قصة قصيرة

لعبة الحظّ
إعداد: العميد الركن إميل منذر

ألقتْ بنفسها على الأريكة بقربي، وأسندت رأسها إلى كتفي بغنج، وقالت: أما زلت حبيبتك الصغيرة يا أبي؟
- لقد كبرت حبيبتي، وأصبح لها من العمر ثلاثة عشر ربيعًا. ولم يعُد يصحّ الكثير من «الدلَع» والتدلُّل.
- ألَم تزَل تخبئ لي حبّات الحلوى في جيبك، وتنتظرني عند أسفل الدرج لتحمل عني حقيبة كتبي وأنا عائدة من المدرسة؟
- بلى.
- أرأيت؟ فلأني ما زلت صغيرة. قالت، وهي تحيط عنقي بذراعيها النحيلتين.
- أراهن أنك تحتاجين هذه المرّة أيضًا الى مساعدتي في فرض الإنشاء العربيّ. لقد صرت أعرف هذه «الحركات». وحياتك صرت أعرفها.
- لا يا أبي. هذه المرّة لا أريد مساعدتك.
- أصِدْقاً تقولين! إنه تطوّر مفاجئ حقًّا.
- هذه المرّة أريدك أن تكتب الفرض عني. ألا يكفي أنه فرض إنشاء باللغة العربية التي لا أطيقها، حتى يكون الموضوع منبوشًا من تحت سابع أرض أيضًا!
- وما هو هذا الموضوع الصعب المنبوش من تحت سابع أرض.
- إسمع. قالت، وأخرجتْ من حقيبتها دفترًا فتحتْه، وراحت تقرأ بلهجة مسرحية: قال أبو العلاء المعرّي: سيطلبُني رزقي الذي لو طلبتُهُ لَما زادَ، والدنيا حظوظٌ وإقبالُ.
إشرحْ هذا البيت، وابدِ رأيك من خلال قصّة قصيرة تعرفها.
ثم أقفلت الدفتر بعصبية، وقالت: من أين آتي بالقصّة، من أين؟ أأخترع؟
- لا داعي للاختراع يا ابنتي. أنا سأخبرك قصّة حقيقية جرت أحداثها في قريتنا منذ زمن غير بعيد. تعالي إلى ذراعَي أبيك، واسمعي:
أزاحت لوسيّا الستارة عن نافذة غرفة النوم لتدخل أشعّة شمس الصباح؛ فاستدار نجيب في فراشه، وهمهم من تحت اللحاف: ما هذا الإزعاج قبل طلوع الفجر!
- قبل طلوع الفجر يا نجيب!... لقد أشرقت الشمس، وخرج الناس إلى أعمالهم وأرزاقهم منذ ساعات.
- وما شأني أنا بأرزاق الناس وأعمالهم حتى توقظيني! أجاب، ورفع الغطاء فوق رأسه أكثر، وأضاف: ردّي الستارة أرجوكِ، ودعيني أنام قليلاً بعد... ما هذا يا ناس! ألا يستطيع الإنسان أن يهنأ ببعض الراحة في يوم فرصة بعد أسبوع طويل من التحديق في صفحات الكتب المملّة وإتمام الواجبات البيتية اللعينة!
إذ ذاك همّت الوالدة لتقول: يا ليتني أحيا حتى تخرج من الصفّ الخامس الابتدائي بسلام يا ولدي. لكنها خنقت الكلمات عند شفتيها، وجلست على حافّة السرير، وأزاحت الغطاء عن رأس ابنها على مهل، وقالت: عيب يا ابني أن تنام حتى هذه الساعة، عيب. أخواك نزلا إلى الوادي برفقة أبيك قبل صياح الديك. قُمْ والحق بهم، قم.
- هذا الديك سأحزّ رقبته قريبًا بالسكّين. صوته المُنْكَر يزعق في منتصف الليل، وقبل بزوغ الفجر. إنه مثلكِ، لا يترك أحداً ينام.
