وجهة نظر

لبنان.. سوريا.. العراق.. الخليج.. حيث تجد النفط... تجد النسر الأميركي
إعداد: جورج علم

لا توفّر الجغرافيا استقرارًا مطلقًا، إنّها مطمح الغزاة والفاتحين، كونها مورد الرزق والثروة. والجغرافيا لا تستقّر حيث البراكين المشتعلة. الشمال السوري خير برهان، إلاّ أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يهوى المجازفة، ويعشق الذهب الأسود، وحيث تكون الفريسة تحوم النسور. قال في خطاب القسم إنّه سيجعل منابع الطاقة تحت السيطرة. فعلها في فنزويلا، وقبلًا في الخليج. أكّد في غير مناسبة أنّه جاء من «نادي المال والأعمال»، هدفه الأول تفعيل الاستراتيجيّة الأميركيّة المرسومة تجاه الشرق الأوسط: «النفط، الممرّات الآمنة، وأمن إسرائيل». وأضاف عليها جورج دبليو بوش بند «محاربة الإرهاب»، بعد سقوط البرجَين في نيويورك في ١١ ايلول ٢٠٠١.


كان الإرهاب «الهواء الأصفر» الذي اخترعه العقل المخابراتي ليقتلع بأعاصيره السدود، ويغيّر الحدود. كانت البداية في أفغانستان، ثم العراق، قبل أن تنتشر العدوى في الإقليم. لم يكن هدف «حملة بوش» اقتلاع ديكتاتورية صدام حسين، بل السيطرة على آبار كركوك، والأنبار. لم يكن ترامب مفتونًا بدير الزور، بل أرسل قواته في ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٧ للسيطرة على حقل «العمر» النفطي، بواسطة «قوات سوريا الديموقراطية – قسد»، تحت شعار «تمكينها من محاربة داعش». مَن اخترع «داعش؟!».
كان ريكس تيلرسون منهمكًا في إدارة شركة Exxon Mobil عندما اختاره ترامب وزيرًا للخارجية. أُسندت إليه مهمة «تطوير حقول النفط في المناطق التي تموضع فيها الجيش الأميركي في سوريا». لم يعمّر «الزواج المصلحي» طويلًا. ترامب نَهِم، يريد النتائج سريعًا، تيلرسون هادئ، يريدها بأفضل المعايير والمواصفات، وبأقل الخسائر، ولو استغرق الأمر بعض الوقت، فحصل الطلاق.

 

قرار وعودة عنه
بعد سنوات، انهار الإرهاب، انتهت الحملة الأميركية بالقضاء على «داعش»، اتّخذ ترامب قراره المفاجئ بالانسحاب في ١٩ كانون الأول ٢٠١٨، برّر موقفه: «كان يُفترض أن تكون الولايات المتحدة في سوريا لمدّة ٣٠ يومًا، كان ذلك قبل عدة سنوات، لكنّنا بقينا وتدخّلنا في معركة من دون هدف في الأفق»، مضيفًا: «سنقاتل في المكان الذي يتعلّق بمصالحنا، وسنحارب فقط من أجل الفوز». قراره هذا أثار ريبة داخل «الكونغرس»، وبلبلة واسعة في صفوف جنرالات «البنتاغون»، وأحدث صدمة لدى وزارة الخارجية. استغل «البنتاغون» لغة المصالح التي يحبّذها الرئيس. تروي «النيويورك تاميز» الآتي: «رأى الجنرال مارك ميلي رئيس أركان الجيش ضرورة ثنيه عن هذا القرار متّبعًا في ذلك نهجًا مختلفًا مع رئيس تتغيّر آراؤه بين الساعة والأخرى، فعمد إلى مخاطبة خلفيّة ترامب التجارية للحيلولة دون سحب القوات الأميركية والتراجع عمّا أصدره، ومن أجل هذه المهمة، ذكر له الجنرال الأميركي أنّ حقول النفط السورية إذا تُركت من دون حماية فقد تعود من جديد تحت سيطرة تنظيم «داعش»، أو إلى دول مناوئة لواشنطن كإيران، وروسيا». اقتنع ترامب، وعندما استقبل الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان في المكتب البيضاوي (تشرين الثاني) أعلن أمامه أنّ «البنتاغون أقنعنه بالعودة عن قرار الانسحاب».

 

الأهداف تتعدى النفط
يرى مركز البحوث Global Research أنّ حماية آبار النفط ليست الهدف الوحيد، هناك أهداف أخرى للانتشار الأميركي في بعض الشمال السوري، بينها:
- استعداد الرئيس الأميركي لحملته الانتخابية نهاية العام المقبل، انطلاقًا من «الانسحاب من الحروب غير المنتهية في الشرق الأوسط»، لكن مع الحرص على «منابع النفط».
- البقاء عسكريًا لمواصلة الحرب ضد خلايا «داعش».
- عدم التخلّي بشكلٍ كامل عن «الحلفاء الأكراد».
- فرض الحضور الأميركي حول أي طاولة تفاوضية مع دمشق وموسكو تتصل بالعملية السياسية حول مستقبل سوريا بعدما بدأت اللجنة الدستورية أعمالها.
- مراقبة عملية «نبع السلام» التركية في الشمال السوري، ووضع النشاط التركي في سوريا تحت المجهر الأميركي، خصوصًا بعدما بدأت أنقرة الابتعاد عن الحلف الأطلسي (الناتو)، باتجاه «الشريك» الروسي.
- وضع معبر «البو كمال» الاستراتيجي تحت المراقبة من قبل قاعدة «التنف» لقطع خطّ الإمداد بين بيروت – دمشق – بغداد – طهران.
- توفير دعم استخباراتي لعملياتٍ عسكرية شرق سوريا، وغرب العراق.

