قصة قصيرة

لكَ الحمدُ يا ألله
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

​نهض «نعيم» من نومه، وجلس في سريره لبعض الوقت يفكّر مهمومًا حزينًا. ثم انزلق عن السرير ضعيف الهمّة، وخرج إلى شرفة بيته الضيّقة ينقّل ناظريه بين أسطح القرميد والجنائن الغنّاء المحيطة بالمنازل الجميلة من حوله. عاتبَ ربَّه الذي أعطى الناس ولم يعطِه وهو الرجل المؤمن الصالح الذي ما أتى يومًا عملًا قبيحًا، وما دخل قرش جيبه إلّا مغسولًا بعرق التعب.

​لم يمضِ طويل وقت حتى خرجت إليه زوجته بركوة القهوة وقليل من الكعك، وأيضًا بلائحة طويلة من الحاجات: «هلاّ ذهبتَ إلى السوق وابتعتَ لنا هذه».

​كلّها!! قال وبلع ريقه.

البيت فارغ. الأولاد ذهبوا إلى المدرسة- يا ولدي- «بعرائس» زيتون، قالت واغرورقت عيناها بالدموع.

​لستُ أملك ثمنها كلّها يا «سُمَيّة». بقي ستّة أيّام بعد لأقبض مرتّبي.

​عندئذٍ أخذت سميّة الورقة، وشطبت منها ما يمكن تأجيل شرائه، ثم ناولتها زوجها: «هذه فقط الآن».

​دخل نعيم غرفته، وفتح الخزانة يريد تبديل ملابسه. أخذ آخر قميص اشتراه بتاريخ لم يعد يذكره، وارتداه من غير أن يطيل النظر إلى لونه الذي باخ وإلى الياقة التي بدأ يعتريها الاهتراء. ثم ارتدى سروالًا حاله ليست بأفضل من حال القميص، ودسّ قدميه في حذاءين لم يعد يعرف كم مرّة صبغهما وغيّر الإسكافيّ نعلَيهما. وخرج لا يفكّر في شيء لقناعته بأن طول التفكير مجلبة للهمّ، والهمّ لا يغيّر من حالٍ إلى حال.

​وبينما كان يسير الهوينى في ذلك الشارع المزدحم بالناس الساعين كلٌّ إلى رزقه وحاجته، مرَّ بحانوت رصف صاحبه عند مدخله عدّة صناديق بلاستيكية وضع فيها من الخضار والفاكهة أصنافًا وألوانًا. وإذ وقف نعيم يستعرض أسعارها المرتفعة بحسرة، قَدِمَ رجل ضئيل الجسم، رثّ الثياب، وعلى محيّاه تلوح كلّ أمارات العوز. وبمروره من هناك صدمت قدمُه إحدى الصناديق؛ فانهار ما عليها من خضار، وتبعثر في كلّ اتّجاه؛ فما كان من صاحب الحانوت إلّا أن نهره من الداخل: «هيه. ماذا فعلت؟!». ثم خرج غاضبًا: «أأعمى أنت!».

​في الحقيقة إني أبصر بعين واحدة.

​افتحْها جيّدًا إذًا... ساعدني في جمع ما تبعثر، هيّا.

​حاضر، قال وانحنى يلتقط الخضار بيده اليسرى.

​حرّكِ اليمنى أيضًا. ليس لدينا النهار كلّه.

​لا أستطيع تحريكها يا سيّدي. إنها يابسة كعود حطب.

​عندئذٍ انحنى نعيم أيضًا يساعدهما. ولمّا انتهوا وهمّ الرجل ذو العين الواحدة بالانصراف، استمهله نعيم، ودعاه إلى احتساء فنجان قهوة في مقهى قريب بعدما رقَّ له ورأى في حاله عزاءً لنفسه، فعلى الأقلّ هو ما زال يحتفظ بعينيه الاثنتين، ويستطيع تحريك يديه معًا. وكان أن قبِلَ الرجل الدعوة شاكرًا ممتنًّا.

​في المقهى أخذ نعيم رشفة من فنجانه، وسأل صاحبَه عمّا به؛ فأجاب: «في آخر جولة قتال في المدينة سقطت قذيفة على مقربة مني؛ فلم أستعد وعيي إلّا في المستشفى الحكوميّ. لكن، كما ترى، فقد فقدتُ عيني وشُلَّتْ يدي». قال، ولمعت الدمعة في عينه السليمة.

​اشكرْ ربّك يا أخي...

​ناجي. إسمي ناجي.

​اشكر ربّك يا أخي ناجي لأنك ما زلت على قيد الحياة.

