لبنان وسوريا واتفاقيات الشراكة مع أوروبا

لبنان وسوريا واتفاقيات الشراكة مع أوروبا
إعداد: د. ألبر داغر
كاتب وباحث

مقدمـة
تضع اتفاقيتا الشراكة المقترحتان من الاتحاد الأوروبي لبنان وسوريا امام مسؤولية اتخاذ موقف منهما. وتحدّد طريقة تعاطي كل منهما مع هذا الموضوع, أي استعجال التوقيع على الاتفاقية أو الإبطاء فيه من جهة, وطريقة مواجهة الانفتاح الاقتصادي الإضافي الذي يرتبه هذا التوقيع من جهة ثانية, مقدار الفائدة المتحققة من الدخول في الشراكة وحجم الأعباء المترتبة عليها.
وتمثل الاتفاقيتان كما غيرهما مما اقترح على بقية دول جنوب وشرق المتوسط, تجسيداً للسياسة الأوروبية الجديدة , تجاه هذه الدول. وقد اقر مبدأها اجتماع المجلس الأوروبي المنعقد في لشبوية عام 1992. وجاءت ترجمة هذه السياسة مفصلة في “إعلان برشلونة” بتاريخ 27 تشرين الثاني لعام 1995. وقد وقّع هذا الاعلان ممثلو خمس عشرة دولة اوروبية تشكل الاتحاد, مع ممثلي أحد عشرة دولة من الدول الإثني عشر التي تنتمي الى جنوب وشرق المتوسط ([1]). وتتناول الشراكة المقترحة كما نص عليها “اعلان برشلونة” مجالات ثلاثة:
1) المجال الأمني والسياسي؛
2) المجال الاقتصادي والمالي؛
3) المجال الاجتماعي والثقافي والإنساني.
وسنكرّس بحثنا لمعرفة ما تؤمنه الشراكة المقترحة من منافع للبلدين, وما تؤدي إليه من أعباء يتحملانها, وذلك من خلال:
1) عرض مضمون الاتفاقيات المقترحة وتقويم نتائجها المتوقعة, بالاستناد إلي الادبيات الاقتصادية التي عالجت هذا الأمر؛
2) تقويم مشروع الشراكة من وجهة نظر انعكاساته المحتملة على دول جنوب وشرق المتوسط مجتمعة؛
3) تحديد الكيفية التي تجعل الشراكة متوائمة مع التطلعات التنموية للبلدين, ومصدر حفز للنمو في كلٍّ منهما.

I -­ تعريف مشروع الشراكة انطلاقاً من اعلان برشلونة لعام 1995
أ- ­ الاتفاقيات القديمة
1-­ تعود اولى محاولات اوروبا لإقامة تكتّل إقليمي مع دول جنوب وشرق المتوسط الى أوائل الستينات. وقد وقعت المجموعة الأوروبية حينذاك اتفاقيات تجارية مع كل دول جنوب وشرق المتوسط, باستثناء الجزائر. لكن الاتفاقيات المذكورة كانت ذات أفق زمني محدود, ولم تكن عناصر لستراتيجية اقليمية معلنة([2]).
وتمثّل الاتفاقية التجارية التي وقعها لبنان عام 1965([3]) مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية نموذجاً لهذه الاتفاقيات. ولم يكن موضوعها التبادل التجاري فقط. فهي تناولت ايضا التعاون التقني بين الطرفين. وقد نصّت الاتفاقية في مادتها الأولى على الأخذ بمبدأ الدولة الأكثر رعاية في المبادلات بين الطرفين, أي على أدراجهما في لائحة الدول التي يمنحها كل منهما تخفيضات جمركية في مبادلاته معها. كذلك نصّت الاتفاقية على إمكانية إفادة لبنان من اشكال التعاون التقني المتعددة التي تقدمها دول المجموعة. ولعلّ هذا الجانب الأخير كان الأهم في الاتفاقية. وقد حدّدت مدتها بثلاث سنوات, قابلة للتمديد سنة واحدة. ولم يبرم الطرف اللبناني هذه الاتفاقية بقانون إلا بعد مرور ثلاثة سنوات على توقيعها.
2-­ لقد اقتضى انتظار النصف الثاني من السبعينات لكي تعود المجموعة الأوروبية للاهتمام مجددا بإقامة علاقات مميّزة مع دول جنوب وشرق المتوسط, وذلك من خلال اقتراح اقامة منطقة تجارة حرة اوروبية ­ متوسطية. وقد اعتبرت المبادرة الأوروبية في حينه تجسيداً لأول سياسة متوسطية شاملة, تعتمدها اوروبا تجاه الدول المعنية. وقد جرى توقيع اتفاقات تعاون مع هذه الدول غير محدودة زمنياً, خلال فترة 1975 ­ 1977. ونصّت هذه الاتفاقات على:
1) منح تخفيضات جمركية من طرف واحد تستفيد منها الصادرات الصناعية للدول المعنية نحو اوروبا؛
2) منح امتيازات محدودة لهذه الدول في ميدان الصادرات الزراعية؛
3) افادتها من مساعدة مالية بقيمة 3,3 مليار وحدة نقدية اوروبية يصار لإنفاقها خلال فترة 1978 ­ 1991.
وقد مثلت الاتفاقية التي وقّعها لبنان مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية([4]) عام 1977 احدى هذه الاتفاقيات. ونصّت على:
1) منح السلع الصناعية اللبنانية المصدرة الى اوروبا معاملة تفضيليّة من طرف واحد, تطبيقاً لـ”نظام المعاملة التفضيلية المعمم “ الذي اعتمدته الدول الصناعية في علاقاتها مع 146 دولة نامية. ومنذ عام 1977, لم تعد الرسوم الجمركية التى تستوفى على الصادرات الصناعية اللبنانية الى اوروبا تتجاوز الـ 3% كمعدل وسطي([5])؛
2) استثناء الصادرات الزراعية اللبنانية من هذه المعاملة التفضيلية, عبر إخضاعها لنظامي الإجازة المسبقة والروزنامة الزراعية؛
3) عدم لحظ أية إجراءات تحرير في مجالات تجارة الخدمات وحق إقامة المشروعات وحق الاستثمار وحقوق الملكية الفكرية. وقد بقيت الاتفاقيات الموقعة في النصف الثاني من السبعينات ترسم إطار المبادلات بين ضفتي المتوسط الى حين شروع المجموعة الأوروبية بتطبيق سياسة متوسطية شاملة جديدة ابتداء من منتصف التسعينات.

ب- ­ الجوانب الثلاثة للشراكة المقترحة
لقد جاء “إعلان برشلونة” تعبيراً عن السياسة الجديدة التي اخذ بها الاتحاد الأوروبي تجاه دول جنوب وشرق المتوسط. وشكل هذا الإعلان اطاراً مرجعياً يجمع المبادئ التي تتأسس عليها الشراكة الجديدة المقترحة. وهو يمثل وثيقة سياسية تحدّد أهداف الشراكة بوجوهها الثلاثة, والسبل التي ينبغي اتباعها لتحقيقها, والمبالغ المرصدة لهذه الغاية.
وقد جاء في الإعلان المذكور ان الهدف من الشراكة في الميدانين السياسي والأمني, هو إنشاء منطقة سلام واستقرار, تستند الى أسس, من بينها احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويكون ذلك من خلال الحوار الدائم والدوري بين كل المعنيين بالأمر, وصولاً الى توقيع اتفاق اوروبي ­ متوسطي, يجسّده “ ميثاق السلام والاستقرار “ الذى ينبغي تبنّيه.
اما الشراكة الاقتصادية والمالية, فالهدف منها تسريع التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول المعنية, وخلق فرص عمل فيها, وتعزيز اشكال التعاون والاندماج الإقليمي بينها. أما هدفها الأكثر مباشرة فهو إنشاء منطقة تبادل حر اوروبية ­ متوسطية, يبدأ العمل بها بعد حقبة انتقالية تنتهي عام 2010. وقد رصد الاتحاد الأوروبي مبالغ مالية لتحقيق هذا الأمر, عبر ما يسمى ببرنامج ميدا, ومن خلال القروض التي يقدمها بنك الاستثمار الأوروبي([6]).
اما الشراكة في الميادين الاجتماعية والثقافية والإنسانية, فهدفها الوصول الى تفاهم متبادل اكبر بين شعوب المنطقة. وينص إعلان برشلونة على تعزيز وتمويل التعاون في ميادين: الثقافة والدين والتربية والصحة ووسائل الإعلام والنقابات والمجتمع الأهلي وقضايا الهجرة والإرهاب والاتجار بالمخدرات والإجرام الدولي والفساد والنضال ضد الظاهرات العدائية على أساس عرقي وظاهرة معاداة الأجانب.
وإذا كان “إعلان برشلونة” هو إعلان مبادئ, فان الاتفاقيات الثنائية التي يتم التوقيع عليها من قبل المجموعة الأوروبية من جهة, وكل دولة من دول جنوب وشرق المتوسط, من جهة ثانية, هي التي تعطي الشراكة صفتها التعاقدية. وأهم ما يفترض ان توفره الاتفاقات الموقعة:
1) تأمين اطار للحوار السياسي بين الطرفين يجسده مجلس الشراكة الذى تنشؤه كل اتفاقية؛
2) تحديد شروط التحرير التدريجي لتجارة السلع الصناعية بين الطرفين؛
3) تعزيز علاقات التعاون بين الدول المعنية, الخ.
وتتميّز الاتفاقيات الجديدة عن البروتوكولات القديمة, باشتراطها ان يلتزم البلد الموقع للاتفاقية “احترام المبادئ الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان “. ويؤدي عدم الالتزام بهذه الشروط لايقاف العمل باتفاقية الشراكة مع البلد المعني. ولا تقوم هذه الاتفاقات على تقديم تنازلات من طرف واحد كما في السابق, وانـما على اعتبار ان الشراكة تتم بين افرقاء متساوين في الالتزام بتحقيقها, وفي المسؤولية عن إنجاحها([7]).

ج- ­ التطور المتحقق حتى مؤتمر شتوتغارت لعام 1999:
لم ينجح مؤتمر مالطا, أو برشلونة 2, المنعقد في نيسان 1997, في إحراز تقدّم في ميدان الشراكة السياسية والأمنية. وقد تبدى هذا الأمر من خلال العجز عن توقيع “ميثاق السلام والاستقرار”, الذى يمثّل تجسيداً لهذا الجانب من الشراكة. كذلك لم يتمكن مؤتمر شتوتغارت, المنعقد في نيسان 1999, من تحقيق هذه الغاية. وكان لموقفي سوريا ولبنان بخصوص مسألة السلام, وللتعاطي الإسرائيلي مع هذا الموضوع, أثرهما في عدم تمكّن المؤتمر من إحراز تقدّم على هذا المستوى. لكن تأكيد دور “إعلان برشلونة” كمرجعية ثابتة في مجال الشراكة واستمرار اللقاءات وتكثفها بين المعنيين بالموضوع, اعتبرا امراً ايجابياً.
ومن جهة اخرى, فانه لم يجر توقيع اكثر من خمسة اتفاقيات شراكة خلال الحقبة المذكورة: اولها مع تونس (تموز 1995), ثم مع اسرائيل (تشرين الثاني 1995) ومع المغرب (شباط 1996), ومع السلطة الفلسطينية (شباط 1997), ومع الاردن (تشرين الثاني 1997). علما ان ثمة مسودات اتفاقيات هي موضع نقاش مع بقية الدول المعنية. أما المساعدات المدرجة في برنامج ميدا 1, فقد اقتصرت المبالغ المدفوعة منها حتى نهاية حقبـــة 1995 ­ 1999, على 26 % من المبالــغ المعقودة. ايضاً تمّ تأجيل برنامج ميدا 2. ولو ان الاتحــاد الاوروبي اكـــد التزامه بالحـــفاظ على المستــوى السابق لاسهامه المالي.
أما بخصوص الشراكة الاجتماعية والثقافية, فقد جرى التأكيد تكرارا على اهمية إسهام ممثلي القطاع الأهلي والمجتمع المدني في مشروع الشراكة. وتحققت مبادرات من مثل إقامة ثلاثة منتديات مدنية اورو ­ متوسطية, وإقامة لقاءات بين البرلمان الاوروبي وبرلمانات دول جنوب وشرق المتوسط, الخ.