- وأنا؟ ألا تريد أن تحزّ رقبتي بالسكّين أيضًا؟ لتعرفْ يا ولدي أنك السكّين التي تنزل في صدري فتدميه كلّ يوم. أنت تقتلني لأنني أريدك نشيطًا وناجحًا مثل أخويك ولا أستطيع لك شيئًا غير الدعاء والصلاة... قمْ والحقْ بهما. أخوك الأصغر ما دخلتُ مرّة لإيقاظه إلا وجدتُه يرتدي ملابس العمل. والأكبر – يا ولدي – ترك المدرسة ليحمل بعض التعب عن أبيك الذي، كما ترى، تقدّم في السنّ، ولم يعد قادرًا على الأعمال الصعبة.
- أنظري يا أمّي إلى هاتين الكفّين، قال نجيب وهو يقلّب راحتيه تحت بصر أمّه، وأضاف: أترين أنهما خُلقتا للعمل في حراثة الأرض، وزرعها، وريّها، وتقليم اليابس من أغصان أشجارها! انظري إليهما جيّدًا. ألا تجدين أنهما لا تصلحان لمثل هذه الأعمال الخشنة! عندئذٍ أخذت الأمّ كفّي ولدها بيديها، وجمعتهما إلى شفتيها تقبّلهما بمودّة، ثم حضنتهما، وقالت: مَن مثلي يعرف نعومة هاتين اليدين يا ولدي! مَن غيري يدمى قلبه إذا جرحتهما شوكة! لكن حرام أن يشقى فادي إلى هذا الحدّ ولم يكسُ الريش جناحيه بعد. وحرام أن نلقي الوِزْر كلّه على كتف أخيك مرهج الذي يعمل من الفجر إلى النجر. أستحلفك بالله أن تلحق بهما وتساعدهما في ما تقدر عليه.
- حسناً يا أمّي، لا تزعلي. أتريدين أن آخذ لهم معي شيئًا؟
- سأعدّ لهم الزاد في الحال. هكذا قالت لوسيّا، ثم ذهبت وأعدّت من الطعام ما تيسّر، ودخلت تستعجل نجيبًا، لكنها وجدته ما يزال مستلقيًا في الفراش.
- هلمّ يا ابني. أسرع قليلاً، يكاد النهار أن ينتصف.
- أوه! قال بتأفّف، وأخذ يتثاءب ويتمطّى. ثم فرك عينيه، وانزلق عن السرير، وراح يبحث عن حذائه، ويسأل أمّه عن ملابسه وهي معلّقة قبالة عينيه في زاوية غرفة نومه؛ فناولته إيّاها واستعجلته. وإذ نظر إلى جوربَيه العتيقين، عقد حاجبيه، وقال: ما هذان! هاتي لي آخرَين غير مثقوبَين.
- لا بأس بهما يا ابني. أوَذاهب لطلب يد عروس أنت! إنهما للعمل فحسْب.
- طلب يد العروس سيكون مهمّتك أنت يا أمّ مرهج.
- وحياتك لن يكون عندي أجمل من هذه المهمّة. ولكن قبل أن أذهب «لأحكي» لك ببنت «الأوادم»، عليك أن تغدو إلى الوادي كلّ يوم، وتفلح الكروم، وتجني المواسم، وتجمع قرشين، وتبني بيتًا. وهذا لن يجيء على طبق من فضّة، إذ دونه مشوار طويل من التعب.
- آخ من كلمة تعبّ. إن لها في رأسي دويًّا مزعجًا... ألا تعتقدين أن للحظّ دورًا في هذه الحياة يا أمّي؟
- بلى. ولكن أنقعد ونكتّف سواعدنا بانتظار أن يأتي؟
- يا لحظّي التَعِس! أبي فلاّح وأنا ابن فلاّح. وحظّنا في حياتنا أنْ علينا استخراج لقمة عيشنا معفّرةً بالتراب مبلّلة بالعرق. لا يا أمّي، لا. أنا لا أقدر على هذه الحياة.
- قمْ يا ابني، وكفى ثرثرة، قم. لقد أتعبتَ لساني وأوجعت قلبي.
- هاتي لي غير هذين الجوربين إذًا.
- حسناً. ولكن تحرّك واخرج من هذه الغرفة.