​وأيّ حياة هي التي أحياها!! لقد استغنى ربّ عملي عني، وصرفني لأنني لم أعد أستطيع أن أخدمه كما كنت أفعل قبل إصابتي. وها أنا أدور من مكان إلى مكان باحثًا عن عمل يؤمّن لقمة أولادي ولا أجد.

​ألله كريم يا أخي، ألله كريم. ما من شِدّة إلّا يعقبها فرج. قال الشاعر:

ضاقتْ ولمّا استحكمتْ حلقاتُها فُرجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرَجُ.

​صدّقْني إن قلت لك إنني لم أعد أريد الحياة. يا ليتني متُّ آنذاك مع الذين ماتوا.

​مضت لحظات من الصمت لأنّ نعيمًا لم يجد ما يقول بعد، ولا صاحبه أحبّ أن يضيف أكثر. وقبل أن ينهيا قهوتهما، شاهدا رجلًا يعبر الباب إلى الداخل، لكنه كان يحجب عينيه بنظّارتين سوداوين، وينقّل قدميه بخطوات قصيرة متردّدة مستعينًا بشابّ يمسك بذراعه.

​جلس الاثنان في ركن من أركان المقهى قبل أن يسأل الشابُّ الرجلَ: ماذا تريد أن تتناول يا أبي؟

​سَلْهمْ إن كانوا يقدّمون السمَّ ههنا.

​لماذا تقول مثل هذا الكلام يا أبتِ؟!!

​لأنني لم أعد أريد الحياة. لقد سئمتُها. كرهتها. كيف لا، وأنا لا أستطيع أن أبصر!! لا أستطيع أن أتبيّنَ دربي!! نهاري مثل ليلي. تشرق الشمس ولا أراها، وتتفتّح الأزهار في حقول الربيع ولا أبصرها. وأكثر ما يحزّ في نفسي هو أنني لا أقدر أن أراك يا ولدي. هكذا قال واختنق صوته؛ فأردف كمَن يحدّث نفسه: رحمَ الله الذي قال:

تعبٌ كلُّها الحياة فما أعـجبَ إلا من راغبٍ في ازديادِ.

​كان هذا الحوار يتناهى إلى مسامع نعيم وناجي. فلمّا توقّف، قال ناجي: أتعرف يا صديقي؟

​ماذا؟

​قبل اليوم عاتبتُ ربّي كثيرًا لأنه أخذ عينًا من عينيّ. لكنّ هذا الأعمى فتح بصيرتي لأحمد الله الذي حفظ لي عيني الثانية. المسكين لا يستطيع أن يرى جمال الطبيعة ونور الشمس، فيما أنا، ولو بعين واحدة، أستطيع. هو لا يقدر أن يبصر وجه ابنه ليعرف إن كان فرحًا أم حزينًا، قلقًا أم مطمئنًّا. أما أنا، والحمد لله، فقادر على رؤية وجوه أولادي ومعرفة ما بهم قبل أن يتكلّموا. هكذا قال، ورفع بصره إلى العلاء وهتف: سامحني يا ألله. اغفر لي يا إلهي الرحيم. لقد أسأتُ إليك، وأنكرت نِعَمك، وعميتُ عن هباتك وعطاياك. أما اليوم فقد انفتحت بصيرتي وأبصرت.

​ما أنهى الرجل مناجاة ربّه حتى هاج مَن في المقهى وماج، وازدحم كثيرون إزاء النوافذ، فيما بعضهم هبّوا خارجًا يدفعهم الفضول لمعرفة ما يجري، ذلك أنّ امرأة خرجت إلى شرفة بيتها العالية تريد رميَ نفسها من فوق إلى الشارع. وقبل أن تطوي جسدها فوق الحاجز المعدنيّ، أمسكتْ بها امرأتان وردّتاها إلى الخلف؛ فأخذت تصيح وتقفز في مكانها محاولةً الافلات: «دعاني. اتركاني ألحق بولديّ. ما معنى حياتي من دونهما! لماذا أحيا بعدهما، لماذا!». ثم راحت تبكي وتضرب خدّيها بكفّيها، ورفيقتاها تشدّان بها إلى الداخل. إذ ذاك أطلق نعيم زفرة حرّى، وقال: إرحمْ عبيدك يا ألله. ثم أضاف:

كلُّ مَن تلقاهُ يشكو دهرَهُ ليتَ شِعري هذهِ الدنيا لمَنْ!

​ما الأمر؟ ماذا يحصل؟ سأل الأعمى ابنَه بعدما خرج مستطلعًا الخبر ثم دخل.