II - ­ محتوى الاتفاقيتين واثرهما والمفاوضات بشأنهما
1-­ المحتوى
أ- ­ مضمون مسودّة اتفاقية الشراكة المعروضة على لبنان

تعـود الصيغة الاولى لاتفاقية الشراكة المقترحة على لبنان لعام 1996([8]). وهي تنشيء علاقة بين طرفين هما: المجموعات الأوروبية([9]) والدول المنتمية اليها من جهة, ولبنان من جهة ثانية. وتعين المادة الأولى من الاتفاقية أهداف هذه الشراكة. وهي:
1) إقامة حوار سياسي بين الطرفين؛
2) تحديد كيفية إنشاء منطقة تبادل حر للسلع الصناعية بينهما؛
3) إقامة تعاون بينهما لا يقتصر على الميدان الاقتصادي وانما يتناول عدة ميادين أخرى. أي ان الاتفاقية المذكورة تغطي الجوانب الثلاثة للشراكة التي عبّر عنها “إعلان برشلونة”. ويمكن اعتبار ان تحرير التبادل السلعي يأتي في مقدمة الاهداف الاقتصادية للشراكة المقترحة. إلا ان الاتفاقية تشتمل على اهداف اخرى يتعاون الطرفان على بلوغها. وهي تتناول:
1) تحرير تبادل الخدمات,
2) تحرير حق اقامة المشروعات,
3) تكثيف التعاون الاقتصادي والاجتماعي,
4) تأمين تطابق المقاييس والمعايير وانظمة التجارة,
5) تأمين مساعدات مالية وتقنية للبنان. وتجد هذه الامور تعبيرا عنها في مواد مسودة الاتفاقية البالغة ماية ومادتان, والموزعة على سبعة ابواب, هي:
1) الحوار السياسي؛
2) تحرير تبادل السلع؛
3) حق إقامة المشروعات وتجارة الخدمات؛
4) الإجراءات في مجالي المدفوعات وحركة الرساميل وفي ميدان تعزيز المنافسة؛
5) التعاون الاقتصادي؛
6) التعاون الاجتماعي والثقافي؛
7) التعاون المالي؛
8) المؤسسات التي تنشؤها الاتفاقية.
ويهدف الحوار السياسي وفقاً للمسودة, لتحقيق أهداف السلام والأمن والتنمية الإقليمية (المادة 4) والتمهيد لتوقيع “ميثاق سلام واستقرار” من الطرفين. ويكون هذا الحوار منتظماً, ويجري على ثلاثة مستويات هي:
1) المستوى الوزاري, أي مستوى مجلس الشراكة الذي تنشؤه الاتفاقية؛
2) مستوى الموظفين الحكوميين الذين يتولون تطبيقها؛
3) بين برلماني الطرفين.
أما في ميدان تحرير تجارة السلع الصناعية فتنص المسودة (المادة 6) على إقامة منطقة تبادل حر للسلع الصناعية بين الطرفين بعد فترة انتقالية تمتد 12 عاماً ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاقية. وتنص المادة نفسها على ان يتم ذلك بشكل يتفق مع ما نصت عليه اتفاقية الغات لعام 1994. وفي حين تنص المسودة على الإزالة الفورية لكل الرسوم الجمركية والعوائق المشابهة التي تضعها اوروبا امام السلع الصناعية اللبنانية, بمجرّد توقيع الاتفاقية (المادة 9), فإنها تضع روزنامة زمنية للتخفيض الجمركي المتدرّج الذي يفترض ان يتبعه لبنان خلال الفترة الانتقالية (المادة 11).
اما السلع الزراعية فتستثنيها المسودة من إجراءات تحرير تبادل السلع بين الطرفين (المادة 10). لكنها تفتح باب التفاوض بهذا الشأن بعد مرور خمس سنوات على البدء بتطبيق الاتفاقية, على ان يتم ذلك لكل سلعة على حدة, وعلى قاعدة المبادلة بالمثل (المادة 17).
وتبيح مسودة الاتفاقية لأي من الطرفين التوقّف عن تطبيق بنودها المتعلقة بتحرير تجارة السلع في حالات استثنائية محددة. وتمثل حماية الصناعات الناشئة اهم هذه الحالات. لكن الاتفاقية تضع سقفاً لإجراءات الحماية التي يمكن تطبيقها. ويتناول هذا السقف, الحد الاقصى للرسوم الجمركية المسموح بفرضها, وهو 25 %, والمهلة الزمنية التى تعتمد هذه الرسوم خلالها, وهي خمس سنوات. كذلك يمكن لكل من الطرفين إيقاف العمل ببنود تحرير تجارة السلع بشكل مؤقت, لحماية قطاعاته الإنتاجية المتضررة أو لمواجهة ممارسات اغراقية يتعرّض لها. ويسمح له باتخاذ الإجراءات اللازمة, بعد اقرارها ضمن إطار مجلس الشراكة, على ان ينسجم ذلك مع ما تنص عليه اتفاقية الغات بهذا الشأن.
اما بالنسبة لحق إقامة المشروعات وتجارة الخدمات , فإن مسودّة الاتفاقية تُشير الى:
1) منح مؤسسات كل من الطرفين حق اقامة مشروعات عند الطرف الآخر, وافادتها من المعاملة ذاتها التى تحظى بها المؤسسات الوطنية؛
2) تحرير تجارة الخدمات, على ان يتم ذلك بمقتضى ما تقترحه “الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات” GATS (المادة 30). علماً ان المسودة تستثني بعض الخدمات من عملية التحرير المقترحة, ومن بينها خدمات النقل الجوي والبحري والداخلي.
اما بالنسبة للرساميل, فتنص مسودة الاتفاقية على تحريرها من اية عوائق على حركتها (المادة 36), علماً انه يمكن في حالات استثنائية الحد من هذه الحركة. كما تنص على إزالة كل ما من شأنه إعاقة لعبة المنافسة بين المؤسسات, وعلى تحظير الممارسات الاحتكارية (المادة 40). وينطبق ذلك على المؤسسات الحكومية التي يفترض ان تلتزم بتطبيق هذه الإجراءات بعد فترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات. كذلك تنص مسودة الاتفاقية على ضرورة تأمين شروط حماية فعلية لحقوق الملكية الفكرية والصناعية والتجارية (المادة 49), وعلى تحرير متبـادل لسوق المشتريات الحكومية (المادة 50).

وفـي باب التعاون الاقتصادي, تنص مسودة الاتفاقية على ان يتناول ذلك بوجه خاص الميادين التي تتأثر بعملية التحرير القائمة (المادة 52). كما تنص على تشجيع المبادرات التي يجتمع حولها الفرقاء الاقليميون (المادة 54), وعلى إفادة لبنان من إمكـانــات التعــاون في المجــال العلمي والتكنولـوجي وفي مجـالات البيئة والصناعة (المادة 57). كذلك تنص المسودة على إقامة تعاون لخلق بيئة ملائمة لتدفق الاستثمارات, عبر اعتماد إجراءات متطابقة ومبسطة وإقامة اطار تشريعي لتعزيز الاستثمار (المادة 58), وعلى التعاون في ميدان وضع المواصفات والمقاييس واصدار شهادات المطابقة(المادة 59), وعلى التقريب بين التشريعات المعتمدة (المادة 60). وتكرّس المسودة مواداً منفصلة لإيضاح شروط التعاون في مجالات محددة, كالخدمات المالية والزراعة والنقل وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والطاقة والسياحة والجمارك والإحصاءات, الخ.
اما في ميدان التعاون الاجتماعي والثقافي, فتنص مسودة الاتفاقية على إقامة حوار منتظم بشأن كل ما له علاقة بالميدان الاجتماعي (المادة 75), ووضع برامج تعاون في الميادين ذات الاولوية, من مستويات المعيشة في المناطق المحرومة, الى برامج الأم والطفل, الى التغطية الصحية والضمان الاجتماعي, الخ.
امـا التعـاون في مجـالات الثقافة والتربية, وهو الذي يرمي الى تحقيق معرفة متبادلة افضل للثقافات المختلفة, فيطال اموراً متعدّدة, من تحقيق الترجمات الأدبية, الى تـأهيل الأمـاكـن التـاريخية (المادة 78), الـى إقـامة علاقات تبادل بين الجامعات, الخ.
اما التعاون المالي, فيعول عليه لتحقيق أهداف الاتفاقية. ويصار للاتفاق حوله بعد دخول هذه الأخيرة حيز التنفيذ. وهو يتناول بوجه خاص, تقديم الدعم للقطاعات المتضررة, وتشجيع الاستثمار الخاص, الخ (المادة 81). ويندرج ضمن إطار تقديم الدعم لبرامج التصحيح الهيكلي لدول المتوسط (المادة 82).
أما تنفيذ الاتفاقية, فيتولاه مجلس الشراكة, الذى يلتقي ضمن اطاره, ممثلون عن مجلس الاتحاد الأوروبي وعن الحكومة اللبنانية. وتكون قرارات هذا المجلس ملزمة. ويمكنه ان يفوّض جزءاً من صلاحياته اوكلها الى لجنة الشراكة, المكونة من موظفين من الطرفين. وتمتلك هذه الأخيرة سلطة القرار لإدارة الاتفاقية (المادة 89).

ب ­ النص المقترح على سوريا:
يمكن الاستعانة بالعرض الذى تناول الاتفاقية المقترحة على لبنان, لاجراء مقارنة مع مسودة الاتفاقية المعروضة على سوريا. وتغطي هذه الاخيرة الجوانب الثلاثة التى ينطوي عليها “اعلان برشلونة”, وتشتمل على ثمانية فصول. وهي لا تختلف في ذلك عن الاتفاقية المعروضة على لبنان. إلا انها تتميز عن هذه الاخيرة, لجهة عدم اشتمالها على فقرات خاصة تتناول تحرير حق اقامة المشروعات وتحرير تجارة الخدمات بين الطرفين. وهي عوضا عن ذلك, تعد بوضع مسألة توسيع اطار الاتفاقية ليشمل الخدمات وحق اقامة المشروعات على جدول اعمال المناقشات اللاحقة لتوقيع الاتفاقية. وبالمقابل, فانها تلحظ فصلا خاصا باليد العاملة والهجرة وشروط العمل, تفتقده الاتفاقية اللبنانية.
وهي بدأت كما في الاتفاقية اللبنانية بالفقرات التى تتناول الحوار السياسي. واقترحت في الفصل الثاني تحرير تجارة السلع الصناعية, على ان يتم ذلك تدريجيا, على غرار ما تضمنته الاتفاقيات الاخرى الموقعة او المعروضة على دول جنوب وشرق المتوسط. كما انها استثنت هي الاخرى, منتجات الصناعات الزراعية والغذائية والمنتجـات الزراعية من مبدأ تحرير التبـادل. أمـا الاستثنـاآت من تطبيق احكام الاتفـاقية التى لحظتها, لحماية الصناعات الناشئة, او لمكافحة عمليات الاغراق, او لاستعادة توازن ميزان المدفوعات, فانها تتشابه مع تلك التى نقع عليها في الاتفاقية اللبنانية.
كذلك نصت الاتفـاقية علـى تحرير حركـة الرساميل. وأخذت بـالاجراءات نفسها التى نجدها في الاتفاقية اللبنانية, الهادفة لإرساء جو من المنافسة. ومن هذه الاجراءات:
1) ازالة الاحتكارات الحكومية خلال خمس سنوات, ابتداء من تاريخ توقيعها؛
2) تحرير سوق المشتريات الحكومية؛ الخ.
أما موضوع المطابقة بين التشريعات السورية والاوروبية التى تنظم العلاقة بين الطرفين, فلا تتطرق اليه مسودّة الاتفاقية. إلا انها تفرد فقرتين منها للاشارة الى التعاون لارساء معايير مشتركة بين الطرفين, وللتقريب بين التشريعات الخاصة بكل منهما.
وبالنسبة للشق المتعلق بالتعاون في مختلف الميادين والقطاعات بين الطرفين, والشق المتعلق بالمساعدات المالية التى يقدمها الاتحاد الاوروبي لتسهيل تطبيق الاتفاقية, فانهما لا يختلفان عن ما نجده في نص مسودة الاتفاقية المعروضة على لبنان.


2- ­ أثرهما:
أ- ­ تقويم الانعكاسات الاقتصادية للشراكة على لبنان:
نظرية التكتلات الاقليمية:

تُتيح نظرية التكتلات الاقليمية التي تسمى اتفاقاً “نظرية الاتحادات الجمركية”, رصد الآثار الإيجابية والسلبية المترتّبة على دخول بلد ما في تكتّل اقتصادي اقليمي مع بلد آخر أو اكثر. وقد بلورت هذا النظرية منذ الخمسينات ادوات مفهومية للإحاطة بموضوع التكتلات الإقليمية وآثارها. ولم تعرف الأدوات المذكورة تطوّراً يذكر حتى أواخر الثمانينات. اما عقد التسعينات, فقد شهد تطوراً في حقل النظرية, أي بلورة ادوات جديدة لقراءة انعكاسات التكتلات الإقليمية, كان هو نفسه وليد التطور الحاصل في شكل الاتفاقات الإقليمية الجديدة ومضمونها. وبالتالي, فانه يمكننا اليوم استخدام المقاربتين, القديمة والمحدثة لقراءة انعكاسات التكتلات الإقليمية.
ويمكن تصنيف اتفاقيات الشراكة المعروضة من دول اوروبا على دول جنوب وشرق المتوسط في إطار التكتلات التي تجمع دولاً من الشمال مع دول من الجنوب. كما يمكن تقويم انعكاساتها من خلال استخدام المقاربتين الستاتيكية والديناميكية اللتين اتت بهما نظرية التكتلات الإقليمية القديمة, وعلى ضوء المقاربات المحدثة.
وتختلف هذه الانعكاسات باختلاف واقع كل بلد والشروط التي تميّزه, كمدى انفتاحه على التجـارة الخـارجية, ومستوى الرسوم التي يعتمدهـا, ومـا تتضمنه الاتفاقات المبلورة بشأنه من فقرات تأخذ بالاعتبار العناصر التى تجعله متميزا عن غيره, الخ.
وتستخدم المقاربة الستاتيكية مفهومي خلق المبادلات وتحويل المبادلات لتقويم الآثار الايجابية والسلبية لعملية الدخول في تكتل اقليمي. وتكون هذه الآثار ايجابية بالنسبة لبلد ما, اذا اتاح دخوله في التكتل استبدال السلع الوطنية العالية الكلفة بسلع أقل كلفة وافضل نوعية مصدرها الدول الاخرى الاعضاء في التكتل. ويكون المستهلكون المستفيدون الرئيسيون من هذا التطور. كما يعبر ذلك عن تحسن في توزيع واستخدام الموارد المتاحة. ويترتب عليه تحسن في مستوى الرفاه على المستوى الاقليمي وتاليا الدولي. وتكون آثار الدخول في التكتل سلبية بالنسبة للبلد عينه, إذا انطوى ذلك على تحويل للتبادل؛ أي اذا ادى الى اعطاء افضلية للسلع المنتجة في دول التكتل, ولو انها اعلى كلفة واقل جودة, مقارنة بمثيلاتها التى مصدرها بقية دول العالم. ويمكن حصر آثار التكتل بالنسبة لبلد معين, ومن وجهة نظر ستاتيكية, من خلال اضافة: الآثار المترتبة على خلق التبادل, الى الآثار المترتبة على تحويل التبادل, والى الآثار المترتبة على انخفاض العائدات الجمركية بسبب ازالة الرسوم على السلع المستوردة من دول التكتل. وتكون نتيجة الدخول في التكتل ايجابية بالنسبة للبلد المعني إذا كان رصيد المعادلة ايجابياً. والعكس صحيح.
اما المقاربة الديناميكية فتركز على دور التكتل في:
1) حفز المنـافسة, وبـالتالي حفز التقدم التقني لدى المؤسسات الانتاجية للبلد المعني؛
2) زيادة مستوى الاستثمار التي يتيحها توسع حجم السوق؛
3) تحقيق وفورات الحجم, أي تخفيض الكلفة بسبب ازدياد حجم المنشآت. وبالتالي فان هذه المقاربة تعنى على وجه التحديد, بحصر آثار التكتل لجهة النمو الاضافي الذي يؤمنه لكل من الدول الداخلة في اطاره.
اما المقاربة المحدثة فقد افردت حيزا مهما لاظهار المصداقية الاضافية التي يمحضها الدخول في التكتل للدولة المعنية وللسياسات التي تأخذ بها. الامر الذي يشكل بحد ذاته عنصر اجتذاب للاستثمارات المحلية والاجنبية([10]).