وأتت الوالدة بجوربين جديدين لبسهما نجيب، وشدّ الحزام على وسطه، وخرج على بركة الله.
كانت الدرب المنحدرة من القرية إلى الوادي ضيّقة وطويلة. ولم يكن نجيب على عجلة من أمره؛ فأخذ يسير الهوينا بذينك الحذاءين الضخمين المسمّرين، متأمّلًا الطبيعة الخلاّبة التي خلع عليها الربيع بُرْدَة خضراء، ومصغيًا إلى شدو العصافير التي كانت تقيم في كلّ شجرة عرسًا. وأكثر من مرّة نزعت به نفسه إلى استراحة قصيرة؛ فعرّج، وقال لبعض الوقت في ظلّ سنديانة ظليلة هنا وصنوبرة هناك اتّقاءً من أشعّة الشمس الحارقة.
وعندما أطلّ أخيراً على البستان من بعيد، هتف فادي: لقد وصل نجيب. فالتفت مرهج، ثم عاد يضرب الأرض بمعوله ويمسح العرق بطرف كوفيّته. أما الوالد فنظر إلى ساعة يده؛ ولما رأى عقربيها يشيران إلى الحادية عشرة، هزّ رأسه ولم يلتفت.
- «العوافي»، قال نجيب؛ فردّ مرهج وهو يعمل. أما الوالد فلم يردّ.
- هل جلبتَ لي معك «عروس» التين يا أخي، سأل فادي وقد استند إلى عصا المعول يلتقط أنفاسه، فيما قطرات العرق كانت تنزلق وتحفر دروبها فوق الغبار الذي يمسح وجنتيه الطريّتين؛ فهزّ نجيب رأسه أن نعم.
وقبل أن يسأل نجيب أباه عمّا يريده أن يساعد أخويه فيه، ارتمى على الأرض وسارع إلى فكّ شريط حذائه: «آخ. إن هذا الحذاء قد أكل بعضًا من قدمي من غير شكّ». ثم خلعه وخلع جوربه، وراح يتحسّس البقع المحمرّة في ظاهر قدمه.
- ما الأمر؟ سأل مرهج.
- قدمي يا أخي، قدمي. إني أكاد أموت من الألم.
- اغسلها بالماء البارد، واسترح قليلاً، ثم جئ بالمعول وانكش تلك البقعة هناك.
    - حسناً يا أخي. لقد جئت لأساعدكم. وسأعمل بجدّ لأعوّض ما فات من النهار. وإذ سمع جبّور، الوالد، هذا الكلام، لم يتمالك عن الضحك في سرّه. لكنه ما لبث أن استولت عليه الكآبة؛ فقطّب جبينه، وأخذ يفكّر مهمومًا في ما ستؤول إليه حصّة نجيب من الأرض عندما يموت ويخلّفها له. لقد رآها بعين خياله قاحلة يكسوها الشوك والهشيم، ويتطاول العشب البريّ على جذوع أشجارها اليابسة. إذ ذاك أفلت المنجل من يده على الأرض، ودنا من أقرب شجرة إليه، وأخذ يتلمّس جذعها برفق، وينظر بعينين حزينتين إلى أغصانها المنحنية تحت أثقال أحمالها. لقد عزّ عليه أن تؤول هذه النضارة يومًا إلى يباس. وإذ خانته قواه، هبط إلى الأرض وأراح ظهره إلى الجذع الضخم، وأناخ رأسه فوق صدره، وغطّى عينيه بيديه.
- أبي! ما بك؟ صاح مرهج، وأسرع إلى أبيه يسأله عمّا يؤلمه غير عارف ما عليه أن يفعل من أجله.
- إذهب يا نجيب إلى النبع، واملأ الإبريق ليشرب والدنا جرعة ماء بارد، هيّا أسرع. صرخ فادي.
