملات التجنيد الإجباري.

دخلت السلطنة الحرب رسميًا إلى جانب دول المحور في 22 تشرين الثاني 1914، وأرسل جمال باشا (القائد العام للجيوش العثمانية في المنطقة) فوجًا من جيشه للتمركز في لبنان، خارقًا بذلك نظام البروتوكول. وفي أيلول 1915، ألغت الدولة العثمانية هذا النظام، وحوّلت لبنان إلى لواء مرتبط مباشرة بوزارة الداخلية.

لتضييق الخناق على اللبنانيين، فرض جمال باشا حصارًا تموينيًا على الجبل، ما أدى إلى هلاك ثلث سكانه جوعًا. وبموجب مراسلات ماكماهون - الحسين 1915 - 1916، استُثنيت المنطقة الساحلية ومن ضمنها متصرّفية جبل لبنان من الأراضي التي وعد الحسين بحكمها. وفي اتفاق سايكس - بيكو في العام 1916، وُضعت تلك المنطقة (باستثناء فلسطين) مباشرةً تحت الإدارة الفرنسية. وبعد انسحاب العثمانيين من بلادنا في أيلول 1918، باتت في عهدة حكام عسكريين فرنسيين.

 

إعلان دولة لبنان الكبير

انعقد مؤتمر الصلح في باريس في كانون الثاني 1919، لإعادة درس خريطة العالم بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى (الألمانية، النمساوية، الهنغارية والعثمانية). أرسل اللبنانيون ثلاثة وفود إلى هذا المؤتمر للدفاع عن استقلال لبنان عن البلدان المجاورة والمطالبة بتوسيع حدوده، وكان من أهم تلك الوفود، الوفد الثاني الذي ترأسه البطريرك الحويك. عقد المجلس الأعلى للحلفاء مؤتمرًا في سان ريمو في إيطاليا في نيسان 1920، وُزّعت فيه الانتدابات على الأراضي العثمانية المحتلة، فأوكل إلى فرنسا انتداب سوريا ومن ضمنها لبنان، فيما أوكل إلى بريطانيا انتداب فلسطين والعراق.

بعد سان ريمو، توتّرت العلاقات بين الداخل السوري (الذي كان يحكمه فيصل ابن الملك حسين شريف مكّة) وبين الفرنسيين المسيطرين على المنطقة الساحلية، فوقعت معركة ميسلون في تموز 1920 وبنتيجتها دخل الفرنسيون دمشق. وأعلن المفوّض السامي الفرنسي الجنرال غورو في أول أيلول 1920 إنشاء دولة لبنان الكبير بحدوده الموسّعة. وكان الإعلان من على درج قصر الصنوبر في بيروت، وإلى جانب غورو البطريرك إلياس الحويك والمفتي مصطفى نجا.

 

النزعات الاستقلالية في جبل لبنان خلال عهد المتصرّفية

يتحدث حكيّم عن النزعات الاستقلالية في جبل لبنان خلال عهد المتصرفية، وقد تجلت في عدّة مواقف فيقول: بعد الانقلاب الذي قام به الاتحاديون على السلطان عبد الحميد في العام 1908، أعادوا العمل بدستور مدحت باشا، واعتبر بعض اللبنانيين أنّ مبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي نادى بها الدستور ستعود بالخير على سكان السلطنة كافةً، وبخاصةٍ على اللبنانيين، ودعوا إلى إجراء انتخابات نيابية لتشكيل مجلس الأمّة المعروف بـ«مجلس المبعوثان». وطُلب حينها من اللبنانيين أن ينتخبوا أربعة نواب لتمثيلهم فيه.

أرسل المتصرّف يوسف باشا إلى الأقضية مأمورين لكي ينظّموا عملية الانتخاب. انقسم اللبنانيون إزاء الموضوع إلى فريقَين. قَبِل قسم منهم المشاركة في الانتخابات، فيما رفضت الأكثرية ذلك.