الدراسات حول انعكاسات الاتفاقية على لبنان:
اما الدراسات التي تناولت الانعكاسات المتوقعة لاتفاقية الشراكة المقترحة على لبنان, فقد عالجت:
1) آثارها على مستوى الرفاه في لبنان, من خلال ما يترتب عليها من خلق تبادل وتحويل تبادل؛
2) آثارها الضريبية, أي انخفاض الايرادات الجمركية الذي تتسبب به؛
3) آثارها على مستوى القدرة التنافسية للصناعات المحلية, من خلال التغيير الذي تدخله على معدل الحماية الفعلية لهذه الصناعات؛
4) المنافع الديناميكية لتطوير وتحديث الاطار القانوني والتنظيمي للمبادلات وتحقيق تجانسه, الذي يتيحه توقيع الاتفاقية.
وتبين غالبية هذه الدراسات آثار الاتفاقية من وجهة نظر ستاتيكية فقط. وتظهر نتائجها الايجابية من خلال:
1) خلق التبادل الذى تؤدي اليه؛
2) زيادة الصادرات الناجمة عنها. كما تظهر نتائجها السلبية المرتبطة بـ:
1) تراجع الايرادات الحكومية؛
2) تحمل الاقتصاد للخسارة الناجمة عن تحويل التبادل؛
3) تراجع حجم الانتاج الوطني. ويمكن الاشارة الى ان ثمة قاسما مشتركا يجمع بين هذه الدراسات, ألا وهو اعتمادها تقنيات القياس الاقتصادي لتحديد ما تتوقعه من منافع ومن أعباء تنجم عن توقيع الاتفاقية. وهي تقوم بمجملها على افتراض ان الهيكلية الاقتصادية للبلد المعني, وللبنان بالتحديد, ليست عرضة للتغيير مع الوقت. الامر الذي يحد من اهمية تقديراتها للنتائج المتوقعة.

الانعكاسات على مستوى الرفاه:

اما الدراسات التى هدفت لتحديد انعكاسات الاتفاقية على مستوى الرفاه في لبنان, فقد استندت الى بنية المبادلات الخارجية الحالية للبنان التي تظهر ان دول الاتحاد الاوروبي تشكل المصدر الاول لوارداته, في حين انها سوق ثانوية لصادراته. وتظهر احصاءات النصف الثاني من التسعينات ان هذه الواردات تتوزع مناصفة بين دول الاتحاد الاوروبي من جهة, وبقية دول العالم, من جهة ثانية. اما الصادرات اللبنانية, فان دول الاتحاد الاوروبي لا تستوعب سوى 17% منها, في حين تستوعب الاسواق الاقليمية اكثر من نصفها, وتتوزع هذه الاخيرة بنسبة 17% على الدول المعنية بمشروع الشراكة, وبنسبة 37% على بقية الدول العربية.
وفي حال توقيع الاتفاقية, فانه ينجم عنها ازالة فورية للرسوم الجمركية التي تؤديها الصادرات اللبنانية الى الاسواق الاوروبية. وهي لا تتجاوز نسبة 3%, كما سبقت الاشارة لذلك. كذلك يترتب عليها خفض تدريجي للرسوم الجمركية التي تدفعها المنتجات الاوروبية لولوج السوق اللبنانية. وتبلغ وسطيا نسبة 15%. ويؤدي توقيع الاتفاقية الى زيادة الاستيراد من اوروبا, أي الى خلق تبادل. الا ان هذه الزيادة تكون على حساب الواردات من بقية دول العالم, أي ان الاتفاقية تتسبب ايضا بتحويل التبادل. اما بالنسبة للصادرات, فان للاتفاقية اثران متعارضان. ويتمثل الاثر الاول, بحفز الصادرات الذي يفترض ان تؤدي اليه. فالمقاربة الليبرالية للتجارة الدولية تعتبر ان تحرير هذه التجارة يؤدي حكما لزيادة حجم التبادل لكل المشاركين فيها على قاعدة تخصص كل منهم وفقا لميزاته النسبية. اما الاثر الثاني, فيتمثل بانخفاض الانتاج والصادرات لازدياد المنافسة الخارجية التي يتعرض لها المنتجون المحليون.
وقد اظهرت دراسة اجريت عام 1996([11]) انه ينجم عن توقيع الاتفاقية ارتفاع للواردات من الاتحاد الاوروبي بنسبة 23%. لكن وبما ان هذه الزيادة تكون على حساب بقية العالم, فان الارتفاع المرتقب للواردات لن يزيد عن 5,0%. اما الصادرات, فان الدراسة ترصد أثرين ايجابيين للاتفاقية عليها:
1) زيادة قدرتها التنافسية, بسبب ازالة الرسوم الجمركية على المدخلات التى تستخدمها؛
2) اعتماد قواعد منشأ جديدة تجعلها اكثر قدرة على ولوج الاسواق الاوروبية. لكن الدراسة لا تتوقع زيادة ملحوظة لهذه الصادرات. وينجم عن توقيع الاتفاقية تراجع لمستوى الرفاه يمثل نسبة 3,0% من حجم الانفاق لسنة الاساس, أي لعام 1996, لأن الاعباء المترتبة على تحويل التبادل تتجاوز المنافع الناجمة عن خلق التبادل.
الا ان الدراسة نفسها تعرض سيناريوها آخر يفترض تحريرا للمبادلات مع الدول الاقليمية يتزامن مع توقيع اتفاقية الشراكة. وفي هذه الحالة يكون تحويل التبادل اقل اهمية, وينجم عن ذلك ارتفاع لمستوى الرفاه بنسبة 6,0%.
وتظهر الدراسة ايضا, المنفعة الناجمة عن عدم توقيع الاتفاقية المقترحة, والابقاء على الاتفاقية الحالية, أي اتفاقية 1977. وتمنح هذه الاخيرة افضلية للسلع الصناعية اللبنانية في اسواق اوروبا من دون اشتراط المعاملة بالمثل للسلع الاوروبية التى تدخل السوق اللبنانية, كما سبقت الاشارة لذلك. وفي هذه الحالة, تتوقع الدراسة ان تزداد الصادرات اللبنانية الى اوروبا, لكن زيادة الرفاه المتوقعة تكون محدودة للغاية (1,0% من الانفاق) لضعف حصة الاسواق الاوروبية من هذه الصادرات. وخلاصة الامر, ان السيناريو الافضل الذي تقترحه الدراسة للبنان, من وجهة نظر الرفاه, يتمثل بتحرير التبادل مع الدول الاوروبية والدول الاقليمية في الوقت عينه.
وعلى مستوى الايرادات الجمركية
اما بالنسبة لاثر الاتفاقية على مستوى الايرادات الجمركية, فقد اظهرت دراسة اجريت عام  1997([12]) ان مستوى هذه الرسوم يتراوح بين 2% كحد ادنى و 100% كحد اقصى, وان شريحة الرسوم التي تقع تحت مستوى الـ 30 % تؤمن نسبة 60 % من الايرادات الجمركية. واخذا بالاعتبار للتدرج في خفض الرسوم الذي تعتمده الاتفاقية, فان انخفاض الايرادات الجمركية يكون محدودا في البداية, ولا يتجاوز نسبة 2,0% من الناتج في السنة الثالثة بعد توقيعها, ليبلغ نسبة 2,4% من الناتج خلال السنة الاخيرة من الحقبة الانتقالية. أي ان وتيرته تتسارع خلال السنوات الثلاث الاخيرة من مهلة الـ12 سنة المحددة لازالة الرسوم بالكامل.

والتعويض الذى تحققه المساعدات
ولقد حاولت دراسة اخرى([13]) تحديد مدى التعويض عن خسارة الايرادات الجمركية الذي تؤمنه المساعدات المالية من الاتحاد الاوروبي للبنان. واظهرت ان حجم هذه الاخيرة لا يمكن ان يتجاوز الـ2% من الناتج, وانه بالتالي يبقى قاصرا عن تغطية الخسارة في الايرادات الجمركية الناجمة عن تحرير التبادل.

وعلى معدل حماية الصناعة اللبنانية:
ومن جهة اخرى, حاولت دراسة رابعة([14]) تحديد أثر الخفض التدريجي للرسوم الجمركية على معدل الحماية للصناعة اللبنانية, وبالتالي أثره على القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية. وقد احتسب معدو الدراسة معدل حماية فعليا للصناعات اللبنانية يستند الى معطيات مأخوذة من واقع دول اخرى هي مصر وتونس والاردن, مبررين ذلك بعدم توفر معطيات مشابهة في لبنان([15]). وقد بينت الدراسة: 1) ان انخفاض معدل الحماية الفعلية الناجم عن توقيع الاتفاقية يكون ضعيفا خلال السنوات الخمس الاولى من الحقبة الانتقالية, مما يعطي الصناعات اللبنانية مهلة اضافية لاعادة هيكلة نفسها؛ 2) ان انخفاض معدل الحماية هذا يصبح حادا خلال السنوات الثلاث الاخيرة من المهلة الانتقالية, ويبلغ 70% خلال السنة الاخيرة منها.

تأكيد الأثر السلبي للاتفاقية
ويمكن ايراد نتائج دراسة اخيرة([16]) في باب رصد الآثار الستاتيكية لتوقيع الاتفاقية تعتمد معطيات مختلفة بعض الشيء عن تلك التي سبق ذكرها. وتعتبر الدراسة المذكورة ان معدل الرسوم الجمركية يبلغ وسطيا 10%. وتمثل الايرادات الجمركية 55% من مجموع المداخيل الضريبية. وعلى اعتبار ان الواردات من اوروبا ترتفع بنهاية الحقبة الانتقالية من 50% من المجموع الى 80% منه, فان خسارة الايرادات المترتبة على توقيع الاتفاقية سوف تبلغ 44% منها. اما بالنسبة لاثر الاتفاقية على حماية الصناعة المحلية, فان الدراسة المذكورة تتوقع تراجعا كبيرا للانتاج المحلي كنتيجة لها. وهي تعقد مقارنة بين منافع الاتفاقية وبين آثارها السلبية. وتختصر المنافع بخلق التبادل الذي تؤدي اليه الاتفاقية, أي بزيادة الاستهلاك للسلع الاوروبية على حساب السلع اللبنانية المماثلة. وتتوقع الدراسة زيادة لحصة الاولى من 3,33% الى 3,63% من مجموع الاستهلاك بنهاية المرحلة الانتقالية. في حين تتراجع حصة الانتاج الداخلي في الاستهلاك المحلي من 33,33% الى 3,18% بنهاية الحقبة الانتقالية. ويترتب على هذا الاستبدال للسلع اللبنانية بسلع اوروبية اقل كلفة, منفعة تقدرها الدراسة بـ60 مليون دولار سنويا.
اما الآثار السلبية المترتبة على الاتفاقية فتعود لامرين:
1) تراجع الانتاج الداخلي؛
2) تحويل التبادل. وتقدر الدراسة خسارة القطاع الصناعي لحصته من السوق المحلية بنسبة 45% منها. وهي تقدم ارقاما مرتفعة لهذه الخسارة, ولتلك الناجمة عن تحويل التبادل, أي المترتبة على احلال سلع اوروبية محل السلع الآتية من بقية دول العالم.

وبالتالي, وفي حين يكون الربح شبه معدوم او هامشيا, فان الخسارة المترتبة على توقيع الاتفاقية تبلغ 6 % من الناتج, في حال ازيلت الرسوم على السلع الاوروبية فقط, و 5,3 % من الناتج, في حال جرى تحرير التجارة الخارجية اللبنانية ككل, أي ازالة الرسوم على السلع المستوردة من بقية دول العالم. وتخلص الدراسة الى ضرورة زيادة التصدير وزيادة الاستثمار, بدرجات عالية, لتعويض الخسارة الناجمة عن توقيع الاتفاقية.

يقابله انحياز لجانب الاتفاقية
ويمكن الاشارة الى موقف اخير في هذا المجال([17]), ينطوي على تقويم ايجابي لانعكاسات الشراكة. ويؤكد هذا الموقف على:
1) ان المنافع المترتبة على خلق التبادل تعوض خسارة الايرادات الجمركية؛
2) ان الخسارة المترتبة على تحويل التبادل تكون حتما أقل لو اعتمد مدى زمني اطول في قياسها, وذلك بسبب الدخول المتوقع لدول اوروبا الشرقية والوسطى الى الاتحاد الاوروبي, مع ما يستتبعه ذلك من فعالية اكبر وكلفة اقل للسلع المنتجة داخل اطار الاتحاد. أما خسارة الايرادات الجمركية, فالى جانب انها لا تتم فعليا الا خلال السنوات الثلاث الاخيرة من الفترة الانتقالية, فان مدى هذه الفترة بالذات يمنح وقتا كافيا لتعويضها, من خلال تحقيق الاصلاح الضريبي واستبدال الرسوم الجمركية بالضريبة على القيمة المضافة. أما الكلفة التى يرتبها الدخول في الشراكة على القطاعات الانتاجية, فهي أمر مؤكد, لأن تخفيض الحماية الجمركية وازالتها يؤثران حتما على انتاجية ومداخيل قطاعات معينة. لكن الاستثمارات التى تهجر هذه القطاعات, تتجه نحو قطاعات اخرى تتمتع بميزات نسبية. ويوفر التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية الذي تأخذ به الاتفاقية, الوقت الكافي لاتمام عملية اعادة الهيكلة هذه, ولتنفيذ التدابير الحكومية التى تتيح تحسين مستوى المؤسسات الانتاجية. وقد وجدت هذه القناعة بايجابيات الدخول في الشراكة تعبيرا عنها في برنامج العمل الذى اعدته وزارة الاقتصاد والتجارة خلال صيف العام 2000, بهدف تحقيق انخراط لبنان في الشراكة الاوروبية المتوسطية([18]).

