رحلة في الإنسان

للتعاطف مع الغير حدود...
إعداد: غريس فرح

من الطبيعي والضروري أن نستجيب لأحاسيس الآخرين وخصوصًا المقرّبين منهم. فالمقدرة على سبر المشاعر، ورؤية الأشياء من وجهة نظر الغير، تخفّف الآلام، وتنحو بالحياة بعيدًا من الأحقاد والشرور، ولكن... لكل شيء حدود. فالاختصاصيون الذين عاينوا عن كثب تأثير التعاطف الإيجابي على العلاقات، يوضحون ضرره بالنسبة إلى المعنيين بمعايشة مشاكل سواهم على المدى البعيد.
كيف نفسّر هذا التناقض، ولماذا علينا أن نتمهّل قبل الانصهار في عذابات سوانا؟

فإيّاكم والوقوع في الفخّ التعاطف متجذّر في ذواتنا


التعاطف كما يراه الفلاسفة والمفكّرون، جسر نتبادل عبره الأحاسيس والمشاعر ونتشارك عبء الهموم تخفيفًا لوطأتها. أما بالنسبة إلى العلماء النفسيين، فهو شعور فطري تمتد جذوره بعيدًا في عالم الإنسان وحتى الحيوان.

إن الميل إلى تفهّم تجارب الغير الأليمة، هو هبة طبيعيّة كالنظر والسمع واللّمس والذوق والشّم. فالرغبة بأن يصغي الآخرون إلى صوتنا الداخلي، وأن يشعروا بوجودنا، لا تضمحّل ما دمنا أحياء.


الأطفال يأتون إلى الحياة مؤهلين للتعاطف مع محيطهم الخارجي، وحالما يتملّكهم الوعي، ويتمكّنون من ضبط الخطوات، يبكون تعاطفًا مع كآبة سواهم، ويهرعون لمؤاساة من يجدونه بحاجة إلى المؤازرة. وفي هذا دليل على أنّ الشعور بالتعاطف متجذّر في أجهزتنا العصبية، ودرجة قوته تحدّدها نسبة الهرمونات الموجودة في جسم كلّ منا. فارتفاع نسبة هرمون البروجستيرون مثلًا لدى البعض، يمكّنهم من التعاطف مع الغير أكثر من سواهم، أما ارتفاع نسبة هرمون التيستوسترون فيؤدي إلى الحد من هذا التعاطف.


هذا الشعور إذن موجود وطبيعي، إلّا أنّه بحسب الباحثين، يتّخذ شكله النهائي من خلال التربية والتدريب. ومن هنا أهميّة التعامل معه كباقي المشاعر البشريّة، بذكاء وحذر. فالأهل كما هو معروف، عمومًا يشجعون الأطفال على التعاطف مع الغير بهدف تنمية أحاسيسهم الإيجابية. ولكن في حال الإفراط بذلك، يكونون قد دفعوهم من دون قصد إلى الانصياع لرغبات سواهم على حساب رغباتهم، وهو ما يفقدهم مع الوقت الشعور الحقيقي بذواتهم.

 

كيف يحصل ذلك؟

من وجهة نظر علم النفس، فإنّ التعاطف غير المحدود والبعيد عن العقلانية، يضعف الكيان النفسي للمعنيين بتقديمه، وهذا يحصل نتيجة افتقار البعض إلى القدر الكافي من المعرفة والوعي الذي يؤهّلهم لمعايشة مصاعب الغير من دون إيذاء أنفسهم.
إنّ عملية تفهّم الغير، لا تنطوي على المشاعر فحسب، بل تشمل الأفكار التي يتم تبادلها بين الفريقين، المتعاطِف والمتعاطَف معه. لذا فمن أجل أن نضع أنفسنا مكان الغير وأن نشاركه الأحاسيس، خصوصًا السلبية منها، علينا أن نرسي التوازن بين الأفكار والمشاعر، وبين متطلّباتنا وحاجات سوانا. وفي حال فقداننا هذا التوازن، فإنّ تعاطفنا سيتحوّل حتمًا إلى فخ يجعلنا مع الوقت أسرى مشاعر الغير، فتُستنزف طاقاتنا، ونُصبح حتى عاجزين عن مساعدة أنفسنا.