كان معارضو المشروع كُثرًا، قِسم منهم من عامّة الشعب، وقسم يمثّل أحزابًا سياسية كحزب الجامعة اللبنانية الذي وضع مذكّرة احتجاج، أصرّ فيها على عدم مشاركة اللبنانيين في انتخاب «مجلس المبعوثان»، لأنَّ ذلك يُعد خرقًا لامتيازات المتصرّفية. قُدّمت المذكّرة إلى الباب العالي، وإلى ممثّلي الدول الموقّعة على البروتوكول. فأتى موقف مجلس الإدارة متأرجحًا، فبعد أن كان عدد من أعضائه يميل إلى القبول، عاد المجلس وجارى الأكثرية الشعبية الرافضة. وفي شباط 1919، أصدر مجلس الإدارة قرارًا أوضح فيه أنَّ الأهالي لا يرغبون في انتخاب نواب يمثّلونهم في «مجلس المبعوثان»، لذا يتراجع المجلس عن دعمه المشروع.

على الصعيد الدولي، موقف الدول الموقعة على البروتوكول (لا سيما موقف فرنسا) تميّز بكثيرٍ من الليونة، وتصدّت بريطانيا وحدها للمشروع خوفًا من أن يُطلب من مصر أن تنتخب هي أيضًا نوّابًا لـ«مجلس المبعوثان».

 

الهوية اللبنانية

في ما خص الهوية اللبنانية، أوضح حكيّم أنَّه في عهد القائمقاميّتَين، فُرض على الذين يرغبون في التجوّل داخل الأراضي العثمانية الحصول على تذكرة مرور، وبَقي هذا الإجراء معمولًا به حتى ولادة المتصرفية. في العام 1869، أنشأت السلطات العثمانية جهازًا خاصًا لإصدار جوازات السفر للراغبين في الخروج إلى بلدان أخرى، وكان لهذا الجهاز فرعٌ في مركز المتصرفية يحمل اسم: « قلم التذاكر والباسبور». وبعد أن سُمح للبنانيين بالسفر من مرفأَي جونية والنبي يونس، أُنشئ في المتصرّفية في العام 1914 قلم المهاجرة، للحصول على جواز سفر عثماني للّبنانيين الراغبين في السفر إلى الخارج. أما التنقُّل داخل ولايات الدولة فظلَّ خاضعًا لتذاكر المرور، لكنّ اللبنانيين القاطنين بصورةٍ دائمة خارج المتصرفية، كانت تُفرض عليهم الضرائب المعتمدة في مكان إقامتهم، ويخضعون للخدمة العسكرية إن لم يثبتوا هويتهم اللبنانية.

في مطلع القرن العشرين، أراد المتصرف مظفّر باشا أن يعطي اللبنانيين الذكور تذكرة هوية باسم الحكومة اللبنانية، لكنّ الباب العالي تصدّى للمحاولة وأرغم المتصرّف على التراجع. في موازاة ذلك، قرّر الاتحاديون بعد وصولهم إلى الحكم إلغاء تذاكر المرور داخل السلطنة، والاستعاضة عنها بتذاكر نفوس عثمانية.

لم يتهافت اللبنانيون للحصول على تذاكر الهوية العثمانية إذ رفضها علنًا المقيمون في المتصرفية. في المقابل، طالب بها الموجودون في الولايات العثمانية لأنّها تحميهم من التجنيد الإجباري ومن الضرائب. وفي النهاية وبناءً على اقتراح البطريرك الماروني الياس الحويّك، اعتُمد حل وسط إذ جُعل الحصول على تذكرة الهوية العثمانية اختياريًا لا إلزاميًا. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 وإعلان النّفير العام، تعرّض اللبنانيون المقيمون في الولايات المجاورة لملاحقة القيّمين على التجنيد الإجباري، فقرر المتصرف أوهانّس باشا تزويد كل من يرغب من اللبنانيين تذكرة هوية لبنانية تُثبت أصله اللبناني وتحميه من ملاحقة العثمانيين له.

 

بعظمته وكنوزه

عندما أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير ألقى خطابًا شهيرًا قال فيه: «أعلن لبنان الكبير، وباسم الجمهورية الفرنسية أحييه بعظمته وكنوزه، من النهر الكبير إلى أبواب فلسطين، إلى قمم لبنان الشرقية».