تقويم الانعكاسات بما هو ابعد من المقاربة الستاتيكية
إلا ان تقويما أشمل للمنافع والاعباء المترتبة على الدخول في الشراكة, يتطلب الاخذ بالاعتبار للمنافع الديناميكية التي تنجم عنها, المتمثلة بالحفز الذي يفترض ان تؤدي اليه للنمو الاقتصادي في لبنان.
وتتيح لنا المقاربة الديناميكية والمقاربة المحدثة حصر الانعكاسات الايجابية المتوقعة للاتفاقية تحت عنوانين:
1) المنافع الديناميكية التقليدية؛
2) المنافع المتوقعة من الفقرات الخاصة التي تتضمنها الاتفاقية.

المنافع الديناميكية التقليدية
وقد سبقت الاشارة الى أن المنافع الديناميكية تختصر بـ:
1) تحقيق وفورات الحجم؛
2) زيادة حجم الاستثمار؛
3) تعزيز المنافسة او ازالة الاحتكارات. ويتطلب تحقق كل من هذه الامور توفر شروط تجعلها ممكنة.
وبالنسبة لوفورات الحجم, فان تحققها يتطلب غالبا ان يكون متاحا للمؤسسات ان تمارس نشاطها الانتاجي على مستوى يتجاوز نطاق السوق المحلية الضيق, أي على المستوى الاقليمي. وينبغي بالتالي ان تأخذ اتفاقيات الشراكة المعتمدة بمبدأ تراكم قواعد المنشأ Cumulation of origin rules , وان يصار لتضمينها اياه. وهو ما لم تأخذه بالاعتبار اتفاقية الشراكة المقترحة, كما سبقت الاشارة لذلك. وقد طالب الصناعيون اللبنانيون والسوريون في لقاء جمعهم في اواخر شهر تموز 2000 باعتماد شهادة المنشأ التراكمية في عمليات التصدير التى يحققها كل من البلدين نحو الاسواق الخارجية, واخذ هذا المبدأ بالاعتبار في الاتفاقات الدولية التي ستوقع([19]).
امـا بالنسبة لزيـادة حجم الاستثمـار التي تنشأ عن توقيع الاتفاقية, فان لا شيء يؤكد انهـا ستكون لمصلحة لبنان. وبكلام آخر, فـانه قد يترتب على توقيع الاتفـاقية جذب للاستثمارات تستفيد منه دول اوروبا بدل ان يستفيد منه لبنان, لأن هذه الدول تمتلك مزايا لاجتذاب رأس المال اهم من تلك التي يمتلكها هذا الاخير. ويضع المختصون هذا الامر في خانة ما يسمونه اشكالية “المركز والاطراف” The hub and the spokes, والتي يراد من خلالها الاشارة الى أن زيادة الاستثمار تحصل منطقيا في الدول الموقعة للاتفاقية الاكثر تقدما. ويرتب هذا الاستنتاج على الدول الاقل تقدما, ومنها لبنان, مسؤولية اعتماد سياسات مرافقة لتوقيع الاتفاقية تتيح لها تلافي هذا الامر.
اما بالنسبة لتعزيز المنافسة التي يفترض ان تؤدي الاتفاقية اليه, فانه ينتج عن كونها تعطي مسوغا لتحقيق الاصلاحات التي تتناول مؤسسات القطاع العام وتؤدي لازالة الاحتكارات القائمة. ويعتبر ممثلو الاتحاد الاوروبي والبنك الدولي هذا الامر من بين اهم النتائج التي يرتبها توقيع الاتفاقيات المقترحة.
المنافع المتوقعة من الفقرات الخاصة في الاتفاقية
اما المنافع الديناميكية التي ترتبها الاتفاقية الخاصة بلبنان دون غيرها من الاتفاقيات المقترحة على دول جنوب وشرق المتوسط, فانها تعود الى تضمينها فقرات تتناول:
1) تحقيق توافق وتطابق التشريعات التي يأخذ بها الطرفان؛ 2) تعزيز تجارة الخدمات.
وتجعل الفقرات التي تتناول تحقيق التطابق بين التشريعات القائمة من الاتفاقية المقترحة اكثر من اتفاقية انشاء منطقة تبادل حر بالمعنى التقليدي للكلمة, حيث يقتصر التحرير على “ازالة الحواجز على الحدود”, ويكون معنيا بتحرير تبادل السلع, ليس اكثر. أي ان الاتفاقية تؤسس لشكل من التكتل او الاندماج “العميق” لا “السطحي” بين الطرفين. وتظهر المقارنة ان مسودة الاتفاقية هذه تمتاز عن تلك التي سبق توقيعها مع تونس على سبيل المثال, لجهة تضمينها مبدأ تحقيق مطابقة التشريعات الوطنية مع تلك التي تأخذ بها اوروبا([20]), الامر الذي يعطيها قدرة اكبر على اجتذاب الاستثمارات, وتسهيل ولوج المنتجات اللبنانية الى الاسواق الاوروبية, ويعزز قدرتها على الاسهام برفع مستوى النمو في لبنان.
كذلك, تفرد الاتفاقية المعروضة على لبنان حيزا منها لعرض عدد من الاجراءات الخاصة بتحرير تجارة الخدمات. وتكمن اهمية عملية التحرير هذه بانها تعزز التقدم التقني في هذا القطاع, من خلال تسهيل حركة عوامل الانتاج المرتبطة به بين دول اوروبا من جهة, وبين لبنان من جهة اخرى. الامر الذي يخول لبنان ان يتنطح مجددا لاحتلال موقع فاعل, كمركز اقليمي للخدمات.
ويمكن الاشارة ايضا, الى المنافع التى يحققها لبنان من استخدام الاشكال المتعددة للتعاون التى تنطوي عليها الاتفاقية, ومن المساعدات التى تتيحها. ويصنف البعض الاستفادة من المساعدات المالية التى توفرها الاتفاقية, كاحد اهم المنافع التى تنجم عن توقيعها. ويمكن اخيرا الاشارة الى المنفعة التي يوفرها توقيع الاتفاقية للبنان, الناجمة عن المصداقية التي يضفيها على السياسة الحكومية المتبعة في هذا المجال وعلى القائمين عليها. ويمثل هذا الامر عاملا رئيسيا من عوامل جذب الاستثمارات. وهو ما تركز على ابرازه المقاربة المحدثة للمنافع المترتبة على الدخول في التكتلات الاقتصادية الاقليمية, كما سبقت الاشارة لذلك([21]).

ب- الانعكاسات المتوقعة لاتفاقية الشراكة المقترحة على سوريا
مثلت زيادة المنافسة التى تنجم عن توقيع الاتفاقية المسألة الاكثر اثارة لاهتمام المراقبين السوريين, في معرض تقويمهم لانعكاساتها المتوقعة. وقد استقطبت انتباههم التأثيرات المتناقضة التى تنجم عنها.
واعتبر هؤلاء ان قيام منطقة تجارة حرة بين اوروبا وسوريا, سيعني ان هذه الاخيرة تستورد المنافسة الى عقر دارها([22]), في حين ان الاتفاقية لا تقدم شيئا جديدا للصادرات السورية نحو اوروبا. كما جرت الاشارة الى ان الدراسات الخاصة بتونس توقعت انهيـار ثلث نسيجهـا الصناعي وتهديد الثلث الثاني ما لم يدعم, بنتيجة الاتفاقية, وانه يمكن توقع النتيجة ذاتها على الاقل, بالنسبة لسوريا. واعتبرت الصناعات البديلة للاستيراد, الاكثر عرضة للانهيار, لتبعيتها المفرطة تجاه المدخلات المستوردة.
أما الاثار المترتبة على تحرير تجارة الخدمات, من خدمات الاتصالات الى الخدمات المالية والمصرفية والتأمين والنقل, فقد أكد آخرون الى انهـا ستكون سلبية, لعجز قطاع الخدمات السوري عن منافسة المؤسسات الاوروبية العاملة في هذا المجال([23]).
لكن زيادة المنافسة الناجمة عن الدخول في الشراكة, بقدر ما بدت شأنا سلبيا, لانها تعرض النسيج الانتاجي الوطني للخطر, فانها بدت ايضا شأنا ايجابيا, لانها تشكل حافزا للمؤسسات الانتاجية لاعادة هيكلة نفسها, والارتقاء بمستواها وتطوير انتاجيتها. وهي ايضا حافز لاعادة تخصيص الموارد وتوجيهها نحو القطاعات التى تتمتع فيها سوريا بميزات نسبية.
وقد اشير ايضا الى أثرين اضافيين للاتفاقية لهما آثار سلبية صريحة على سوريا, وهما:
1) التسبب بتدهور اضافي لميزان المدفوعات السوري؛
2) ترتيب اعباء اضافية على موازنة الدولة لمواجهة آثار الاتفاقية.
أما تدهور ميزان المدفوعـات, فينجم عن ازدياد الاستيراد من دول الاتحاد الاوروبي. وستضطر الحكومة من جهة اخرى, لزيادة نفقاتها للاسهام باعادة هيكلة المؤسسات الانتاجية وتطوير البنى التحتية والخدمات وتطوير الأداء الاداري, بهدف تحسين المناخ الاستثماري في سوريا, ولمواجهة الآثار الاجتماعية لتحرير التجارة.
إلا ان القراءة للانعكاسات الملتبسة للاتفاقية لا تبرر الدعوة لتجاهلها, خصوصا وان استمرار صيغة التعاون الاحادية الجانب المتمثلة باتفاقية 1977 غير قابلة للاستمرار, وان ضرورات التكيف مع العولمة, التى تشكل الشراكة مع اوروبا جزءاً منها, تمثل استحقاقا لا يمكن التهرب منه. أما الخلاصة التى تترتب على ذلك, فهي الدعوة لكي تعمد سوريا لاتخاذ الاجراءات الكفيلة باعادة هيكلة الاقتصاد السوري, لتأمين جهوزية البلاد لمواجهة هذا الاستحقاق.
وتصلح العناصر التى استخدمت لمناقشة انعكاسات الاتفاقية اللبنانية من وجهة نظر ديناميكية, لتقويم الانعكاسات الممكنة للاتفاقية المقترحة على سوريا. وتأتي المنافع المترتبة على وفورات الحجم وزيادة الاستثمار وتعزيز المنافسة والتقدم التقني في طليعة النتائج التى يمكن توقعها من الاتفاقية. وكذلك الامر بالنسبة للمنافع المترتبة على المساعدات التى توفرها الاتفاقية, المالية من جهة, والتقنية والقانونية والادارية من جهة ثانية, والتى يعتبرها البعض اهم ما توفره الاتفاقية لسوريا([24]). إلا ان تحقق هذه المنافع يفترض توفر شروط جرت الاشارة اليها سابقا. وبالتالي, فان تضمين الاتفاقية فقرات تتناول تحقيق المطابقة بين التشريعات السورية والاوروبية, يبدو شرطا اساسيا لتحقيق الاستفادة منها.

3- ­ المفاوضات بشأنهما
أ- ­ التحضيرات لتوقيع الاتفاقية المعروضة على لبنان والنقاط التي يتم التفاوض حولها
المفاوضات بين عامي 1995 و1998

بدأت المفاوضات حول اتفاقية الشراكة المقترحة في تشرين الثاني من عام 1995. وقد عقدت اربع جولات من المفاوضات الرسمية بين الطرفين حتى نيسان من عام 1998, تــاريخ تـوقف هذه المفــاوضـات. وكــانت الحكـومة اللبنـانية فـي حينه قــد طـالبت:
1) باطالة فترة السماح التي تسبق البدء بتنفيذ التخفيض الجمركي على السلع الصناعية. وحصلت على موافقة مبدئية باطالة هذه الفترة الى خمس سنوات لا يسري خلالها التخفيض؛
2) بزيادة المعونة المالية المقدمة من الاتحاد. وقد اعتبر الطرف اللبناني ان المعايير التى يأخذ بها الاتحاد عادة, لتحديد حجم المساعدات التى يقدمها للدول الموقعة لاتفاقيات الشراكة, لا تنصفه. وهي معايير تأخذ بالاعتبار عدد السكان, والتقدم في مجال تحقيق الاصلاحات, ومستوى الفقر في الدول المعنية, لتحديد حجم المساعدات المقررة لها. وقد طالبت الحكومة اللبنانية بمبلغ مقطوع ربطت مستواه بحجم العجز التجاري للبنان مع دول الاتحاد. وهو ما رفضه هذا الاخير. الامر الذى برر للحكومة اللبنانية ايقاف المفاوضات. وكان ثمة امور اخرى طالب بها لبنان, منها تسهيل دخول السلع الزراعية اللبنانية الى السوق الاوروبية, واطالة فترة السماح بشأن تطبيق قواعد المنشأ الاوروبية, واعطاء العمال اللبنانيين في اوروبا الحقوق نفسها التى انطوت عليها الاتفاقيات الموقعة مع تونس والمغرب بهذا الشأن. ولم يتجاوب الاتحاد مع هذه المطالب([25]).

