وجهة نظر

لبنان في مواجهة الإرهاب.. لا يدافع عن نفسه بل يحمي أوروبا
إعداد: جورج علم

«الاستثمار في أسواق الدمّ القاني في الشرق الأوسط»
وافق لبنان الأمني والقضائي على الانخراط أكثر فأكثر في الاستراتيجية الأوروبيّة لمكافحة الإرهاب، ومطاردة المقاتلين الأجانب الذين يتدفقون من حوالى 12 بلدًا أوروبيًا للقتال في سوريا والعراق.
وتأتي هذه الموافقة بعد تعديلات جوهرّية أدخلها الغرب على استراتيجيته. لقد جاء بطائراته ومخابراته إلى كل من العراق وسوريا تحت شعار مكافحة الإرهاب، انطلاقًا من أن أمنه مستتب، واقتصاده في حركة نهوض، ومجتمعه على قدر كبير من الثقافة الديموقراطية. وإذ به يكتشف فجأةً بأن الألوف من شبابه يلتحقون بالجماعات المتطرّفة في الشرق الأوسط، ويشكّلون حالة ارتداديّة خطيرة ظهرت طلائعها في الاعتداء الذي استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، الأمر الذي دفع بالدوائر المختصّة إلى إعادة النظر في الإجراءات المتخذة، وإلى إدخال تعديلات جذريّة على السياسة المتبعة. وذلك وفق الآتي:
أولًا: تشديد الإجراءات الأمنية المتخذة لمراقبة حركة الحدود والمطارات والمعابر.
ثانيًا: مراقبة الخلايا النائمة ضمن البيئات الحاضنة في المجتمعات الأوروبيّة.
ثالثًا: مراقبة التحويلات المالية والمصرفية.
رابعًا: التشدد في مراقبة الفضاء الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي.
خامسًا: توسيع دائرة التعاون الاستخباراتي مع العديد من الدول والأنظمة، حتى تلك التي لا تبادل للتمثيل الدبلوماسي معها.
سادسًا: إعادة النظر بالدينامية المتبعة من خلال اجتماع دوري إلزامي كلّ شهر على مستوى الأجهزة لتقييم الموقف، واجتماعات طارئة كلما دعت الحاجة، ومراجعات مستمرة للإجراءات المتخذة، ومدى فاعليتها. فالإرهاب لم يعد على الأبواب، بل أصبح في صحن الدار، ولم يعد «الاستثمار في أسواق الدمّ القاني في الشرق الأوسط» عمليّة مربحة بعدما بدأ السحر ينقلب على الساحر.

 

دينامية نشطة.. وتحرّك مكثّف
خرجت المجتمعات الغربية على حكّامها وحكوماتها، تراجع بساط الانفتاح أمام مدّ التطرف، اختلّ الميزان الاجتماعي، ظهرت بواكير العنصريّة من جديد، وطفت على السطح عناوين جديدة يتناولها الإعلام الغربي، من اليمين المتطرف في فرنسا، إلى «النازيين الجدد» في ألمانيا، إلى «المحافظين القومييّن» في الدانماراك، هولندا، وسائر الدول الاسكاندينافيّة الأخرى. نزل الحكّام إلى الشارع، من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، إلى الرئيس البريطاني دايفيد كاميرون، وغيرهم لتهدئة الخواطر، والدفاع عن سياسة الانفتاح، وإقناع مواطنيهم بأن الإرهاب لا يقتصر على دين أو جماعة، لكن بعد فوات الآوان، لأن ثقافة قطع الرؤوس، وحرق البشر وهم أحياء قد أحدثت رعبًا، لا بل تحّولًا جذريًا داخل البيئات الاجتماعية الغربيّة، ستظهر نتائجهما عند أي انتخابات مقبلة قد تحصل في أي بلد أوروبي، وربما جاءت بمتطرفين، وبقومييّن متشددين إلى مراتب عليا.
كان الرهان على «الاستثمار في معاناة الآخرين، فتحوّل إلى الاهتمام بمنع الآخرين من الاستثمار في مجتمعاتهم». تغيّرت الثقافة، والمقاربات أيضًا، لم يعد الإرهاب مجرّد إعلان ترويجي تستخدمه الدول النافذة لتسويق مصالحها في المنطقة، بقدر ما أصبح عبئًا على الغرب يفرض ثقافته على حساب الديموقراطيّة والانفتاح والتنوع.

