٢٠١٩ - ٢٠٢٠

لبنان وسط التطورات الإقليمية والدولية
إعداد: العميد المتقاعد خليل الحلو

يشهد لبنان انتفاضة شعبية منذ نحو شهرين وسط وضع اقتصادي – مالي – اجتماعي متدهور لم يسبق له مثيل، وفي ظل صراعات دولية إقليمية حادة تعيدنا بالذاكرة إلى عشية الحرب العالمية الأولى. العالم العربي يعاني بدوره تفسخات وخلافات حادة ومشاكل داخل كل دولة من دوله، فضلًا عن ظهور لاعبين غير حكوميين في المنطقة مثل تنظيمَي القاعدة وداعش والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن وغيرهم.

 

حوّلت هذه العوامل مجتمعة الاهتمام عن لبنان على عكس ما كان يحدث خلال القرن الماضي. فقد اقتصر الاهتمام العربي على زيارة تفقدية لموفد من جامعة الدول العربية، أما الاهتمام الدولي فاقتصر منذ بداية الأزمة الحالية على بعض التصاريح في كل من موسكو وواشنطن، وعلى زيارتين استطلاعيتين لموفدَين أحدهما فرنسي وآخر بريطاني. والسؤال هو كيف يمكن أن تنعكس التطورات الإقليمية والدولية على الأزمة في لبنان؟

 

أولويات الدول العظمى ليست في الشرق الأوسط
لا تُبدي العواصم الكبرى اهتمامًا بمنطقة الشرق الأوسط ولا سيما بلبنان كما في السابق لأسباب متعددة، فالولايات المتحدة تحولت من بلد مستورد للغاز والنفط إلى بلد مصدّر لهما، كما أنّها قررت عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول بعد تجربتَي العراق وأفغانستان الفاشلتين، وهي تحتفظ فقط بحوالى ٧٠٠٠ جندي في العراق وسوريا مهمتهم محاربة التنظيمات الأصولية المتطرفة، وهو عدد منخفض مقارنة بما كانت عليه القوات الأميركية في العراق قبل العام ٢٠١١ إذ وصل عددها إلى مئة وثلاثين ألف جندي. في السياق نفسه وليس بعيدًا عن الشرق الأوسط دخلت واشنطن في مفاوضات مع الطالبان في أفغانستان حيث تستعد لسحب قواتها من هناك. أما بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي فإنّ الشرق الأوسط لم يعد المصدر الرئيسي الذي تعتمد عليه لاستيراد النفط والغاز لورودهما إليها من دول أوروبية ومن شمالي أفريقيا ومن روسيا وآسيا الوسطى.
على صعيد آخر تدور صراعات بين الدول الكبرى، كما أنّ بعضها يعاني صعوبات داخلية تشغلها عن منطقتنا. وعلى سبيل المثال تشهد العلاقات الأميركية - الصينية حربًا اقتصادية بين الطرفين فضلًا عن حرب أخرى في مجال التكنولوجيا المعلوماتية المتقدمة والذكاء الاصطناعي وهذه الحرب مرشحة إلى التصعيد. على صعيد الداخل الصيني تعاني بكين من تردٍّ في الوضع الاقتصادي مما جعل السلطات متشددة خاصة في ظل ما يجري من تظاهرات في هونغ كونغ والتي يُخشى من امتدادها إلى الداخل الصيني، مع الإشارة إلى أنّ هذا الوضع لا يشكل أي تهديد للنظام في بكين.