تأجيل المفاوضات مجدداً من عام 1998 الى عام 2000:
وقد انتظرت الحكومة اللبنانية التالية حتى العام 2000 لتبدأ بالاهتمام مجددا بموضوع الشراكة. وقد برّرت هذا التأخير برغبتها باستكمال التحضيرات قبل معاودة المفاوضات بهذا الشأن([26]). ومن هذه التحضيرات:
1) إدخال الضريبة على القيمة المضافة, كأحد عناصر الإصلاح الضريبي الوارد في برنامج التصحيح المالي الذي وضعته موضع التنفيذ. وذلك للتعويض عن الآثار المالية السلبية للتحرير التجاري مع الاتحاد الأوروبي, الذي يستورد لبنان من دوله اكثر من 45% من مجمل وارداته؛
2) رفع مستوى القطاعات الانتاجية وتحسين قدرتها التنافسية. وقد اعتبرت الحكومة ان الخصخصة هي المدخل الرئيسي لتحقيق هذا الهدف. كما انها قدمت اسباباً إضافية لتفسير تأخرها في إعادة إطلاق المفاوضات. واهم هذه الاسباب, عدم حسم النقاش بخصوص عدد من النقاط الخلافية بين الطرفين, ومنها: 1) مطالبة لبنان بتطبيق مبدأ التراكم الاقليمي لقواعد المنشأ كمدخل لتفعيل التجارة العربية؛ 2) موضوع دخول المنتجات الزراعية اللبنانية الى اسواق الاتحاد الأوروبي وموضوع تنقل الأشخاص بينهما؛
3) مطالبة لبنان بان يعتمد الاتحاد الاوروبي معايير خاصة لافادته من المساعدات, تختلف عن تلك التي يعتمدها مع البلدان ذات الاقتصادات المغلقة. وقد شكل تأخّر توفير المساعدات المدرجة في برنامج ميدا 1, والتي يعول عليها لتحسين قدرة المؤسسات الإنتاجية على مواجهة تحدّي الشراكة, سبباً إضافياً برّر للحكومة تأجيل معاودة المفاوضات. علما ان البرنامج المذكور كان قد لحظ مساعدة مخصصة لتمويل دراسة آثار الاتفاقية على القطاعات الاقتصادية اللبنانية.
التطورات خلال عام 2000:
وقد جاءت مناسبة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان لتجعل الجانب اللبناني يهتم مجددا بـاستدراج مسـاعدات من الاتحـاد الأوروبي لإعـادة اعمار الجنوب, خصوصاً وان دول الاتحاد كانت قد اكدت في اجتماع لشبونة على التزامها بتسريع وتكثيف المساعدات الى لبنان في مرحلة ما بعد الانسحاب. وقد تمّ الاتفاق في بروكسيل خلال شهر تموز على لحظ تمويل ضمن إطار برنامج ميدا 2 لتطوير قطاع المعلوماتية في لبنان. وخلال شهر آب من العام 2000 بدأ لبنان باستخدام القرض الذي قدمه البنك الاوروبي للاسهام بتحديث الصناعة اللبنانية, والذي تبلغ قيمته 30 مليون اورو. وكان مجلس النواب قد وافق عليه خلال شهر تموز من العام ذاته. كذلك تسلم لبنان في شهر آب الدفعة الاولى من هبة اوروبية مقدارها 50 مليون أورو, مخصصة لاهداف التصحيح الهيكلي, تندرج ضمن اطار برنامج ميدا. علما ان المبالغ التى كانت قد رصدت له, ابتداء من عام 1995, ضمن اطار البرنامج ذاته, بلغت 185 مليون اورو([27]).
وخلال صيف العام 2000, عرضت الحكومة اللبنانية الخطوات التى حققتها في مجال التهيؤ للبدء بالمفاوضات, وهي: قرب انجاز مشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة, واقرار قانون الخصخصة, والبدء بتحضير قانون المنافسة. إلا انها اعتبرت, على لسان الوزير السعيدي, بأن ثمة امورا عـالقة, جوهرية واساسية, ما تزال تعيق تقدم هذه المفاوضات. واشار الوزير السعيدي الى ان الاتحاد الأوروبي قدم اقتراحات جديدة عالجت نقاطا خلافية, كقضايا المنافسة والهجرة غير الشرعية وحقوق العمال. إلا ان ثمة اموراً اخرى ذات علاقة بالتبادل الزراعي والصناعي والخدمات تتطلب متابعة التفاوض بشأنها. ويستوجب ذلك ان تحضر الحكومة اللبنانية الملفات العائدة لهـا. الامـر الذي يتطلب وقتـا, ويجعل متـابعة المفـاوضات متعذرة قبل مرور بعض الوقت.
جولة مفاوضات آخر ايلول 2000:
وقد كانت اللقاءات التى تمت في آخر شهر ايلول 2000, بين الوفدين الاوروبي واللبناني, في بيروت, مناسبة لاستعراض النقاط العالقة في المفاوضات, والاصلاحات المطلوبة من لبنان, ولمناقشة موضوع الاسهام الاوروبي في انماء الجنوب([28]).
وقد اشار الطرف اللبناني المفاوض, الى ان لبنان لن يلتزم بأي شيء في مجال تحرير تجـارة السلع الصنـاعية, ومجال التخفيض الجمركي الذى يتطلّبه ذلك, قبل اتمـام التحضيرات الـداخلية اللازمة. وهي تتنـاول ادخـال الضريبة على القيمة المضـافة, واعادة هيكلة التعرفة الجمركية المعمول بها, واجراء دراسات عن تأثير الاتفاقية على القطاعات الانتاجية, والاتفاق مع هيئات القطاع الخاص على جدول التخفيض الجمركي, استنادا لهذه الدراسات. كما انه ادرج مسألة تكثيف برامج التحديث للقطاعات الانتاجية وخصوصا الصناعة, كعنصر رئيسي من عناصر هذه التحضيرات. واكد الوفد الاوروبي استمرار الدعم التقني الذى الاتحاد يقدمه في مجالات الضريبة على القيمة المضافة وهيكلة التعرفة الجمركية وبرامج التحديث الصناعي.

أما في المجال الزراعي, فقد ذكّر الطرف اللبناني بما تحقق, أي استبدال القيود الكمية واجراءات منع الاستيراد بتعرفات جمركية. وطالب بان لا تقل الكميات المصدرة من لبنان الى دول الاتحاد عن 10 % من فائضه الانتاجي, وان تخفض الشروط والمعايير المفروضة على صادراته هذه, وان يستفيد من دعم تقني لدراسة الاسباب التى تعيق تصدير فائضه الزراعي الى دول الاتحاد الاوروبي. وكان سبق له ان تبنى مبدأ تأمين حماية للفروع الزراعية التى يمتلك فيها ميزة نسبية قبل توقيع الاتفاقية. خصوصا وان اوروبا تستثني قطاعها الزراعي من عملية تحرير التبادل. أما في مجال قواعد المنشأ, فقد طالب لبنان بان تمدد الفترة التى يسمح له خلالها بان يستثنى من تطبيق هذه القواعد, وبان يستفيد من دعم تقني يتيح ايضاح كيفية تطبيقها للصناعيين اللبنانيين. وفي مجال التعاون المالي, طالب لبنان بتسريع المساعدات:
1) لدعم اجراءات الخصخصة والاصلاح الضريبي؛
2) لدعم عملية تحسين القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني؛
3) لانماء المناطق المحررة. وقد اظهرت المفاوضات ان الطرف اللبناني يعتبر ان التحضّر للشراكة يجب ان يتلازم مع الانخراط في منطقة التجارة الحرة العربية من جهة, والتفاوض للانضمام الى منظمة التجارة العالمية, من جهة اخرى.
مسؤولية الادارة اللبنانية عن بطء تقدم المفاوضات
وقد عكس برنامج العمل الذى اعدته وزارة الاقتصاد والتجارة, بخصوص الانضمام الى مشروع الشراكة خلال صيف العام 2000, قناعة معدّيه بان الحكومة اللبنانية تتحمّل مسؤولية البطء في تقدم المفاوضات المعنية, واقرارا منهم بان ثمة عقبة اساسية تعترض هذا التقدم, وتتمثل بضعف الجهاز الاداري الذى يتولى المفاوضات, وضعف المامه بمواضيع الشراكة, وبغياب التنسيق والتشاور بين الادارات المعنية بملف الشراكة ومع القطاع الخاص([29]).


ب-­ الحوار حول الشراكة مع سوريا, خلال حقبة ما بعد العام 1995
اتفاقية عام 1977 وواقع التبادل بين الطرفين
على شاكلة ما كان قد تم بالنسبة للبنان, وقعت سوريا عام 1977 اتفاقية تعاون مع اوروبا بالشروط ذاتها التى انطوت عليها الاتفاقية مع لبنان. أي ان الاتفاقية المذكورة نصت على منح تخفيضات جمركية للصادرات الصناعية السورية الى اوروبا دون اشتراط المعاملة بالمثل, تطبيقاً لـ “نظام المعاملة التفضيلية المعمم” الذى طبقته في تعاملها مع الدول النامية.
وقد مثل الاتحاد الاوروبي خلال التسعينات العميل التجاري الاول لسوريا. ومثلت صادراتها اليه نسبة 60 % من مجموع الصادرات السورية. وكانت هذه الصادرات في غالبيتها الساحقة, موادا أولية. وقد بلغت حصة النفط الخام نسبة 85 % منها, وحصة الفوسفات والصوف الخام والقطن الخام والجلود 11 % منها. أما منتجات الصناعات التحويلية المتمثلة بالمنسوجات القطنية والالبسة, فلم تتجاوز حصتها الـ4 % من المجموع. أما الواردات السورية من دول الاتحاد الاوروبي, فقد مثلت خلال التسعينات نحو ثلث مجموع الواردات. وبالمقارنة مع لبنان, فان سوريا كانت تصدر حصة اكبر من مجموع صادراتها نحو اوروبا, وتستورد منها حصة اقل من وارداتها.
وقد شهدت الحقبة التى تلت عام 1995([30]), لقاءات بين مسؤولي الطرفين تناولت مسألتين:
1) برامج التعاون والمساعدات التى أقرها الاتحاد الاوروبي لمصلحة سوريا؛
2) المفاوضات لتوقيع اتفاقية شراكة بين الطرفين.

التقدم خلال عام 1996
وشهد عام 1996 بدء المفاوضات بين الاتحاد الاوروبي وبين سوريا, ضمن اطار مجلس التعاون الاوروبي­السوري, الذى يرأسه بالتناوب وزير خارجية كل من الطرفين. وتم خلال العام نفسه تأكيد مجموعة من المساعدات:
1) لتحديث قطاع الكهرباء؛
2) لتحديث القطاع المصرفي؛
3) لتأسيس مركز اعمال سوري­ اوروبي, يقدم الدعم لقطاع الاعمال السوري, عبر الخدمات الاستشارية التى يوفرها لرجال الاعمال السوريين. وقد تم بالفعل اطلاق هذا المركز خلال السنة ذاتها.

الموافقة عام 1997 على البدء بالتفاوض:
وقد اقتضى الامر انتظار عام 1997, لكي تعلن سوريا رسميا موافقتها على البدء بالتفاوض لتوقيع اتفاقية الشراكة. وهي كانت بالتالي, الاخيرة بين الدول العربية لجهة الشروع بالمفاوضات. وكانت المفاوضات خلال العام ذاته, مناسبة للمطالبة بمساعدات توازي ما تخسره الخزينة من واردات جمركية نتيجة توقيع الاتفاقية, وللمطالبة بمساعدات فنية تتيح الارتقاء بالمستوى التقني للمؤسسات, توازي ما سبق ان طالبت به مصر, أي 20 الى 30 مليار دولار.
النسخة رقم صفر:
وقد شهد الفصل الاول من عام 1998 افتتاح مركز المعلومات الاوروبي في مقر مركز الاعمال السوري الاوروبي, لتوفير معلومات للسوريين عن الشركات لدى الطرف الآخر. وبدأت مفاوضات الشراكة رسميا, خلال شهر نيسان من العام ذاته في بروكسل, مختتمة بذلك سنتين من المحادثات التمهيدية بهذا الشأن, اعتمد خلالها الطرف السوري اتفاقية الشراكة مع تونس كنموذج للدرس. وخلال شهر حزيران من العام ذاته, قدم الاتحاد الاوروبي اول مسودة او “النسخة رقم صفر” لاتفاقية الشراكة المقترحة, ليصار لمناقشتها. واعتبرت هذه النسخة صيغة معدلة قليلا عن الاتفاقية مع تونس. وقد بات هدف المحادثات منذ ذلك التاريخ, البحث في ما يمكن ان يقدمه الاتحاد الاوروبي لمساعدة سوريا على التهيؤ لتوقيع اتفاقية شراكة, ولمواجهة نتائج تحرير التبادل بين الطرفين.

تقويم القدرة التنافسية, والمساعدات والتحرير المتدرّج:
وقد انعقدت الجولة الثانية من المفاوضات حول الشراكة في خريف العام نفسه. وترأس الفريق السوري اليها, معاون وزير التخطيط. وانحصر الحوار بالسلع الصناعية, لاستثناء السلع الزراعية من عملية تحرير التبادل التى تقترحها اوروبا. وكان جدول اعمال تلك الجولة تعيين الصناعات القادرة على المنافسة وتلك التى تعجز عن ذلك, لتحديد شكل وحجم المساعدات الفنية التى يجب ان يتحملها الشريك الاوروبي. وقد تبين ان ثلث الصناعات القائمة فقط, قادر على المنافسة, في حين يحتاج الثلث الثاني الى اعادة هيكلة. وقد طالبت سوريا بناء على ذلك, بـ 4 مليارات دولار لاعادة تأهيل مؤسساتها الصناعية. كما طالبت باعتماد تدرج يتيح البدء بتحرير تبادل المواد الاولية, ثم المواد نصف المصنعة, على ان يأتي في وقت لاحق تحرير تبادل المواد المصنعة. وقدمت لائحة بالمنتجات التى ترغب بتأجيل البحث في تحرير تبادلها الى ما بعد التوقيع على الاتفاقية.
وفي الجولة الثالثة من المفاوضات التي انعقدت في الفصل الاول من عام 1999, ركز الجانب السوري مجددا على مسألة تقسيم المستوردات الى فئات يطبق كل منها جدولاً زمنياً محدداً للاعفاء التدريجي من الرسوم, وأكد على استثناء جزء من السلع من عملية التحرير المقترحة الى ما بعد توقيع الاتفاقية. أما الجانب الاوروبي, فقد اعتبر ان ازالة القيود الكمية القائمة واجراءات منع الاستيراد لبعض السلع, تعتبر شرطا لتوقيع الاتفاقية, علما انه يمكن تحويل هذه القيود الى رسوم جمركية, وادراجها ضمن الجدول الزمني للتخفيض المتفق عليه.