ومضى نجيب بالإبريق، وملأه من النبع، وهمّ بالعودة. لكن ما خطا خطوة واحدة حتى انسابت أفعى رقطاء بين الحشائش أمام قدميه؛ فذعر وقفز إلى الخلف من غير وعي منه؛ فتعثّر وانطرح أرضًا، وانكسر الإبريق الذي كان يحمله. عندئذٍ طوى ساقيه، وألقى مرفقيه على ركبتيه، وطمر رأسه بين يديه وبكى: «بئست هذه الحياة ما أقساها! وبئست عيشة الفلاّحين ما أمرّها! لماذا يكون حظّ بعض الناس الكفاح والجهاد لانتزاع اللقمة من فم الوحش ومقالع الصخر، وحظّ غيرهم أن يولدوا وملاعق الذهب في أفواههم؟». ثم نهض، وعاد إلى أبيه وأخويه خالي الوفاض.
- أين الماء! هتف فادي. هل نسيت الإبريق عند النبع؟
لكنّ نجيباً لم يجب؛ فبقي ساكتاً ينظر إلى الأرض، فيما الجميع ينظرون إليه بعيون حيرى متسائلة. وأخيرًا خرج عن صمته وقال: لقد كبوت وكسرت الإبريق. ثم رفع بصره إلى أبيه، وأخذ يبكي ويقول: سامحني يا أبي. سامحني لأني خيّبت ظنّك الأمس واليوم وسأخيّبه غدًا. أنا لا أحبّ الأرض، ولن أستطيع العمل فيها والعيش منها... سأطيعك ما دمتَ تريدني أن أنزل إلى هذا الوادي معكم وأعمل في ما أقدر عليه وإيّاكم. لكن لا أريد أن يكون لي في هذه الكروم يومًا نصيب مخافة أن تضيع الأمانة بين يديّ يا أبي. هكذا قال نجيب والتقط يد أبيه وقبّلها؛ فأغمض جبّور عينيه على دمعتين حارقتين، وقال: ولكن كيف ستعيش يا ابني من غير أن يكون لك كرم زيتون أو بستان ليمون أو حقل توت!
- إن الله يرزق حتى الدودة التي في الصخر يا أبي.
- ولكن لماذا تريد أن تحيا مثل دودة في صخر تنتظر رزقة الله، فيما أرزاقنا يحسدنا عليها القريب والبعيد!
- سأتدبّر أمري؛ فلا تقلق يا أبي. سأتعلّم النجارة... الحدادة... الحياكة. أيّ شيء إلا العمل في الأرض.
- يا ابني عُدْ إلى رشدك وتعقّل. تتعلّم مهنة فينكّد الناس حياتك. واحد يقول لك: الباب الذي صنعته لي فيه عيب هنا وعيب ها هنا. وآخر تطالبه بمالك فيصبح عدوّك. إسمع مني وعشْ من أرضك. فلاّح مكفي سلطان مخفي. هكذا قال المثَل، وليس مثَل كاذبًا.
- أرجوك لا تحملْني على ما لست راغبًا فيه. إن كنتَ ستترك لي حصّة في هذا الوادي، بعد عمر طويل، فاقسمْها منذ الآن بين أخويّ.
وانقضى النهار. وعاد الجميع إلى القرية يجرّون أقدامهم على حصباء الطريق صعودًا. وحلّ المساء. وخيّم الظلام على السفوح والتلال والبيوت. وبعد أن تناول جبّور وأفراد عائلته طعام العشاء، خرج إلى الشرفة يتأمّل الأنوار المزروعة في الجبل المقابل؛ فلحقت به زوجته حاملةً النارجيلة له.
- خذْ، قالت لوسيّا. إن لها رائحة «تشقّ القلب».
- لا رغبة لي فيها هذه الليلة. أجاب وهو ما زال ينظر إلى الجبل البعيد بعينين جامدتين. ثم أضاف: ولم يعُد لي رغبة في أيّ شيء في هذه الحياة.
- خير إن شاء الله. ما الأمر!
- إنه نجيب يا لوسيّا، نجيب.
طأطأت لوسيّا رأسها ولاذت بالصمت. وبمَ تجيب وهي عارفة كلّ الحكاية! فما كان من جبّور إلا أن استدار نحوها، وقال: إبنكِ نجيب يريد أن يتعلّم مهنة لأن الأرض لا تعجبه. أسمعتِ؟ التراب يوسّخ يديه... ولد طائش لا يعرف مصلحته. لا أدري والله كيف سأموت مطمئنّ البال عليه.