 

فرنسا.. أوروبا
لم يهضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سياسة الرقص على حبال المصالح التي يجيدها ترامب. هيبة فرنسا على المحك، ومصالحها أيضًا، دعا إلى اجتماع طارئ للتحالف الدولي ضد «داعش» استضافته واشنطن منتصف تشرين الثاني الماضي في حضور وزراء خارجية ٣١ دولة. فجّر ترامب عشيّة انعقاده مفاجأتين: «ستبقى القوات الأميركية في جيب شمال شرق سوريا قرب حدود العراق لحماية النفط»، و«لن نتدخل في الحروب الطاحنة بين تركيا والأكراد شمال سوريا». الفرنسيون الموجودون على الأرض بأعدادٍ قليلة إلى جانب «المارينز»، طالبوا بضماناتٍ، فجاء الردّ من وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر «إنّ ٦٠٠ إلى ٨٠٠ جندي سيبقون في سوريا، لكن الأجواء تتغيّر، والأحداث على الأرض تتغيّر، يمكن أن نرى مثلًا شركاء وحلفاء أوروبيين ينضمّون إلينا. إذا انضموا إلينا على الأرض، فقد يسمح لنا ذلك بإعادة نشر مزيد من القوات هناك». لكن ماكرون لم يقتنع، يريد ضمانات موثوقة حول مردود زيادة المشاركة العسكرية الفرنسية، إن في حقول النفط، أو في «حقول» التسوية السياسية عندما تنضج المواسم، ويحين موعد القطاف.

 

الميدان العراقي
يحاول ماكرون أن يعوّض لفرنسا في الساحة السورية، ما خسرته في الساحة العراقية. عندما جرّد جورج دبليو بوش حملته العسكرية في ١٩ آذار ٢٠٠٣، ضد صدّام حسين، تخلّفت فرنسا عن اللحاق بالركب، فيما شاركت بريطانيا بقوةٍ، وكان للغياب الفرنسي عن «التورّط»، تغييب لمصالحه عن الساحة العراقية. ما يجري في العراق راهنًا «عرس دموي بزفّات كثيرة متنوعة»، يبدأ من مطالب شعبية معيشية اجتماعية محقّة، ويتدرّج نحو محاربة الفساد، وإنهاء صلاحيات الفاسدين، واستعادة الأموال المنهوبة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والديموقراطية الحقّة، والحكم الرشيد، لينتهي إلى تصفية حسابات المحاور المتصارعة في المنطقة على الساحة العراقية التي تشكل خط تماس ساخن ما بين الولايات المتحدة وإيران. ويبقى الثابت الوحيد، في خضمّ هذه الفوضى العارمة أنّ إدارة ترامب قد نصبت خيمة آمنة فوق حقول النفط في الأنبار، وكركوك، وعموم مناطق العراق، مستدركة، ومستفيدة من الفوضى، وعلى قاعدة «فَرّق تَسُد؟!».

 

لبنان
أما لبنان، «فربيعه جاء في عزّ تشرين». تدلّل «الواتساب» مطالبًا بشوفة خاطر، فامتلأت الساحات، واكتظّت الشوارع، وأقفلت الطرقات، وعلت الصيحات المطلبية المحقّة، وانشلّت المرافق العامة والخاصة في البلاد. إنّه «عرس جماهيري غير مسبوق، بألف زفّة وزفّة، على حافّة منزلق سحيق». أطلّ البابا فرنسيس من على شرفة الفاتيكان محيّيًا شباب لبنان، لكنّه نصحهم بالحوار. وأطلّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من على شرفته أيضًا، مشجّعًا، مبتهجًا... وأطلّ الموفد الفرنسي كريستوف فارنو من على شرفة قصر الصنوبر في بيروت، يدعو اللبنانيين إلى التعقّل قبل فوات الأوان. تزامنت زيارته مع اقتراب الموعد المضروب مع شركة «توتال» الفرنسية للمباشرة ببدء حفر أول حقل للنفط في المياه الإقليمية اللبنانية. رصدت السفارة الأميركية زيارة الموفد الفرنسي من «بابوجها حتى طربوشها»، ذكّرت زملاءها الأوروبيين، والغيورين الآخرين على مصالحهم في لبنان، بأنّ خرائط ترسيم الحدود النفطية مع إسرائيل لا تزال في عهدة ديفيد شنكر، وقبله ديفيد ساترفيلد، وقبله فريدريك هوف. إنّه النفط، وإذا كان من يعمل حقًا على عدم تحويل ربيع لبنان إلى خريف دامٍ، وساحة مفتوحة لتصفية حسابات المحاور، فعليه أن يتقن عملية ترسيم الحدود النفطية وفق الخرائط الأميركية... قبل فوات الأوان.
إدارة ترامب نصبت خيمة آمنة فوق حقول النفط في الأنبار، وكركوك، وعموم مناطق العراق، مستدركة، ومستفيدة من الفوضى، وعلى قاعدة «فَرّق تَسُد؟!».