مشاريع التعاون والمبالغ المخصصة للمساعدات حتى عام 1999:
وقد انعقدت جولة رابعة من المفاوضات في آخر شهر من عام 1999. وتناولت الى موضوع تحرير التبادل التجاري, موضوعات انتقال رؤوس الاموال والاستثمار وقواعد المنشأ. وتم خلالها تبني مشروع تأهيل للمؤسسات شمل الوزارات الرئيسية والمؤسسات الحكومية, ومنها مكتب الاحصاء المركزي ومكتب الاستثمار والمصارف, رصدت مخصصاته من برنامج ميدا 2. وقد بينت نشرة اصدرتها بعثة المفوضية الاوروبية في دمشق, ان نشاطات التعاون التى يمولها الاتحاد تتناول:
1) الخبرات التى يقدمها في مجال التحديث الصناعي, المتمثلة خصوصا, بنشاطات المركز السوري الاوروبي للاعمال([31])؛
2) برنامج تحديث المؤسسات العامة, من المصرف المركزي الى المصرف التجاري السوري الى مكتب الاحصاء ودائرة السجل المدني؛
3) مساعدات تتناول القطاع الاجتماعي والبيئة, من خلال برامج الصحة الانجابية وتنظيم الاسرة ومعالجة النفايات, وتعزيز قيمة الموروث الثقافي, من خلال برامج تأهيل النقاط الاثرية. أما قيمة المشاريع التى تنفذ وتلك التى ينتظر تنفيذها, فتبلغ 200 مليون وحدة نقدية اوروبية.

الندوات المشتركة خلال عام 2000:
أما الجولة الخامسة من المفاوضات فقد كان مقررا لها ان تعقد خلال الفصل الاول من عام 2000. وقد عقدت ندوتان, نظمتهما بعثة المفوضية الاوروبية في دمشق بالاشتراك مع اتحاد غرف التجارة والصناعة السورية, في 22 كانون الثاني وفي 3 نيسان من العام نفسه, حول موضوع الشراكة. وخلال شهر نيسان, اعتبر رئيس بعثة المفوضية في دمشق, ان العلاقة مع سوريا تقوم على محورين:
1) متابعة التفاوض حول اتفاقية الشراكة؛
2) تقديم الدعم للاصلاحات الاقتصادية في سوريا. كما اعتبر ان ثمة بطء في تعاطي سوريا مع موضوع الشراكة, وبطء في عملية الاصلاح المطلوبة, التى من شأنها تأمين جهوزية هذا البلد للاستفادة من الاتفاقية. واشار الى ان الاتحاد الاوروبي خصص مساعدات بقيمة 130 مليون يورو, لم تكن سوريا قد استخدمتها الى حينه. ومن هذه المساعدات, مبالغ خصصت لتنفيذ 11 مشروعا اقرت ضمن برنامج ميدا 1, لفترة 1996 ­ 1999, تنتظر موافقة السلطات السورية لتنفيذها. في حين ان ثمة 7 مشاريع قيد التنفيذ, بقيمة 63 مليون يورو. ايضا ثمة مبالغ بقيمة مليار يورو, على شكل قروض من بنك الاستثمار الاوروبي, يمكن لسوريا الاستفادة منها, شرط تسوية اوضاعها مع دائنيها الاوروبيين. وخلال شهر نيسان, وقعت سوريا ميثاق اطار برنامج مساعدات, اتاح الشروع باطلاق المشاريع التى لم تنفذ, والتى سبق ان خصصت لها مساعدات من الاتحاد الاوروبي.

لجنة شراكة في وزارة التخطيط:
أيضاً, تمّ في ربيع العام 2000 تشكيل لجنة متخصصة بموضوع الشراكة السورية الاوروبية في وزارة التخطيط السورية, للاسهام ببلورة موقف سوري متكامل بخصوص مسألة الشراكة المقترحة. وقد عقدت هذه اللجنة اول جلساتها في حزيران من العام نفسه. وتعبر محاضر هذه الجلسات عن موقف سوري يؤكد على ضرورة استمرار حماية الفروع الانتاجية المختلفة في الصناعة والزراعة, من خلال الاستمرار بتطبيق اجراءات منع الاستيراد لبعض السلع الصناعية, واستمرار دعم صناعات اخرى, خلال فترة انتقالية محددة بعد توقيع الاتفاقية. كما تظهر ادراكا لضرورة رعاية الصناعات الناشئة, وبالاخص تلك التى تنتمي الى قطاع الصناعات الحديثة وذات التكنولوجيا العالية, وتلك التى تستند الى مزية الكفاءة البشرية, بدلا من مزية المادة الاولية. وذلك من خلال المطالبة بادراج نص صريح بهذا الشأن في متن الاتفاقية([32]).

III-­ الطرق المقترحة للتعاطي مع موضوع الشراكة
1- ­ الفوائد والاعباء المترتبة على مشروع الشراكة, بالنسبة لكل دول جنوب وشرق المتوسط:
أ- ­ التقويمات المختلفة للآثار المترتبة على مشروع الشراكة بالنسبة لكل دول جنوب وشرق المتوسط:
أجريت دراسات عديدة بهدف توضيح ما يرتبه قيام منطقة تبادل حر اوروبية­متوسطية, مـن انعكــاسـات على دول جنوب وشرق المتوسط مجتمعة, في مجالي التجارة و الاستثمار على وجه الخصوص. ويأخذ قسم من هذه الدراسات بالمنهجية ذاتها التي اعتمدت لدراسة آثار الاتفاقية على لبنان. أي ان هذه الدراسات تميز بين الآثار الستاتيكية والديناميكية لنشوء منطقة تبادل حر اوروبية­متوسطية. وهي تبرز ان الانعكاسات الستاتيكية المتوقعة هي سلبية بالاجمال, في حين ان تحقيق منـافع دينـاميكية للدول المعنية يبقى مرهونا بتوفر عدد من الشروط التى ما تزال غائبة.

المنافع الستاتيكية:
وتشير هذه الدراسات الى ان خلق التبادل, أي احلال سلع اوروبية محل السلع المحلية, الذي ينجم عن اقامة منطقة تبادل حر اوروبية متوسطية يكون محدودا([33]). وذلك لأن ما تستورده دول جنوب وشرق المتوسط من اوروبا لا يدخل في منافسة مع الانتاج المحلي لهذه الدول, لأن الطرفين لا ينتجان السلع ذاتها.
اما تحويل التبادل المترتب على نشوء منطقة التبادل الحر الاوروبية­المتوسطية, فيمكن ان يكون قويا, لأن السلع الاوروبية تدخل في منافسة مع السلع الآتية من بقية دول العالم, ومن بينها على وجه الخصوص, الدول الصناعية الأخرى والدول الصناعية الجديدة([34]). وقد اكد البعض انه لو تم اختصار تحرير التبادل الاقليمي الى آثاره لناحية خلق وتحويل التبادل فقط, لتبين انه لا يوفر لدول الجنوب أية منفعة تقريبا([35]), خصوصا وانه لا ينجم عن قيام المنطقة المذكورة سوى فتح اسواق الجنوب امام السلع الآتية من الشمال, بعد ان سبق فتح اسواق الشمال امام سلع الجنوب منذ اكثر من عشرين عـامـا, الى جــانب ان السلع الزراعية تبقى مستثناة من عملية التحرير المقترحة.

شروط تحقق المنافع الديناميكية:
أما بالنسبة للمنافع الديناميكية المترتبة على نشوء المنطقة المذكورة, فثمة توافق على انها قد تكون مهمة, شرط توفر عدد من الشروط التى تجعلها ممكنة. وقد بينت الدراسات انه من المستبعد ان تحقق المؤسسات الانتاجية الاوروبية وفورات حجم اضافية, كنتيجة لقيام هذه المنطقة. والاستنتاج نفسه ينطبق على مؤسسات دول جنوب وشرق المتوسط, الا اذا جرى الأخذ بمبدأ تراكم قواعد المنشأ في المبادلات بين طرفي المنطقة, كما سبقت الاشارة لذلك. علماً ان تحرير المبادلات الذي يتم بين الدول المتجاورة من منطقة جنوب وشرق المتوسط, هو الذي يمكن ان يوفر المجال الافضل للاستفادة من وفورات الحجم هذه.
اما بالنسبة لتأثير تحرير التبادل بين طرفي المتوسط على حجم الاستثمار, فيبدو منطقيا القول بان دول اوروبا هي التي تستفيد بوجه اولى من نمو الاستثمارات على مستوى المنطقة كلها. وذلك لانها الاكثر قدرة على انتاج مزيد من السلع التي يصبح ممكنا تصديرها دون اية عوائق الى دول جنوب وشرق المتوسط, بعد انشاء منطقة التبادل الحر المتوسطية. أي ان اشكالية “المركز والاطراف” التي سبقت الاشارة اليها, تحدد ايضا كيفية توزع الاستثمارات بين طرفي المتوسط.
اما بالنسبة لزيادة المنافسة وازالة الاحتكارات واعادة هيكلة المؤسسات الانتاجية التي يرتبها قيام منطقة تبادل حر اوروبية­ متوسطية, فلقد سبقت الاشارة الى ان افق الدخول في اتفاقية شراكة مع اوروبا يسهل عملية الاصلاح المطلوبة لدى دول جنوب وشرق المتوسط, لأنه يقنع القائمين على المؤسسات الانتاجية بجدواها وبالمنافع المترتبة عليها. علما ان تحقق كل هذه الامور يبقى مشروطا بتضمين الاتفاقيات المعقودة فقرات تتناول تحرير حق اقامة المشروعات, وتأمين تطابق المعايير, وتحرير تجارة الخدمات, الخ.


المقاربة القطاعية لانعكاسات الشراكة:
والى جانب هذه المقاربات, نجد دراسات اخرى قومت واقع الشراكة وآفاقها من خلال دراسة ما يرتبه نشوءها من نتائج على صعيد كل بمفرده من النشاطات الانتاجية في الاقتصادات المعنية.
وقد تبين على سبيل المثال انه لا يمكن اعطاء مضمون قوي ومحدد للشراكة بالاستناد الى واقع التعاون وآفاقه في مجال الطاقة([36]). وانه لا يمكن التعويل على الزراعة للغاية ذاتها, لأن الاتحاد الاوروبي يستثني السلع الزراعية من اجراءات تحرير التبادل التى يقترحها على دول جنوب وشرق المتوسط. ويبدو التحرير الكامل لتجارة السلع الزراعية غير مقبول عند طرفي المتوسط, كل لاسبابه الخاصة. الامر الذى يوحي بلزوم اعتماد سياسة تعاون في هذا المجال, ضمن اطار الشراكة, تتجاوز ما يمكن ان يؤمنه الركون الى قوى السوق بمفردها([37]). أما في مجال الاستثمارات, فلا تبدو دول جنوب وشرق المتوسط, فيما عدا اسرائيل وتركيا, جذابة بالنسبة للرساميل الاوروبية. وقد اجرت احدى الوكالات التابعة للبنك الدولي عام 1996, استطلاعا شمل ماية شركة متعددة الجنسية, للوقوف على خياراتها بخصوص الاستثمار في مجموعتي دول اوروبا الشرقية ودول جنوب وشرق المتوسط. ولم يرد غير اسم تركيا في لائحة الدول العشر الاولى التى تعتبرها هذه الشركات اماكن ممكنة لاستثماراتها([38]). وتبدو بالتالي صورة الشراكة قاتمة اذا ما اسست على الواقع القائم كما هو.
وقد ترتبت على هذا التقويم السلبي لواقع الشراكة وانعكاساتها مواقف تجسدت بـ:
1) اصدار حكم سلبي على المقاربة الليبرالية التي يأخذ بها مشروع الشراكة؛
2) اقتراح مقاربة بديلة للتعاطي مع موضوع الشراكة برسم دول جنوب وشرق المتوسط, تأخذ بنقيض ما تقترحه المقاربة الليبرالية, أي تقترح اعتماد سياسات حكومية مواكبة لعملية الانفتاح, تتعمد رفع مستوى تدخل هذه الدول في الاقتصاد الوطني ورفع مستوى الانفاق العام فيها, لتلبية حاجات تطوير الانتاج الوطني وتعزيز قدرته التنافسية, ولتمكينها من الاستفادة من الشراكة.