 

ورشة عمل لبنانيّة – أوروبيّة
وسط هذا المناخ من تعبئة الجهود واستنفار الهمم، استضافت بيروت في الآونة الأخيرة ورشة عمل أوروبيّة – دولية حول مكافحة الإرهاب، شارك فيها عدد من كبار المسؤولين من وزارة الدفاع الوطني – قيادة الجيش، ووزارات الخارجيّة والمغتربين، والعدل، والداخلية والبلديات، والمديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي، والمديرية العامة للأمن العام، والمديرية العامة لأمن الدولة، وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. وشارك عن الجانب الأوروبي منسّق سياسات مكافحة الإرهاب جيل دو كورشيف، وممثلون عن جهاز العمل الخارجي الأوروبي، والجهاز العسكري للاتحاد، وسفراء وممثلون عن الدول الأعضاء فيه.
عقدت هذه الورشة عقب اجتماع مجلس وزراء الخارجيّة الأوروبييّن في 9 شباط، وكذلك عقد اجتماع رؤساء الحكومات والدول في 12 منه، ونجمت عن الاجتماعين قرارات تتناول مكافحة الإرهاب بشقين: داخلي يشمل الاتحاد الأوروبي، وخارجي يعكس الرغبة السياسيّة التي أبدتها المفوضة العليا للشؤون الخارجيّة والأمن في الاتحاد فريدريكا موغريني في انخراط الاتحاد الأوروبي أمنيًا أكثر فأكثر في جواره المباشر. وهذه الرغبة تترجم عمليًا في تأسيس شركات أمنية وأخرى لمكافحة الإرهاب بالتعاون مع دول المتوسط، ومن ضمنها لبنان.
وكان الغرض الأساسي من ورشة العمل التشديد على أهميّة بيروت الخاصة في تنفيذ هذه السياسة انطلاقًا من التوجه الأوروبي إلى تعزيز مناعة لبنان، ومساعدته في تحمّل تداعيات الأزمة في كلّ من العراق وسوريا. وتناولت ورشة العمل عدّة محاور.
ركّز المحور الأول على حماية السجون اللبنانية من التطرف، وتفادي استشراء الراديكاليّة فيها، وإعادة تأهيل المساجين، ومحاربة «داعش» في الإعلام، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي عبر بث رسائل تفضح تضليلها، وتشجيع أعمال معينة حيال الشباب، والمجتمع المدني على النطاق المحلّي لفضح أي عناصر إرهابية محتملة.
ويشمل المحور الثاني إدارة الحدود وضبطها، حيث انخرط الاتحاد الأوروبي ببرامج في هذا المجال بالتعاون مع القوى الأمنيّة.
ويتضمّن المحور الثالث العمل والتعاون مع القضاء، والمحاكم لتطوير القوانين الجنائيّة وفق متطلبات الأمم المتحدة، ولا سيما القرار 2178 الذي يطلب من الأنظمة القضائية في البلدان المعنيّة إدخال تعديلات بغية ملاحقة الإرهابييّن ومحاكمتهم، ومساعدة القضاة اللبنانيين في إدارة الملفات المتعلّقة بالإرهاب، فضلًا عن حماية الحدود، ومساعدة الأمن العام والجمارك، خصوصًا في مطار بيروت، ودعم القوى المسلحة اللبنانية في جمع الأدلّة بشكل أفضل حين تواجه أحداثًا معينة.
ويركّز المحور الرابع على العمل مع النافذين في مجال المخابرات والشرطة لتحسين التعاون في مجال تبادل المعلومات، وكذلك مع «الأوروبول».
المحور الخامس الذي استأثر بحيّز كبير من المناقشات، شمل مسألة منع تمويل الإرهاب انطلاقًا من قرارات الأمم المتحدة، وتحديدًا القرار 2199 الذي يطلب إلى الدول بأن تكون أكثر فاعلية في مراقبة بعض القطاعات التي يستفيد منها الإرهابيون مثل البترول، والآثار، والفديات، والهبات الآتية من الخارج، إضافة إلى محاولة تجميد أصول أولئك الذين يسهّلون أمور شبكات المقاتلين الأجانب.
وتناولت مناقشات المحور السادس أمن الطيران حيث يتوجّس الأوروبيّون خصوصًا من «جبهة النصرة» المرتبطة إيديولوجيًا بتنظيم «القاعدة»، والتي تحاول العثور على مقاتلين أوروبيين يحملون وثائق سفر شرعيّة للقيام بتفجير طائرات آتية من اوروبا، أو يستطيعون العودة إلى اوروبا لاستهداف الطائرات عبر وسائل استثنائيّة.
وأكّدت ورشة العمل أهمية التعاون بين الأجهزة الأمنية اللبنانية مع الأجهزة الأوروبيّة (منها «أوروبول»، «وسيبوا»، و«اوروجوست»)، التي ستطوّر العلاقة مع لبنان عبر تكثيف تبادل المعلومات والخبرات. وكان تشديد من الجانب الأوروبي على أهميّة تشجيع الحوار الداخلي بين المجموعــات اللبنانيــة، فلبنان ينظر إليه على أنه وطن الحوار ومختبــر الحضــارات.