من جهتها، روسيا قلقة جدًا مما يجري على حدودها الغربية والجنوبية، لا سيما في أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا ودول البلطيق حيث يدور صراع نفوذ مع واشنطن. فهذه الأخيرة تتابع برنامج تسليح وتدريب للقوات المسلحة الأوكرانية التي تتواجه مع الانفصاليين الذين تدعمهم موسكو في شرقي البلاد، كما تدعم واشنطن ودول حلف الناتو بولندا العضو في الحلف والمحاذية لبيلاروسيا، بينما تدعم موسكو بيلاروسيا عسكريًا. من ناحية أخرى هناك اهتمامات تعتبرها موسكو أولويات على حساب الشرق الأوسط، ومنها التطوير الاقتصادي لشرقي البلاد الواسع والغني بالنفط والغاز، وتمديد أنابيب منه لتصديرهما إلى الصين ودول الشرق الأقصى. يضاف إلى ذلك رغبة روسيا في السيطرة على مخزون النفط في القارة المتجمدة الشمالية حيث الأراضي ليست ملك أحد. ولهذه الغاية تعمل موسكو على تطوير قدراتها العسكرية والتقنية والبحرية والعلمية في المناطق الشمالية للبلاد وفي المحيط الهادئ الذي أصبح المحور الأساسي للاقتصاد العالمي. أخيرًا وعلى الصعيد الداخلي تعاني روسيا مشاكل اجتماعية – اقتصادية – سياسية حادة لدرجة أنّه أُحصي حتى الآن قيام أكثر من ١٤٤٠ تظاهرة احتجاجية في البلاد منذ بداية العام ٢٠١٩ وقد تم قمعها بالقوة مع توقيفات طالت الكثيرين.
وبالعودة إلى الصراع بين الدول الكبرى، هناك محاولات تقارب بين روسيا والصين لمواجهة القوة العسكرية الأميركية، وتعيش كل من واشنطن وموسكو وبكين مرحلة من سباق تسلح غير مسبوق بينها يشمل الأسلحة الاستراتيجية وخاصة الصواريخ المنزلقة الفرطوتية Hypersonic Gliding Missiles، والصواريخ العابرة الفرطوتية الطويلة المدى Hypersonic Cruise Missiles، والصواريخ البالستية القصيرة المدى، والمقاتلات والمروحيات ذات القدرات الشبحية. في سياق هذا الصراع تتابع بكين نشر قواتها البحرية والجوية في جزر المحيط الهادئ الجنوبي حيث تعلن صراحة وعلى لسان قادتها العسكريين منذ سنوات عن نيتها طرد الأميركيين منه، مما دفع بواشنطن إلى إعطاء الأولوية لهذا الموضوع على حساب الشرق الأوسط، ورفع عدد قطعها البحرية التابعة للأسطول السابع في جنوبي المحيط الهادئ، وحث حلفائها ولا سيما اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا على تطوير قواته البحرية والتنسيق فيما بينها بهدف الحفاظ على التفوّق والسيطرة على الخطوط التجارية المحورية في المحيط الهادئ التي يمر عبرها ثلثا التجارة العالمية.
في السياق نفسه تعمل واشنطن على التقارب مع الهند وتُجري معها تدريبات بحرية مشتركة وتحثها على نشر قواتها البحرية لتحقيق التوازن مع الصين في الشرق الأقصى. في المقابل، يعاني الاتحاد التباطؤ الاقتصادي من جهة وتدفق اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط من جهة أخرى، مما يسهم بتنامي الشعور القومي وصعود اليمين المتطرف، وهذا ما يزعزع الاتحاد داخليًا بخاصةٍ وأنّه يشهد خروج بريطانيا منه (البريكسيت) وارتفاع أصوات للخروج في دول أخرى مثل اليونان وإيطاليا، ومحاولات انفصالية مثل دعوات انفصال كاتالونيا عن إسبانيا. على ضوء كل ما ذُكر أعلاه يُستنتج أنّ أولويات العواصم الكبرى والعالم الغربي هي ليست في الشرق الأوسط وحتمًا ليست في لبنان.