ب-­ نقد المقاربة الليبرالية التى تحكم الجانب الاقتصادي من مشروع الشراكة:
يمكن اختصار الانتقادات الموجهة الى الطرح الليبرالي الذى ينطوي عليه مشروع الشراكة تحت عنوانين:

1) انـه يجعل التحرير الاقتصـادي شرطـا لتحقيق التطور الاقتصادي والتنمية للبلدان المعنية, ويقيم علاقة اوتوماتيكية بين هذا التطور وبين الاستقرار المنشود لهذه الدول؛
2) ان ليبرالية الطرح بالذات التي ينطوي عليها, قد تتحول عنصر عدم استقرار سياسي لدول المنطقة, وتجعل الوصول الى الاهداف المنشودة متعذراً.
ويتوافق الكل على ان الهدف الذي تتوخاه اوروبا من تحقيق مشروع الشراكة ليس اقتصاديا بالدرجة الاولى. أي انها لا تعول عليه لتعزيز ازدهارها الاقتصادي. لكن هذا المشروع يكتسب أهميته من كونه يتيح لها ضمان حالة سلام واستقرار في حوض المتوسط توظفها لمصلحتها. ويعتمد الاتحاد الاوروبي لبلوغ هذا الهدف الرئيسي, المتمثل بتعزيز السلام والاستقرار, والذي هو هدف سياسي, على وسائل هي اقتصادية قبل كل شيء. الامر الذي يفسر التركيز من جانبه على مسألة تحقيق الازدهار كهدف للشراكة([39]).
وتستند التدابير المقترحة الى الوصفات الليبرالية والنيو­ليبرالية, معبرة بذلك عن اثر الجو الفكري السائد في الدول الغربية منذ الثمانينات. وهي تمنح مكانة مميزة لحرية التبادل, ونمو القطاع الخاص, والتخفيض من وطأة التشريعات القائمة. ويعتبر انشاء منطقة تبادل حر وجها اساسيا من وجوه الشراكة المقترحة, بنظر صائغي المشروع. ويعول هؤلاء على تطور حجم المبادلات بحد ذاته لتحقيق الازدهار المنشود. ويعتبرون ان تحقيق الانفتاح المطلوب ينبغي ان يترافق مع تحقيق انكفاء استراتيجي للدولة. كما يعتبرون ان حرية التبادل بمنطقها وبنظمها الخاصة كأساس للعلاقات بين الأمم كفيلة بتحقيق النمو المتكافئ وحسن الجوار للدول المعنية. وبكلام آخر, لا يتقدم مشروع الشراكة المقترح في جانبه الاقتصادي والمالي باكثر مما تنطوي عليه وصفات صندوق النقد الدولي. وبالتالي, فما يحكمه في نهاية المطاف هو المنطق النيو­ليبرالي([40]).
ويستعيد نقد المقاربة الليبرالية التى تربط بين التحرير الاقتصادي وبين التنمية الاقتصادية للبلدان المعنية, أي التعويل على هذا التحرير لتحقيق التنمية المنشودة, عناصر التحليل التي سبقت الاشارة اليها, وهي:
1) ان فتح اسواق الجنوب يعرض المنتجين المحليين لمنافسة لا يقوون على مواجهتها. ويبدو هؤلاء في حالات كثيرة غير مجهزين كفاية لمواجهة التحرير الاقتصادي الذي تنطوي عليه الشراكة, لدرجة ان حقبة انتقالية من 12 سنة قد لا تشكل ضمانة كافية لبقاء مؤسساتهم على قيد الحياة([41])؛
2) ان انكفاء الدولة الذي ينشده محبذو التحرير الاقتصادي ينطوي على مخاطر التسبب باضعاف اضافي للمنتجين المحليين بدل تقويتهم؛
3) ان المساعدات التي يجري اقرارها ضمن اطار الشراكة لا تكفي لتمويل حاجات التكييف او التصحيح الهيكلي لفرقاء جنوب وشرق المتوسط؛
4) ان نمو الاستثمارات في دول الجنوب الذي تعول عليه المقاربة الليبرالية قد لا يتحقق للأسباب التي سبق تعدادها. بل ان فتح اسواق الجنوب امام سلع الشمال قد يؤدي الى انحسار الاستثمارات في دول الجنوب, لأن المؤسسات الانتاجية في الدول الاوروبية تستطيع من خلال وفورات الحجم التي يمكنها التعويل عليها تغطية فارق الكلفة مع دول الجنوب التي تعتمد على انخفاض كلفة اليد العاملة فيها. وقد اجريت دراسات تناولت آثار الشراكة على العمالة في بعض دول جنوب وشرق المتوسط. وقد بينت دراسة ألمانية تناولت الحالة المصرية عام 1995, ان الشراكة يمكن ان تؤدي الى خسارة 40% من مواقع العمل الموجودة في البلد المذكور([42]). وللتأكيد على شكهم في الجدوى التي تنطوي عليها الشراكة, يشير منتقدو المقاربة الليبرالية التي تنطوي عليها هذه الاخيرة الى ان برامج التصحيح الهيكلي المطبقة من البنك الدولي والتي تتشابه اجراءاتها الى حد كبير مع تلك المقترحة ضمن اطار الشراكة, لم تعط نتائج بمستوى الآمال التي كانت معلقة عليها, على صعيد الاستثمار.


2- ­ مسؤولية البلدين تجاه استحقاق الشراكة, والكيفية التي تجعل الشراكة متوائمة مع تطلعاتهما التنموية:
مبررات المقاربة البديلة:
يتقاسم الكثيرون القناعة بأن صدمة المنافسة التي تسببها حرية­التبادل قد تكون مدمرة في غياب اجراءات مرافقة لعملية التحرير المعتمدة([43]). وتبرر هذه القناعة اقتراح مقاربات بديلة للمقاربة الليبرالية الصرف, يمكن لدول جنوب وشرق المتوسط ان تستخدمها, بغية الافادة من مشروع الشراكة. وتنطلق هذه المقاربات من فكرة ان تحرير التبادل مع اوروبا, او توقيع اتفاقيات شراكة معها من قبل الدول المعنية, قد تترتب عليه نتائج سلبية او ايجابية بالنسبة لها, تبعا لنوع او لطبيعة السياسات المرافقة للانفتاح  accompagnement’ Politiques d التي تعتمدها([44]).


عناصر السياسة المرافقة للانفتاح:
ويتوقف نجاح دول جنوب وشرق المتوسط في تثمير انفتاحها على اوروبا, على تمكنها من بلورة سياسات فعالة لمواكبة عملية الانفتاح القائمة وتنفيذ هذه السياسات, وعلى تمكنها من خلق اجهزة انتاجية وطنية ذات قدرة تنافسية دولية. ويمكن وضع السياسات المواكبة للانفتاح تحت عنوانين رئيسيين:
1) اعتماد سياسات ماكرو­اقتصادية غير انكماشية, لا تأخذ بمبدأ توازن الموازنة العامة, الذى تشدد عليه المقاربة الليبرالية؛
2) اعطاء دور اساسي للدولة في ميدان التدخل لدعم القطاعات الانتاجية.

أ -­ تلافي تخفيض الانفاق العام:
 تقترح المقاربة النيو­ليبرالية تخفيض الانفاق العام, كرد على فقدان الايرادات الجمركية الذي يتسبب بـه تخفيض الرسوم وازالتها([45]), وهو ما تنص عليه ايضـا المقاربة التى يعتمدها البنك الدولي في هذا المجال. وتجد هذه المقاربة تعبيرا آخر عنها في اتفاقية ماستريشت التى اعتمدها الاتحاد الاوروبي, والتى تنص على ألا يتجاوز سقف الدين العام نسبة 60 % من الناتج. أما المقاربات البديلة فتقترح اعتماد سياسات ماكرو­اقتصادية غير انكماشية من طرف السلطات العامة, وسياسات مالية “غير ارثوذكسية”, تقبل عمدا تحمل مخاطر عدم تثبيت الانفاق العام وزيادة الانفاق الاستثمـاري, وتراهن على تحقيق معدلات نمو مرتفعة لاستعـادة توازن المـالية العامة([46]). أما مبرر هذه السياسات فهو انها تتيح تلافي الاثر السلبي للسياسات الانكماشية على الانفاق الاستثماري, خصوصا وانه لا يمكن بغياب هذا النوع من الانفاق تحقيق عرض تنافسي للسلع, وانجاح ستراتيجية تنمية قائمة على تعزيز الصادرات.
ويكتسب الاستمرار بسياسة انفاق استثماري توسعية, بهدف تطوير البنى التحتية, اهمية بالغة في لبنان. وذلك لأن هذه البنى ما تزال شديدة التخلف, غير متلائمة على الاطلاق مع ما بلغه اللبنانيون من تقدم بوجه عام, وما يتطلبه نمو القطاع الخاص وتوسع نشاطاته بوجه خاص. وهي تبدو شديدة التخلف ايضا, مقارنة بالمستوى الذي باتت عليه البنى التحتية في البلدان المجاورة, ومنها سوريا. ويشكل النقص الفادح في البنى التحتية للنقل والمواصلات على وجه الخصوص, وضيق مجال الحركة المترتب على ذلك, اهم اعناق الاختناق التى تواجه نمو الاستثمار في لبنان. ولا ينفع الحكومة في شىء تأكيدها المستمر على انفتاحها على الاستثمار الاجنبي. أي ان هذا الامر يمثل سياسة عقيمة من حيث مردودها, لأن المشكلة في مكان آخر, أي في اعناق الاختناق المشار اليها.
أما في سوريا, فتمثل زيادة الانفاق الاستثماري ضرورة, لاستكمال تحسين مستوى البنى التحتية, التى تحققت فيها انجازات مهمة, والتى يمثل استمرار تطويرها شرط تطوير القدرة الانتاجية الوطنية. علما ان الانفاق لتطوير رأس المال البشري هو الاكثر حراجة في سوريا.

ب -­ اعتماد سياسة جديدة لاجتذاب الاستثمار الاجنبي المباشر:
يمثل اجتذاب الاستثمار المباشر الاجنبي المبرر الاول لقيام التكتلات الاقليمية الجديدة. كما يمثل توسع ونمو الاستثمار المباشر الاوروبي, شرط تحويل علاقة الجوار بين طرفي المتوسط مصدر ازدهار لطرفه الجنوبي.
وقد اشارت الدراسات التى اعدت برسم دول جنوب وشرق المتوسط الى ضرورة ان تتجاوز الدول المعنية المقاربة التقليدية في مجال اجتذاب الاستثمار الاجنبي المباشر, التى تقوم على منح الاستثمار الاجنبي امتيازات تتجاوز ما يوفر للاستثمار المحلي, وتجد ترجمتها في انشاء المناطق الحرة . أما المقاربة البديلة, فتعتبر انه ينبغي بناء ديناميكيات صناعية محلية تستوفي الشروط الجديدة المطلوبة لحيازة المقدرة التنافسية الدولية, كشرط للنجاح في اجتذاب الاستثمار الاجنبي المباشر. وهي تركز على ضرورة “خلق ميزات” خاصة للبلد المعني, تجعله قادرا على اجتذاب هذا النوع من الاستثمار([47]).
ويكتسب اعتماد سياسة فعالة لاجتذاب الاستثمار الاجنبي المباشر اهمية خاصة في كل من لبنان وسوريا. والامر المثير حقا للاستغراب في لبنان, هو التفاوت بين قدرته على استقطاب توظيفات مالية, بلغت حجما هائلا خلال السنوات السابقة من التسعينات, وبين العجز الكلي عن استقطاب استثمارات اجنبية مباشرة, بحيث تبقى صناعاته التحويلية مهملة تماما منها. أما سوريا, فهي تأتي مع الجزائر وليبيا, في فئة الدول المتوسطية التى تتمتع بقدرة محدودة للغاية على اجتذاب الاستثمار الاجنبي المباشر. وينحصر هذا الاخير في نشاطات محددة داخلها, خصوصا انتاج الطاقة وتصديرها والتجهيزات الكبرى, في حين تبقى صناعاتها التحويلية خارج اهتمام الاستثمارات الاجنبية المباشرة.

ج -­ عناصر السياسة الصناعية التى تتيح الاستفادة من مشروع الشراكة:
يمثل الاخذ بالمقاربة البنيوية للسياسة الصناعية شرطا لحيازة المقدرة التنافسية الدولية لدى مطلق دولة من الدول النامية. وهو ما أكدت عليه تجارب دول شمال­شرق آسيا. وتهدف السياسة الصناعية وفقا لهذا التعريف الى خلق ميزات نسبية للصناعة الوطنية, تجعلها قادرة على المنافسة في الاسواق الدولية. وتنطوي على الاخذ بمبدأي الانتقائية في دعم القطاعات الصناعية, واعتماد سياسة تجارية ستراتيجية تقوم على خدمة اهداف هذه السياسة([48]).
 
د - الاجراءات الممكنة في كل من لبنان وسوريا:
أما الاجراءات الاقتصادية التى يمكن لكل من لبنان وسوريا الاخذ بها تجاه مشروع الشراكة, فيمكن اختصارها بالنقاط التالية:
1) التعجيل في التوقيع على الاتفاقية, أخذا بالاعتبار لما يولّده توقيعها, والانخراط في تكتل كبير كالتكتل الاوروبي, من ديناميكية جديدة لدى المستثمرين والحكومتين, على حد سواء؛
2) التأكيد ضمن اطار الاتفاقيتين الموقعتين على حق لبنان وسوريا الاحتفاظ بهامش كبير من الحرية في مجال السياسة التجارية خلال الفترة الانتقالية, بما في ذلك, امكانية رفع الرسوم الجمركية وتقييد الاستيراد, كلما اقتضى الامر ذلك.
3) التفتيش بكل السبل عن موارد استثنائية لتمويل تحقيق عرض تنافسي للسلع والخدمات في كل من البلدين في قطاعات معينة, على ان يندرج ذلك ضمن ستراتيجية تأخذ بها الحكومتان وتهدف الى تغيير بنية التجارة الخارجية لكليهما بشكل جذري خلال عشر سنوات. ويكون هدف هذه الستراتيجية تحويلهما من بلدين مستوردين, غير قادرين على تصدير سلع صناعية تحويلية, الى بلدين يحققان فائضا في ميزان مدفوعاتهما من صادراتهما لهذا النوع من السلع بالذات.
­ وأخذا بالاعتبار لخصوصية وضع كل منهما, فان على لبنان:
1) الاستمرار بتنفيذ برامج البنى التحتية, باقصى السرعة, وعلى قاعدة الاستدانة من الصناديق العربية ومن غيرها؛
2) تنفيذ برامج تنظيم للمجال الوطني  territoire  Aménagement du تأخذ بالاعتبار تضاعف عدد سكان لبنان خلال العشر سنوات القادمة.
3) تنفيذ خطة تؤمن تحويل بيروت الكبرى الى منطقة استقطاب سياحي واستثماري, وفقا لارقى المواصفات الدولية.
­ أما بالنسبة لسوريا, فان خطر تعريض النسيج الصناعي فيها, كما النسيج الزراعي, لصدمة المنافسة, والكلفة الكبيرة المتوقعة لعملية التكيف مع استحقاق تحرير التبادل, هما ما يملي على المسؤولين فيها طريقة تعاطيهم مع عملية التحرير المقترحة. خصوصا وان الاقتصاد السوري ما زال يعتمد الحماية أداة رئيسية للحفاظ على الهيكلية الانتاجية الوطنية.
لكن يمكن ان نعتبر من جهة اخرى, ان عشر سنوات هي مهلة كافية لتحقيق نقلة نوعية في القطاع الصناعي تجعله قادرا على تلقي صدمة المنافسة الدولية, وتجعله قادرا على الاستفادة من مشروع الشراكة الاوروبي ­ المتوسطي, ومن تحرير التجارة على المستوى العالمي. ويتوقف تحقيق هذا الامر على مقدرة الحكومة في تطبيق سياسة صناعية ديناميكية تضع نصب اعينها بلوغ هذا الهدف.
أما الاستفادة من الحقبة الانتقالية, لتحقيق نقلة نوعية في قطاع النسيج السوري, تجعل من سوريا مصدراً قوياً للسلع النسيجية باتجاه الدول الاوروبية فتبدو امكانية اقرب الى متناولها.
 ­

[1] يضاف اليهم ممثلو السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع.

