رحلة في الإنسان

لغة الأسرار والروابط الخفيّة!
إعداد: غريس فرح

لماذا تحرّكنا الموسيقى؟

سؤال طرحه الفلاسفة والعلماء عبر الأجيال، وما تزال الأجوبة عليه غامضة، غموض العلاقة الأزلية - الأبدية بين الإنسان واللحن. هذا اللحن الذي يداوي أحزاننا، ويثير فينا الفرح والنشوة، ويجمع شملنا في لحظات نحتاج خلالها الى المؤازرة والدعم.
هل يكمن سره في تكويننا، أم أن تأثيره الجماعي يحرّك في أدمغتنا لغة خاصة، تنطق بمشاعر لا تستوعبها الكلمات؟

 

كيف يعمل العقل؟
في كتاب «كيف يعمل العقل» (How the Brain works)، الذي أصدره العالِم ستيڤن بايكر، أحد أساتذة جامعة هارفرد الأميركية، إشارة الى أن قوة هذه الأداة السمعية، تكمن في تفاعلها مع المناطق الدماغية البدائية الأكثر تعقيداً. وهي المناطق التي تطوّرت، لتمكّن الإنسان من النطق والحركة وتبادل المشاعر.  ونتيجة هذا التفاعل، منحت الموسيقى الإنسان جهاز تواصل جديداً، لا تقوى على تعطيله الحواجز، مهما بلغت صلابتها. وهو ما أكدته مؤخراً مختلف المعطيات العلمية حين ركّزت على اللحمة التي توحّد مشاعر الشعوب والجماعات البشرية المختلفة في حضور اللحن الواحد. وعلى هذا الأساس، مُنحت الموسيقى شرف استباق عصر العولمة بأجيال. أجيال أمنت خلالها الألحان التواصل والتطوّر الاجتماعي والحضاري. أما بالنسبة الى كيفية حصول ذلك، فإن الأبحاث العلمية التي واكبت علاقة الموسيقى بالانسان، على الرغم من غموضها،  جاءت بنظريات نذكر أهمها.

 

الموسيقى والدماغ البشري
كما أكد العالِم البيولوجي شارلز داروني في كتابه «الرجل الشريف»، فإن الموسيقى مطبوعة في الدماغ البشري، بشكل يجعلها من صفاته المميّزة، والأكثر غموضاً.
هذه النظرية التي وضعها العالِم الإحيائي الشهير العام 1871، بقيت شغل العلماء الشاغل، الى حين بدأت تتوضح معالمها خلال الخمسينيات من القرن الماضي. فخلال هذه المرحلة، تطوّرت التقنيات المخبرية الحديثة، بشكل سمح للباحثين في حقل الأعصاب بالتعرّف، الى حدٍ ما، على مكامن النزعة البشرية الى الموسيقى في مصادرها البيولوجية. ومن هذا المنطلق بدأت الأنظار تتجه الى القشرة الدماغية (Brain Cortex) المخصصة لاستيعاب المشاعر، وتمّ تقسيمها الى مناطق في مقدمها القشرة الدماغية السمعية (Brain auditory Cortex) باعتبارها مخصصة لاستيعاب تعاقب الألحان، وتعيين مستوى النغم، ودرجة الصوت وقوته. الى ذلك، تمّ التعرّف الى منطقة سمعية مجاورة تستوعب نماذج موسيقية أكثر تعقيداً، كالتناغم بين اللحن والإيقاع.
من جهة ثانية، عُرف أن اللغة والموسيقى تستندان الى قواعد مشتركة تنظّم الأجزاء التابعة لها، كالكلمات، والأوتار الموسيقية، والمقاطع الشعرية وسواها. كذلك ثبت أن الموسيقى تترك تأثيرها في منطقتي «بروكا» و«يرميك» الدماغيتين البدائيتين، أي المسؤولتين عن الاستيعاب والنطق، والواقعتين في الشق الدماغي الأيسر. وعلى هذا الأساس، تمّ الاعتقاد أن ترتيب النغم الموسيقي، أو انسجام الألحان الوترية قد يكون ناشئاً عن عمل آليات دماغية، تطوّرت من أجل تنظيم القواعد اللغوية وفهمها. ولكن، إذا ما أخذنا بالاعتبار النظرية التي تؤكد تأثير الموسيقى في المناطق الدماغية المتحكّمة في المشاعر، كالحزن والفرح والخوف وسواها، يصبح بإمكاننا تعريفها كردّة فعل بشرية طبيعية، الهدف منها، توطيد الروابط البشرية وتعزيز غريزة البقاء والاستمرار. ولهذا السبب، اعتبرت لغة عالمية خفيّة.  