 

لبنان يدافع عن نفسه..وعن الآخرين
وأسهب منسّق سياسات مكافحة الإرهاب جيل دو كورشيف في شرح التدابير التي تتخذها اوروبا لمحاربة الإرهاب والراديكالية، وقال: أتابع ملف الإرهاب منذ العام 2013 وقد تمّ وضع تدابير لمنع الإرهابيين من الخروج من البلدان التي ينتسبون إليها للقتال في سوريا أو العراق، ولإيجاد العلاجات لهم حين يعودون، لكننا أحيانًا لا ننجح، لذلك نعتمد حاليًا الرصد المسبق. واستشهد بخبرة رؤساء البلديات في هذا الشأن، مقدّرًا بأن عدد المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم «داعش» يزيد عن 4 آلاف إرهابي، يتدفقون من حوالى 12 بلدًا أوروبيًا للقتال في سوريا أو العراق.
ونفى امتلاكه معلومات عن إنشاء خلافة «لداعش» في لبنان، وقال: «لا معلومات لدي بهذا الخصوص، لكن أعتقد أن «داعش» الشام يريد زعزعة الاستقرار في لبنان، والأردن، والسعوديّة، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي يسهم في منع ذلك عبر استراتيجيته ضدّ هذا التنظيم».
وتندرج ورشة العمل هذه في سياق متابعة مقرّرات مجلس الشراكة بين لبنان والاتحاد الأوروبي، الذي انعقد في بروكسل في 9 شباط 2015، كما تأتي ترجمة لقرار مجلس وزراء الخارجية الأوروبي (بتاريخ 15/12/2014)، الذي شدد على إدراك الاتحاد الأوروبي التحديات الأمنية الهائلة المترتبة على تمدد الإرهاب في المنطقة، وبشكل خاص على لبنان، وعلى أهمية استمرار دعمه لمواجهة تلك التحديات.
في الجلسة الافتتاحية استعرض ممثل وزارة الخارجية والمغتربين أسباب عقد الندوة شاكرًا الاتحاد الأوروبي على دعمه القائم والمستمر للبنان، وبخاصة في مجال مكافحة الإرهاب. ثم تحدثت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في بيروت السفيرة أنجلينا إيخهورست عن التعاون القائم بين الاتحاد ولبنان، وتطبيق مقرّرات مجلس الشراكة. وفصّل مدير المسائل الدولية في الاتحاد الأوروبي ستيفان آور، أهداف الورشة، مؤكدًا أن لبنان حين ينخرط في مكافحة الإرهاب، لا يدافع عن نفسه فحسب، بل هو يحمي أوروبا أيضًا؟!.