[2] أنظر:", mediterranean strategy The European Union's new", Finance and Development, Sep., 1966, P. 14. S. Nsouli, A. Bisat,

 O. Kanaan

[3] قانون رقم 23/68, بتاريخ 13 نيسان 1968, منشور في الجريدة الرسمية, عدد 34, تاريخ 25/4/1968.

[4] جرى ابرامها بالمرسوم الاشتراعي رقم 17, تاريخ 25/6/1977, منشور في الجريدة الرسمية, ملحق عدد 19, تاريخ 30/6/1977.

[5] أنظر ايضا:

Annalisa Fedelino, « Association agreement between

Lebanon and the European Union », in S. Eken, T. Helbling (eds.)

, Back to the future: postwar reconstruction and stabilization in Lebanon, Occasinal Paper, IMF, 1999, p. 67.

[6] تمثل المبالغ التى رصدت ضمن اطار برنامج ميدا (التمويل الاوروبي لدول المتوسط) 3,4 مليار وحدة نقدية اوروبية. وهي تساوي 90% من مجموع موازنة مشروع الشراكة. وتمثل قروض بنك الاستثمار الاوروبي مبلغا موازيا.

[7] أنظر:

 T. Desrues, "Le partenariat euro-méditerranéen? Une approche illustrée par le cas marocain et tunisien”, Hérodote, n. 94, 1999, p. 97

[8] أنظر: وزارة الاقتصاد والتجارة: “اتفاق اوروبي ­ متوسطي يقيم شراكة بين المجموعات الاوروبية والدول الاعضاء فيها من جهة, والجمهورية اللبنانية, من جهة ثانية”, صيغة ايلول 1996 (بالفرنسية), 57 صفحة.

[9] المجموعات Communautés الأوروبية هي: 1) المجموعة الاقتصادية الأوروبية CEE, او المجموعة الاوروبية CE, المشكلة حالياً من الدول التالية: فرنسا, المانيا, ايطاليا, النمسا, اسبانيا, البرتغال, اليونان, بلجيكا, اللوكسمبورغ, الدانمرك, ايرلندا, هولندا, فنلندا, السويد, انكلترا, 2) المجموعة الأوروبية للطاقة والصلب CECA؛ 3) المجموعة الاوروبية للطاقة النووية Euratom. وتجسد كل منها إطارا قانونيا للتكتّل الاقتصادي الأوروبي. وتتمتّع الاولى والثانية منها بالشخصية القانونية الدولية التي تجعلها قادرة على عقد اتفاقيات خارجية, في حين لا يملك الكيان الجديد الممثل بالاتحاد الأوروبي هذه الصلاحية. فهو لم يلغ هذه المجموعات وانما جعل منها اركانا له.

[10] ثمة طريقة اخرى لتصنيف الانعكاسات الاقتصادية للتكتلات الاقليمية على الدول المعنية. وهي تقوم على ترتيبها تحت ثلاثة عناوين: 1) على مستوى رصد الموارد allocation effects؛ 2) على مستوى التراكم accumulation effects؛ 3) على مستوى التموضع الجغرافي location effects. ويمكن ادراج الانعكاسات الستاتيكية في اطار النوع الاول, والديناميكية في اطار النوع الثاني, والآثار على مستوى الاستثمار في اطار النوع الثالث منها. أنظر في هذا المجال:

R. Baldwin, A. Venables, «Regional economic integration », in G. Grossman, R. Rogoff (eds.)

, Handbook of International Economics, Vol. 3, Elsevier, 1995, p. 1600.

[11] أنظر: A. Fedelino المذكور سابقا, ص 70, نقلا عن:

M. Will", Assessing the implications for Lebanon of free trade with the U. E ", Washington, World Bank,1996.

[12] أنظر: A. fedelino, ص 71, نقلا عن:
 Abdel Rahman, Helbling, Andersen, Kierstead, "Lebanon: the association with the European Union and its revenue implications", Washington, I M F, 1997.

[13] أنظر: A. Fedelino , ص 72, نقلا عن:

I. Diwan, "How can Lebanon benefit from the Euro-Med initiative",? Washington, World Bank, 1997.

[14] أنظر: A. Fedelino , ص 72, نقلا عن

 B. Hoekman, "Effective protection and tarif revenue in the transition to the free trade wih the E U", Washington, World Bank, 1996.

[15] يمكن الاشارة في هذا الصدد الى ان باحثين لبنانيين على الاقل قد قاما في وقت سابق باحتساب معدل الحماية الفعلي للصناعة اللبنانية, وهما:

Girair Achdjian,"La notion de protection effective et son application au Liban",Bulletin trimestriel de la Banque du Liban, n. 13, 2ème trimestre, 1982, p. 4 - 12.
André Chaib, The export performance of a small open developing economy: the lebanese experience, 1951-1974 Ph-D dissertation, Univ. of Michigan, 1979.

[16] أنظر:

Iskandar Moukarbel,"Impact of the free trade agreement with the european union countries on the lebanese economy", in W. Shahin, K. Shehadi (eds.),Pathways to integration: Lebanon and the Euro-Mediterranean partnership, Beirut, Lebanese Center for Policy Studies, 1997.

[17] أنظر:

Nasser Saïdi, "Lebanon and the European Union at the crossroads: an assessment of the partnership agreement", in W. Shahin, K. Shehadi (eds.),Pathways to integration: Lebanon and the Euro-Mediterranean partnership, Beirut, LCPS, 1997, p. 27.

[18] وزارة الاقتصاد والتجارة, لبنان ومفاوضات الشراكة الأوروبية المتوسطية: برنامج عمل بهدف انخراط لبنان في الشراكة الأوروبية المتوسّطية, بيروت, تشرين الأوّل 2000, 64 صفحة + ملاحق.

[19] أنظر: النهار في 31/7/2000.

[20] أنظر:

 A. Tovias, The economic impact of the euro-mediterranean free trade area on mediterranean non-member countries, Mediterranean Politics, Vol. 2, n. 1, Summer, 1997, p. 118.

[21] وتمثل هذه المكاسب الثلاث المترتبة على الدخول في الشراكة, أي تعزيز دور لبنان كمركز اقليمي للخدمات, والاستفادة من المساعدات الاوروبية, وتعزيز مصداقية السياسات الحكومية المتبعة, عناصر اخرى اساسية في المحاججة لمصلحة هذا الدخول, التى انطوى عليها برنامج عمل وزارة الاقتصاد والتجارة الذى سبقت الاشارة اليه.

[22] أنظر: د. عصام خوري, “الشراكة السورية ­ الاوروبية وأهم منعكساتها الاقتصادية في ظل العولمة”, مؤتمر: العولمة وانعكاساتها على الاقتصاد اللبناني والاقتصاد السوري, الجامعة اللبنانية وجامعة دمشق, بيروت, الكارلتون في 14 و15 نيسان 1999.

[23] أنظر د. رسلان خضور, “دخولنا الشراكة الاوروبية يحتاج خطة مدروسة وسياسات واضحة”, تشرين, 27/8/1998.

[24] أنظر, مقابلة مع Volker Perthes , البعث الاقتصادي, 15/6/1998.

[25] ­ أنظر: ...A. Fedelino Association, المذكور سابقا, ص 67 ووزارة الاقتصاد والتجارة, لبنان ومفاوضات الشراكة الاوروبية المتوسطية: برنامج عمل بهدف انخراط لبنان في الشراكة الاوروبية المتوسطية, بيروت, تشرين الاول46,2000 صفحة + ملاحق, ص 19­21.

[26] أنظر: وزارة الاقتصاد والتجارة, “بيانات صحفية”, بتاريخ 7/4/2000 و23/6/2000 و13/7/2000 و16/8/2000.

[27] أنظر: النهار في 24/8/2000.

[28] أنظر, وزارة الاقتصاد والتجارة: ”يان صحفي حول المباحثات مع الاتحاد الاوروبي بخصوص اتفاقية الشراكة”, بتاريخ 2/10/2000.

[29] وزارة الاقتصاد والتجارة, لبنان ومفاوضات الشراكة... المذكور سابقاً, ص 25.

[30] اعتمدنا في هذا العرض للوقائع, بشكل رئيسي على: الحياة, 2/3/1996؛ السفير, 13/6/1996؛ الحوادث, 24­30/10/1997؛ تشرين, 10/6/1998؛ السفير, 22/10/1998؛ تشرين, 16/3/1999؛ البعث الاقتصادي, 16 و 30/5/2000.

[31] وقد اشارت المديرة الوطنية للمركز, في تقويم لاحق لنشاطه, الى ان احدى الشركات السورية نجحت في اختراق الاسواق الاوروبية بسلعها من الفواكه المجففة. واعتبرت ذلك مثالا يثبت ان جهود المركز تثمر في مجال مساعدة القطاع الخاص السوري على التحديث. كما اشارت الى انه يتم التركيز على منتوجات الصناعات اليدوية, كالاغباني والبروكار والموزييك, كسلع اضافية مرشحة للتصدير. أنظر: بعثة المفوضية الاوروبية­اتحاد غرف التجارة والصناعة: “اتفاقية الشراكة ودعم الاصلاح الاقتصادي”, ندوة مشتركة بتاريخ 22/1/2000, نشرت ملخصاتها في البعث الاقتصادي, 1/2 /2000.

[32] أنظر: وزارة التخطيط السورية, “ملخص اجتماعات لجنة الشراكة السورية الاوروبية المتوسطية”, من 82/6 الى 3/9/2000, 7 صفحات.

[33] أنظر:A. Tovias , المذكور سابقا, ص 119.

[34] المصدر نفسه, ص 119.

[35] ­ أنظر:

Chevallier, G. Kebadjian, "L'Euro-méditerranée entre mondialisation et régionalisation, Magreb/Machrek, décembre, 1997, p. 16.

[36] أنظر:

 M. Chatelus, "L'énergie en méditerranée: espace régional ou marché mondial"? Magreb/Machrek, décembre, 1997.

[37] أنظر:

 H. Regnault", Les échanges agricoles: une exception dans les relations euro-méditerranéennes", Magreb/Machrek, décembre, 1997, p. 41.

[38] أنظر:

 Ch-A. Michalet, "Investissements étrangers: les économies du sud de la méditerranée sont-elles attractives?, Magreb/Machrek, décembre, 1997, p. 46.

ومن جهة اخرى, تبدو منطقة جنوب وشرق المتوسط في وضع دوني, لجهة قدرتها على استقطاب الاستثمار الاجنبي المباشر. ففي حين استقطبت آسيا 84 مليار دولار عام 1996, كاستثمارات اجنبية مباشرة, وكانت حصة اميركا اللاتينية منها 39 مليار دولار, لم تتجاوز حصة دول جنوب وشرق المتوسط (بما في ذلك اسرائيل وتركيا) 4,7 مليار دولار, تستحوز على غالبيتها دولتان: تركيا ومصر. وقد اتت ثلاث دول اخرى, هي اسرائيل والمغرب وتونس, في المرتبة الثانية على هذا المستوى.
أنظر:

 B. Bellon, R. Gouia "Investissements directs et avantages" construits", Magreb/Machrek, décembre, 1997, p. 56".

[39] أنظر:

 E. Kienle, "Libre-échange contre libéralisation politique: Partenariat et stabilité dans le bassin méditerranéen", Politique Etrangère, n. 1, 1998, p. 53.

[40] أنظر ايضا:

 Abdelkader Sid Ahmed, "le cadre de coopération de Barcelone: implications pour les économies arabes du Moyen-Orient", Revue Tiers-Monde, oct. déc., 1996, p. 927.

[41] أنظر: E. Kienle المذكور سابقا, ص 55.

[42] المصدر نفسه, ص 58.

[43] أنظر:

 M. Chatelus, P. Petit, "Le partenariat euro-méditerranéen: un projet régional en quête de cohérence", Magreb/Machrek, décembre, 1997, p. 7.

[44] أنظر: A. Chevallier, G. Kebadjian المذكور سابقا, ص 16, وA. Sid Ahmed

المذكور سابقا, ص 930.

[45] أنظر:

  1. Hoekman, S. Djankov, "Catching up with eastern europe? The european union's mediterranean free trade initiativ," CEPR, Discussion Paper Series, n. 1300, London, Nov., 1995.

[46] أنظر: A. Chevallier, G. Kebadjian المذكور سابقا, ص 17.

[47] أنظر: B. Bellon, R. Gouia, المذكور سابقا, ص 59.

[48] لتعريف أوفى للسياسة الصناعية البنيوية, أنظر بخصوص لبنان: البر داغر, “مقاربة بنيوية للسياسة الصناعية في لبنان”, مجلة الدفاع الوطني اللبناني, العدد 30, تشرين الاول 1999, ص (113­ 138). وبخصوص سوريا ولبنان: البر داغر, “التحديات الاقتصادية والتنموية الى تواجه سوريا ولبنان في ظل المتغيرات الاقليمية والدولية”, مجلة الدفاع الوطني اللبناني, العدد 33, حزيران 2000, ص 87 ­ 145.