 

الاستقرار في الشرق الأوسط مفقود على المدى المنظور
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ولمدة خمسين عامًا كانت التوازنات في المنطقة مضبوطة من قبل القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، مما حقق استقرارًا نسبيًا تخللته حروب قصيرة تم ضبطها بسرعة، وأعمال حربية محدودة وصراعات محصورة ذات وتيرة منخفضة Low Intensity Conflicts. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مرحلة أولى وانخفاض اهتمام واشنطن بالمنطقة في مرحلة لاحقة، برزت الخلافات والتباينات التاريخية بين القوى الإقليمية مما أدى إلى صراعات مباشرة أو بالواسطة بين هذه القوى في دول مجاورة مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والبحرين وغيرها. أدت هذه الصراعات إلى حالة عدم استقرار دائم في المنطقة منذ العام ٢٠٠٠ من دون أن تستطيع واشنطن وموسكو ضبط الوضع بفعالية كما كان يحصل في السابق، لا بل إنّ واشنطن تدخلت مباشرة في العراق منذ العام ١٩٩٠ ثم خرجت منه في العام ٢٠١١ وعادت إليه في العام ٢٠١٤ بعدما كادت داعش تجتاح بغداد. أما موسكو فتدخلت في سوريا منذ العام ٢٠١٥ برضى أميركي، والدليل عدم حصول أي اشتباك بين قوات الطرفين رغم قيامهما بأعمال حربية على المسرح نفسه طوال أربعة أعوام. ويمكن القول إنّ واشنطن مرتاحة إلى انشغال روسيا في سوريا مما يعرقل استعمال مواردها العسكرية في أمكنة أخرى من العالم تشكل أولوية لواشنطن مثل دول أوروبا الشرقية.
لقد تفاقم عدم الاستقرار في كل من العراق وسوريا واليمن بفعل بروز لاعبين غير حكوميين لهم حجم إقليمي مثل تنظيمَي القاعدة وداعش. وبالعودة إلى دور موسكو في المنطقة، فهي تحاول جاهدة تحقيق استقرار ترعاه هي بين الأطراف في سوريا، وتحاول لهذه الغاية نسج علاقات جيدة مع الدول المتصارعة في المنطقة ولا سيما إسرائيل وإيران والمملكة العربية السعودية ومصر وتركيا بغية ملء الفراغ الذي تتركه واشنطن خلفها عسكريًا ودبلوماسيًا، وذلك بموافقة الولايات المتحدة، ومن المؤشرات على ذلك إخلاء القوات الأميركية عدة مواقع لها في شمال سوريا وتسليمها للقوات الروسية على أثر الدخول التركي إلى مناطق كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية. جهود موسكو هذه لنسج علاقات جيدة مع دول المنطقة تهدف أيضًا لجعلها قادرة على طرح الحلول ووضعها موضع التنفيذ دبلوماسيًا وعسكريًا من دون مواجهة مع هذه الدول ولا سيما تركيا وإسرائيل وإيران. في السياق نفسه شهدنا مسارات أستانة وسوشي حيث حاولت موسكو طرح حلول لسوريا لم تثمر حتى الآن سوى هدنات هشة. ومنذ دخول القوات التركية إلى شمالي سوريا برزت انقسامات في الشراكة الروسية – الإيرانية، فالإيرانيون متهمون مثلًا بتحريض النظام السوري على توتير عسكري مع ميليشيات تدعمها تركيا في محافظة إدلب، مما لا يريح موسكو التي تنوي الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات الجيدة مع أنقرة.
تتابع إسرائيل استهداف مواقع إيرانية في سوريا موجهة بذلك رسائل إلى موسكو لكبح جماح طهران على الأراضي السورية، مما يزيد من تعقيدات الأوضاع. العراق بدوره هو مسرح لصراع دولي – إقليمي على غرار سوريا وقد تفاقمت فيه أزمة الفساد. أما في اليمن فانخفض التوتر بعدما رعت السعودية هدنة بين الحوثيين المدعومين من إيران والتحالف الجنوبي المدعوم من الإمارات، مما أدى إلى انخفاض الغارات الجوية السعودية على اليمن وعمليات الحوثيين عبر الحدود مع السعودية بنسبة ٨٠٪ مقارنة بالسابق، لكن حرب اليمن لم تنتهِ بعد وليس هناك من رابح فيها، وهي أدت إلى انخفاض اهتمام السعودية في أزمات كل من سوريا والعراق ولبنان. ومع انخفاض وتيرة الأعمال الحربية في هذا البلد، من المحتمل أن تعيد السعودية اهتمامها من جديد بكل أزمات المنطقة في حال لم تتفاقم الأزمة بين واشنطن وطهران وبقيت الأراضي السعودية بمنأى عن الصواريخ الإيرانية.
الصراع الإيراني - الأميركي عاد إلى الواجهة بعد أن انسحبت إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار ٢٠١٨ وفرضت عقوبات قاسية عليها مما خفّض الصادرات النفطية الإيرانية بنسبة ٧٥٪ علمًا أنّ هذه الصادرات تشكل الموارد الأساسية للعملات الصعبة لإيران. العقوبات لم تقتصر على النفط بل طالت قطاعات أخرى مثل المعادن والقطاع النووي وغيرهما، فتوعّدت إيران أنّها ستعرقل تصدير النفط من دول الخليج كافة في حال لم يُسمح لها بتصدير نفطها. وقد حصلت عدة حوادث بين الطرفين بسبب نسبة التوتر، وعزّزت واشنطن انتشار قواتها العسكرية في منطقة الخليج، لم تؤدّ محاولات إيران لتخفيض العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها عليها واشنطن إلى أي نتيجة مما أدى إلى انهيارات اقتصادية – اجتماعية في الداخل الإيراني تُرجمت بتظاهرات وأعمال عنف واسعة النطاق، فضلًا عن انعكاسات سلبية على حلفائها في المنطقة. والخلاصة أنّ الصراع الأميركي – الإيراني مرشح للاستمرار خلال الأشهر القادمة مما يزيد من عدم الاستقرار في كل دول المنطقة بما فيها لبنان.

 

كيف يمكن لأزمات المنطقة أن تنعكس على لبنان؟
للانتفاضة الحالية أسباب داخلية، كما أنّ الوضع الإقليمي ينعكس على لبنان وبالتالي فإنّ الاستقرار فيه هو على خط فاصل رفيع جدًا ما بين مصلحة الدول الكبرى من جهة وعدم اهتمامها من جهة أخرى، في ظل أولويات دولية بعيدة جدًا عن المنطقة وعن لبنان، وصراعات إقليمية حادة وأجواء انعدام الثقة بين عواصم المنطقة، وعليه لا أفق على المدى المنظور لتسويات في لبنان على غرار تسويتَي الطائف والدوحة، ولا مؤشرات لأي جهد دولي لحل الأزمة.
يبقى على السلطات الدستورية التفاعل مع الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ شهرين والتي أثبتت قدرتها على مراقبة أعمال السلطتَين التنفيذية والتشريعية لممارسة واجباتها في محاربة الفساد ووقف التدهور المالي والاقتصادي بعيدًا من مصالح القوى العالمية والإقليمية، كما أثبتت قدرتها على تسهيل وضع السلطة القضائية يدها على الملفات الساخنة.