 

كيف نحقّق هذا التوازن؟
من أجل تحقيق التوازن المطلوب، علينا أن نتقن فنّ الإصغاء، الإصغاء إلى متطلّبات الغير من دون الذوبان في بؤر همومه. وهذا يقتضي براعة عقليّة قوامها تحويل التناغم الحسي الموجّه نحو الغير، إلى الذات.
إنها بدون شك تجربة داخلية معقّدة. فهي تتطلّب وعيًا ومقدرة على التمييز بين إرادتنا وإرادة من نحبّ. بين مشاعره التي غالبًا ما يحاول عبرها اختراق حواجز شخصياتنا، وبين ما نشعر به نحن على أرض الواقع.
أن نضع أنفسنا مكان من نحب، ونرى الأشياء من وجهة نظره، أمر يحتاج إلى عقلانية وصمود يؤمّنان ضبط إيقاع الأحاسيس بصبر ورويّة، وفي غياب هذين العنصرين، نصبح معرّضين لمخاطر لا بد أن تلوح في الأفق.

 

ما هي هذه المخاطر؟
الدراسات التي شملت هذه الناحية، أكّدت أن الأشخاص الذين يعايشون مشاكل الغير بدون حدود، يصلون إلى مرحلة يصبحون خلالها عاجزين عن التعرّف إلى حاجاتهم وحتى حلّ مشاكلهم. إلى ذلك، لوحظ أنّ معظمهم يعاني ارهاقًا جسديًا ونفسيًا,  وهذا يعود إلى المجهود المتواصل الذي يبذلونه من أجل تجييش أحاسيسهم لمصلحة المتعاطفين معهم. وهنا يؤكّد الباحثون النفسيون أنّ التعاطف بالشكل المذكور يجرّد الشخصية من خطوطها الدفاعية. وهذا يحصل عندما يصبح المعنيون بالمساعدة معتمدين كليًا على المتعاطفين معهم.
عند هذا الحدّ، يصل الأشخاص الذين يعطون الأولوية لمشاعر الغير إلى درجة الإعياء. فيكتئبون وينتابهم قلق دائم وشعور لا متناه بالفراغ.
إنّه الفخ العاطفي الذي سبق وأشرنا إليه. فهل من سبيل إلى الإفلات منه؟
 

الحلول المطروحة
في حال كهذه، يوصى بسرعة التحرّك من أجل التعرّف إلى الاحتياجات الشخصية وتلبيتها. وهذا يستدعي إعادة النظر بطريقة التعاطف من أجل إرساء التوازن بين عمليّتي الأخذ والعطاء.
إنّ مجرّد العودة إلى الذات، والتساؤل عن مدى الاستنزاف الحاصل نتيجة الانصهار في مشاعر الغير، خصوصًا السلبيّة منها، كفيل بخلق مسافة، أو متنفّس يسمح بإعادة ترتيب الأمور.
إنّ الطريقة الوحيدة التي تجعلنا نهتم بمن نحب من دون أن نهمل ذواتنا، هي أن نستبدل التعاطف الأعمى بالعاطفة المقترنة بالذكاء. والأهم هو أن نسعى لأن نكون أقوياء.
القوة هي الطريق الوحيد نحو الاستمرار بتأمين العطف والمساعدة. وهي إذا ما اقترنت بالحب والحنان تصبح أكثر فعالية من التعاطف اللامسؤول.
والقوة شعور ينمو في داخلنا ويسهل اكتسابه. فلنسعَ إليه لنتمكّن من متابعة خطانا على دروب العطاء.