 

الدلائل الحسيّة على وجود هذه اللغة
حسب ما ورد في كتاب النزعة الى الموسيقى (Musicophilice)، الذي وضعه عالم الأعصاب الأميركي أوليڤر ساكس، فإن النشاط الذي تولّده الموسيقى في مختلف المسارات العصبية الدماغية، يتسبّب بنتائج ملحوظة، وخصوصاً في مجال نشوء الحوار المشاعري الجماعي.
فعندما يلعب الموسيقار لحناً يعكس مشاعره الشخصية، فهو لا يكتفي بمشاركة المستمعين هذه المشاعر، بل يعمّم تأثيرها في ما بينهم، ليحوّلهم عبرها الى كتلة إدراكية موحّدة.
الى ذلك، فإن بإمكان اللغة الخفيّة التي تغلّف سرّ وجود الموسيقى، اختراق حواجز أكثر صلابة وتعقيداً، ومنها على سبيل المثال، الحواجز التي تفرّق بين الأطفال الأصحاء، والمصابين بمرض «التوحّد». وهو ما أكّدته الدراسات التي راقبت تفاعل أطفال هذا المرض مع الألحان الموسيقية. وهنا يجب الإشارة الى أن المعانين مرض «التوحّد»، لا يتمكنون من قراءة الوجوه، لأنهم يجدون صعوبة في فهم المشاعر المرسومة عليها. مع ذلك، فقد تبيّن أنهم يتأثّرون بالألحان، ويقرأوون محتواها.

 

الموسيقى والتفاعل الحركي
إذا ما عدنا الى ذكر التواصل المشاعري الذي تولّده الموسيقى، يصبح من الضروري التطرّق الى واقع بدهي تضمّنته الدراسات، وأحاطته بتفسيرات علمية واضحة. فالأشخاص الذين يستمعون معاً الى الموسيقى، أو يشاركون في الغناء الجماعي، يخوضون لاإرادياً حالة نشاط دماغي حركي، الهدف منها متابعة الإيقاع اللحني. وبحسب الباحثين، فإن هذا النشاط ينبع من تفاعل مناطق دماغية متجاورة، منها المناطق غير الحركية أي التي تهيء الإنسان للحركة لدى سماع اللحن، والمناطق الحركية وفي مقدّمها «المخيخ» والمرتبط مباشرة بالحركة الفيزيائية. وهذا يؤكّد النظريات المؤيّدة لوجود هدف فطري وراء نشوء الموسيقى، وهو توحيد النشاط البشري.
على كل، فإن الاهتمام بالرابط الخفي بين الصوت والحركة كان قد طغى على اهتمام العلماء منذ أزمنة بعيدة. فالصوت ينشأ في الأصل من الحركة، وعندما يتحوّل الى ألحان متناغمة، يلامس ترجيعها الأجزاء الدماغية المرتبطة بوجودها، إضافة الى الأجزاء الأخرى التي أتينا على ذكرها. وعلى هذا الأساس يطاول الترجيع اللحني كامل الجهاز العصبي البشري المترابط، ويؤثّر بالتالي في الوظائف الجسدية بأشكال متفاوتة.