- لقد أصبتَ إذ قلت «ولد». غداً يكبر ويغيّر رأيه. دعه الآن يفعل ما يزيّنه له عقله... خذ نفَسًا من هذا التنبك، ونفّخْ عليها تفرجْ.
وأخذ جبّور ينفّخ، وعاد ينظر إلى الأضواء، لكن خياله هذه المرّة حمله إلى ما بعد الجبل.
- وماذا حدث بعد ذلك يا أبي؟ سألت ابنتي.
- ومرّت الأيّام، وشاخ جبّور، ولم يعُد باستطاعته الذهاب إلى الحقول؛ فلزم البيت. وكبر الأولاد، وقوي عودهم. مرهج وفادي ظلاّ يغدوان إلى الوادي كلّ يوم، ويعودان مساءً لإجابة والدهما عن مئة سؤال وسؤال: هل نظّفتما قناة المياه من الحشائش؟ هل وضعتما مزيدًا من السماد لشجرة الليمون الضعيفة في الجلّ العالي؟ هل...؟ ويحفظان مئة وصيّة ووصيّة للعمل بها في يوم غد: لا تنسيا إصلاح الحائط والسياج عند التخم الغربيّ. عليكما أن تنجزا غدًا رشّ الدوالي بالمبيدات قبل هبوب الريح. و... أما صديقنا نجيب فتلقّى الحياة ولم ينجب، كما قال أحمد شوقي. لقد تعلّم النجارة ولم تعجبه. ثم تعلّم الحدادة ولم يثبت فيها. فحاول امتهان الحياكة، لكن الأمر لم ينجح أيضًا. لذلك كان يسهر حتى الهزيع الأخير من الليل برفقة الأصحاب والندمان، وينام حتى ساعة متقدّمة من النهار، ويسبّ الدنيا، ويلعن حظّه فيها.
وكان أن أصاب جبّور مرض عُضال أقعده عن الحركة، ثم جعله طريح الفراش. ولما أحسّ بدنوّ ساعته، وسمع دعسات عزرائيل خارج الباب، جمع عائلته حول سريره وتلا وصيّته.
- وما كانت الوصيّة يا أبي؟
- قال جبّور: أشعر بأن أجلي بات قريبًا جدًّا. لذلك أريد أن أقسّم الأرزاق عليكم وفيّ رمق حياة بعد مخافة أن تأتيكم الأيّام بعد موتي بما يفسد المودّة التي تجمعكم والألفة التي تظلّلكم. وتابع جبّور يقول: «حقلة» التوت في «عين النمر» وكرم الزيتون هما لك يا مرهج. ليباركْ الله لك فيهما، وليفضْ الخير في بيتك منهما. وبستان الليمون في الوادي لك أنت يا فادي. ليحرسْك الربّ، ويعطِك القوّة لتبقيه أخضر نضرًا وتورثه أولادك من بعدك. أما أنت يا نجيب... واختنق صوت جبّور في حنجرته ولمعت الدمعة في عينه، لكنه جالدَ وبلع ريقه، وتابع: أنت يا نجيب يا ابني لا تحبّ العمل في الأرض. لهذا أعطيك الأرض السليخ على طريق «الكرّوسة» عند مدخل الضيعة... صحيح أنها أرض بور لا تنتج شيئًا، إلا أن مساحتها تزيد عن مساحة كروم أخويك مجتمعةً. لكن وصيّتي الكبرى هي أن ليس لأحد الحقّ بالتصرّف في أيّ قطعة أرض كلما هي أمّكم على قيد الحياة. أتريدونني أن أثبّت كلّ ذلك خطيًّا أم تستطيعون أن تعطوني كلمة شرف؟ فأكّدوا له كلّهم أن رغبته مطاعة ووصيّته مقدّسة. وزاد نجيب بقوله: شكراً لك لأنك أقطعتني حصّة مثل أخويّ يا أبي.