​مسكينة. يقولون إنها فقدت ولديها منذ يومين بحادث سير مروّع. لقد كانت، بعد وفاة زوجها، تحيا من أجل أولادها، حتى قُتل ابناها ولم يبقَ لها سوى بنت وحيدة.

​عندئذٍ مدَّ الأعمى ذراعَيه، واحتجز يد ابنه بين كفَّيه، وبصوت متهدّج وشفتين مرتعشتين قال: «اقتربْ مني يا ولدي. هاتِ رأسك أرِحْه على كتفي... أحمدك يا ربّي لأنك صبرتَ على شكواي وتذمّري. أشكرك يا إلهي على ما أنعمت به عليّ. لقد أخذتَ بصري، لكنك حفظت لي ابني. إذا شئتَ خُذْ بعدُ سمعي. خذ صحّتي. ما همّني ما دمتُ قادرًا على لمس يد ولدي وشمّ رائحة ثيابه!». هكذا قال وبكى كثيرًا قبل أن ينهض بمعونة ابنه ويتّجهان صوب الباب.

​هذا الحوار، أيضًا، سمعه ناجي ونعيم. لكنهما بقيا معتصمين بالصمت وينظران إلى الخارج بعيون من زجاج، حتى مرّ من أمامهما رجل متوسّط العمر، شعره طويل أشعث، ذقنه غير حليق، ملابسه أكل الدهر عليها وشرب، بعض قميصه فوق سرواله وبعضه الآخر تحته. وكان يمشي مترنّحًا. بصره بين قدميه، أما يداه فكانتا تضربان الهواء. وقف في الطريق. أجال الطرْف في كلّ اتّجاه. وشتم ولعن من غير أن يردّ عليه أحد.

​مَن هذا؟ أتعرفه؟ سأل ناجي نعيمًا.

​يقال له سعيد المجنون.

​إيه والله. كلّ مجنون سعيد.

​ثم راحا يرافقانه بالنظر حتى بلغ تقاطع طرق يقف عنده شرطيّ سير.

​قفْ يا سعيد، قال الشرطيّ.

​حاضر يا أفندي، أجاب وفعل بقدمه فعلَ السائق يضغط مداسّة الفرامل؛ فأضحك كلّ مَن رآه.

​كيف اجتزتَ السيّارة المتوقّفة هناك ولم تستخدم المنبّه! أما من منبّه في سيّارتك؟

​بلى، قال وقلّدَ صوت المنبّه.

​لا تخطئ مرّة ثانية وإلا نظّمتُ بحقّك ضبطًا.

​حاضر يا أفندي.

​هيّا انطلق، قال الشرطيّ ولم يستطع أن يملك نفسه عن الضحك عندما ركض سعيد محدثًا صوتًا يحاكي أزيز الإطارات على إسفلت الطريق.

​هذا المشهد رأته أيضًا من شرفة بيتها المرأة التي حاولت الانتحار منذ بعض الوقت، لكنها لم تضحك قطّ. لقد بدتْ ساكنة كتمثال من حجر، ذلك أنّ المهدّئ كان قد فعل في جسمها فعله. ولمّا نزلتْ بها ابنتها إلى الشارع لتروّح قليلًا عن نفسها فلا تبقى حبيسة بيتها وأحزانها، تقدّم نحوها عارفوها للسلام عليها تعبيرًا عن تضامنهم معها في مُصابها. كذلك فعل نعيم وناجي.

​رحمَ الله ولديكِ يا أختاه، قال نعيم. ليمنَّ الله عليكِ بالصبر والسلوان.

​هذه الكأس سنجرع منها كلّنا، ولا أحد يعرف متى يحين حينه، قال ناجي.

​ثمّة في الأرض مَن قاسى أكثر مني وعانى أشدّ ممّا عانيت. لكنه صبر وما صبرت، وتحمّل وما تحمّلت. في لحظة يأس فقدت إيماني برحمة الله ولم يكن يجدر بي أن أفعل. إلهنا محبّ ورحيم. هو مَن أعطى وهو مَن أخذ؛ فلتكنْ مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض. هكذا قالت، ومسحت دمعتيها بيديها، وأضافت: بعدما رأيت وسمعت من سعيد المجنون ما رأيت وسمعت، تذكّرتُ مقدار كرم إلهي وإنعامه عليّ. لقد أخذ ولديّ، لكنه ترك لي بقيّة عقل وحِلْم حتى أستغفره قلّة إيماني ونوبات غضبي. أما هذا المسكين فقد ذهب عقله بعدما قضت زوجته وابنته الوحيدة في حريق أتى على كلّ محتويات بيته؛ فأصبح أضحوكة فاقدي الإيمان والإنسانية. ذهب عقله ولم يعد يعرف أننا أبناء رجاء وقيامة لا أبناء موت وأحزان.