 

تأثير الموسيقى على الجسم البشري
من البدهي أن تختلف الآراء بشأن تأثير الموسيقى على الصحة ودورها في شفاء الأمراض. إلاّ أن أحداً لم يفكّر حتى الآن بما لها من تأثير مباشر على أداء وظائف الجسم، والسلوك البشري.
فالموسيقى الصاخبة على سبيل المثال، تثير الأشخاص الذين يستسيغون سماعها، وتحفّز لديهم ردّات فعل جسدية إيجابية، منها زيادة سرعة التنفّس، الأمر الذي يعزّز وجود الأوكسيجين في الرئتين والدم، إضافة الى زيادة معدّل هرمون الأدرينالين الذي يحفّز الطاقة، ويحسّن المزاج، ويزيد النشاط والحيوية.
من جهة ثانية، فإن الموسيقى الهادئة تخفّض التأثير السلبي للضغوط وهو ما يساعد على تهدئة دقات القلب ويخفّف الشعور بالألم والقلق وسواها من المشاعر السلبية. وأكّدت المصادر الطبية على أهمية دور الموسيقى في تهدئة المرضى المشرفين على إجراء العمليات الجراحية، إضافة الى تحسين سلوك الأطفال وكبار السن المصابين بمرض الزهايمر.

 

هل هي جزء من تكويننا؟
مقابل النظريات التي تربط تأثير الموسيقى بوظائف الدماغ التي تطوّرت في الأصل من أجل التحكّم بالمشاعر والنطق والحركة. توجد نظرية حديثة تؤكّد وجود مناطق دماغية مخصّصة للتفاعل مع الإيقاع الموسيقي والدليل أن بعض الأشخاص الذين تأذّت أدمغتهم لأسباب مختلفة، فقدوا مقدرة التجاوب مع الموسيقى التي كانت تثير اهتمامهم سابقاً. مع ذلك استمروا بالاستمتاع بالفنون المرئية كالرسم وسواه. وعلى هذا، تمّ الاعتقاد أن الجزء المتضرّر من الدماغ، كان قد تطوّر لاستقبال الموسيقى.
والظاهرة الأكثر التصاقاً بهذه النظرية، هي التي استعانت بها إختصاصية الأعصاب الإيطالية كريستينا سيكومان في أبحاثها الأخيرة، وتمثّلت بالتجاوب الطفولي الفطري مع الأداء اللحني. وهي ظاهرة جسّدت برأيها الوحدة البدائية بين الإنسان واللحن.
والمعروف أن حقيقة هذه الوحدة تظهر من خلال التعامل العالمي اللفظي مع الأطفال، أي عبر «المكاغاة»، و«لهجة الدلع الطفولي»، حيث تبرز المقاطع اللحنية الغنائية، وكأنها لغة عالمية راقصة. هذا إذا ما استثنينا الظاهرة الأكثر شيوعاً، والمتمثّلة بالأغاني التي تؤدّيها الأمهات لتهدئة الأطفال، وتحضيرهم للنوم العميق.
وربما تكون ظاهرة التفاعل الطفولي مع الألحان هي الحجر الأساسي للتواصل البشري الذي أرساه أجدادنا الأقدمون بعفوية صادقة. وتعتبر آثار الآلات الموسيقية المصنوعة من العظام، والتي كشفت عنها الحفريات في أمكنة وجود الإنسان النينديرتالي القديم، خير دليل على هذه الوحدة، وعلى دور اللحن في دعم مسيرة البقاء والتطوّر.
حتى الآن، فإن النظريات المطروحة كافة، قد لا تكون كافية للإجابة على سؤال: لماذا وُجدت الموسيقى؟ مع ذلك، تستمر الأجيال بتسخير الألحان لشحن الطاقات، ورفع المعنويات أو تهدئة المشاعر.
وتبقى الموسيقى الوسيلة المباشرة الأكثر غموضاً لنقل الأفكار والمشاعر، ولربط إدراك أحدنا بالآخر... وتبقى في عقولنا لغة تربط جذورنا بالمستقبل، وترقد ما بين وعينا ولاوعينا.