- لا يا نجيب. أنا لم أعطك بعد مثل أخويك. حصّتك ما زالت قليلة. لذلك أعطيك البقرات الثلاث. والبيت من بعد أمّك – أطال الله بعمرها – يكون لك أيضًا يا ولدي.
- وأنا وأخي سنكون إلى جانبه ليتمكّن من جمع قرشين والمجيء ببنت الحلال إلى البيت، قال مرهج. وهزّ فادي رأسه موافقةً وتأييدًا لكلام أخيه؛ فأثنى الوالد عليهما وباركهما.
وبعدما قبّل الثلاثة يد أبيهم، خرجوا من الغرفة فيما بقيت أمّهم جالسة في مقعدها حزينة مطأطأة الرأس.
- أترين أني عدلتُ في وصيّتي يا لوسيّا؟ سأل جبّور. لكن أمّ مرهج خانتها العبرات؛ فبكت وهي تقول كأنها تحدّث نفسها: مسكين هذا الصبي نجيب. ماذا سينتفع من أرض ليس فيها غير الصخور والسنديان والشوك!
- صحيح يا أبي، قالت ابنتي. حرام نجيب. ممَّ عاش؟
- نجيب، يا ابنتي، بعدما مات أبوه وتزوّج أخواه وأصبحا كلٌّ في بيته، باع البقرات وعاش وأمّه ممّا تركه والده من مال قليل. ولكن إليكِ ما حدث بعد ذلك:
مرّت الأيّام، وتعاقبت الأعوام، وتغيّرت الحياة في القرية بعدما غزتها المدنية بعجلاتها وأدواتها ومصابيحها الكهربائية. وأصبح الناس، خصوصًا الجيل الجديد منهم، يأنفون العمل في الفلاحة والزراعة؛ فهجروا حقولهم وكرومهم إلى حياة أسهل، الربح فيها أسرع والقرش إلى الجيب أقرب. وتهافتوا على شراء قطع الأرض القريبة من التجمّعات السكنية والواقعة على الطرقات العامّة من أجل بناء البيوت الجميلة والمحلاّت التجارية الكبيرة. وهكذا أصبح ثمن أمتار قليلة من أرض نجيب يساوي ثمن «حقلة» التوت التي لأخيه مرهج أو بستان الليمون الذي كان حصّة أخيه فادي. أما ثمن أرضه كلّها فربما اشترى الوادي كلّه.
- آه! إذًا صاحبنا أبو العلاء المعرّي لعلى حقّ. ها هو نجيب لم يطلب رزقه، لكن رزقه طلبه، والحظّ قرع بابه... ولكن هل باع نجيب أرضه؟
- لقد باعها بعد وفاة أمّه بأغلى الأثمان، ورمّم البيت وتزوّج. واقتنى سيّارة، وجاء بخادمة، وعاش حياة رفاهية. وأعطى كلاً من أخويه نصيبًا. وظلّ يدعو لأبيه بالرحمة صباح مساء.
- إنها لحكاية جميلة حقّاً. لكن يا أبي...
- لكن ماذا؟
- قرأت البارحة بيتًا من الشعر لإيليّا أبي ماضي، يقول:
لا شيءَ يُدرَكُ في الدنيا بلا تعبٍ
مَنِ اشتهى الخمرَ فليزرعْ دواليها.
وهذا نجيب قد أدرك اليسر والبحبوحة من غير تعب، واشتهت نفسه الخمر فشربها ولم يزرع دالية واحدة.
- على الرغم من ذلك أريدك أن تنحازي إلى أبي ماضي لأن المجتهد في الحياة، وإن سقط بسبب حظّه العاثر، فإنه لا يلبث أن ينهض. أما إذا اجتمع الكسل وسوء الطالع، فإن السقوط لن يكون له قيامة.
وكان في تلك اللحظة أن رنّ هاتف ابنتي النقّال؛ فرفعته إلى أذنها، وأخبرت رفيقتها أنها وجدت قصّة جيّدة لموضوع الإنشاء، لكنّ الحديث على الهاتف كان طبعًا... باللغة الانكليزية.