​انصرف ناجي ونعيم من هناك. ثم افترقا على وعد بلقاء قريب. وإذ مرّ نعيم بأحد الحوانيت، ابتاع حاجاته كلّها. ثم عرّج على حلوانيّ يعرفه وانتقى قالبًا كبيرًا من الحلوى.

​لكنني لست أحمل الثمن، قال نعيم بخجل.

​مَن طالبك به؟! خذْ ما شئت؛ فأنت رجل شريف لا تأكل قرشًا على أحد.

​حمل نعيم القالب، وأخذ طريق العودة إلى البيت لا يلوي على شيء. ولمّا وصل ودخل، نادى زوجته: «خذي هذا مني».

​ما هذا؟!

​قالب حلوى. نادي الأولاد. نريد أن نحتفل.

​نحتفل! بمَ! سألت. ولمّا لم تلقَ جوابًا، نادت أولادها؛ فحضروا في الحال. إذ ذاك فتح نعيم العلبة التي تحوي القالب، وجلس بين أفراد عائلته. ولأوّل مرّة تلا صلاة قال فيها: نشكرك أيها الربّ إلهنا لأنك أنعمتَ علينا بسقف يظلّل رؤوسنا فيما الكثيرون لا مأوى لهم، وبلقمة خبز تحفظ حياتنا وملايين الناس يموتون في الأرض جوعًا. بعد اليوم لن أنظر بعين الحسد إلى مَن رزقته أكثر ممّا رزقتنا وأعطيته ما لم تُعطنا. أنت الأب الكريم الحكيم الذي يعرف كيف يوزّع عطاياه.

​ما أنهى نعيم صلاة الشكر هذه حتى كان بعض احمرار يلوح في بياض عينيه من دمع حبيس. طلب من أصغر الأولاد أن يقصّ القالب؛ ففعل. ولمّا سئل تفسيرًا لِما يحدث، قال: «قرأتُ أمس في كتاب أنّ غرابًا ذهب إلى طائر بجع، وقال له: لا بدّ من أنك سعيد لبياض ريشك، فيما أنا تعس لأني أسود. بمَ تشير عليّ لأشعر ببعض السلوان؟ أجاب طائر البجع: لقد أخطأتَ، يا صديقي، إذ ظننتَني سعيدًا. أنا شقيّ لأنْ ليس لي إلا لون واحد، فيما لريش الحسّون ألوان زاهية كثيرة. فما أسعده وما أشقاني!

​ذهب الغراب إلى الحسّون، وقال له: ما أجمل ألوانك يا صاحِ! بمَ تنصحني لأطرد من قلبي هذا الحزن الذي خلّفه فيه سواد لوني؟ أجاب الحسّون وقد اكتسحت الكآبة قلبه: كيف تحسبني سعيدًا بهذه الريشات القصيرة!! يا ليتني خُلقتُ كالطاووس ذا أرياش طويلة جميلة.

​ذهب الغراب إلى الطاووس في قفص الطيور، وقال له: ما أسعدك بجمال ريشاتك! كيف لي، أنا الأسود، أن ألقى بعض العزاء؟ إذ ذاك خفض الطاووس ذيله الملوّن الطويل، وأناخ رأسه وبكى: «كم أحسدك على حريّتك أيها الصديق المحظوظ! أنا، كما تراني، حبيس هذا القفص اللعين. عليّ أن أرضى بما يقدّمونه لي من طعام وشراب. أما أنت فلكَ الفضاء الواسع ملعب، وحَبّ البيادر ودموع السواقي مأكل ومشرب. عندئذٍ طار الغراب بعيدًا يضرب الريح بجناحيه، ويسبّح ربّه ويشكره على نعمة لم يكن قبل اليوم يراها».

​ما أنهى نعيم حكايته حتى طأطأت زوجته سميّة رأسها، ومسحت دمعتين سالتا على خدّيها: «نحمدك أيها الربّ إلهنا على كلّ ما أنعمتَ به علينا»؛ فردّ الأولاد بصوت واحد: «الحمد لك يا أللّه». أما الصغير فسأل أباه وهو يضع في صحنه قطعة حلوى ثانية إذ كان قد رأى مرّة غرابًا وطائر بجع وحسّونًا وطاووسًا؛ فأجاب: «أجل. حدث كلّ ذلك اليوم». ثم قصّ على الجميع كلّ ما رأى في السوق وسمع.