قضايا إقليمية

لماذا الإصرار على «الدولة اليهوديـة»؟
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

إن شعار «الدولة اليهودية» إنما هو شعار ذرائعي عنصري يرمي الى نفي كل من هو غير يهودي من داخلها، مع طمس معالم كل الحقوق الشرعية الراسخة المكرّسة للفلسطينيين. فلا وجود لحق العودة ولا لحق التعويض ولا لحق الأرض والبيوت والممتلكات المنهوبة... والإعتراف بـ«الدولة اليهودية» يعني حتماً الإعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.

 

ثمة فرق كبير بين مصطلحي «دولة اليهود» و«الدولة اليهودية». فدولة اليهود تعني مكان تجمّعهم بصرف النظر عمن يمارس أو لا يمارس الطقوس الدينية اليهودية. أما الدولة اليهودية فهي دولة دينية بكل ما للكلمة من معنى. وهي بالتالي تستمد شرعيتها من العهد القديم ومن التراث اليهودي بما فيه من أساطير ومزاعم وادعاءات.

لقد عملت القوى الإستعمارية الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، في سياق طراز جديد من «الحملات الصليبية»، على إنشاء جيب إستيطاني في فلسطين للتخلّص مما كان يسمى «الفائض البشري اليهودي»، وايضاً لتأسيس قاعدة إستعمارية متقدّمة تخدم المصالح  الغربية وتحميها.
ولتغطية هذه الأهداف ادّعت الدول العظمى المعنية بالمشروع أن هذه القاعدة المنشودة ستكون «دولة يهودية» يحقّق فيها اليهود هويتهم القومية ويؤدون تعاليم شريعتهم التي هي جزء من التراث اليهودي - المسيحي المشترك، في ظل مساعدات لا حصر لها في شتى المجالات السياسية والعسكرية والإقتصادية.
إلا أن مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتسل، كان علمانياً بكل معنى الكلمة، ولم يكن يكترث بالعقيدة اليهودية، التي كان يتعمّد خرق تعاليمها، شأنه في ذلك شأن معظم الزعماء الصهاينة الآخرين مثل حاييم وايزمان وجابوتنسكي وموشيه هس وبن غوريون وسواهم. وكان عنوان الكتاب الذي عرض فيه هرتسل رؤيته كل ما سمي «المسألة اليهودية» هو «دولة اليهود» وليس «الدولة اليهودية». وثمة فرق كبير بين المصطلحين. فدولة اليهود تعني مكان تجمّعهم بصرف النظر عمن يمارس أو لا يمارس الطقوس الدينية اليهودية وفقاً لأصول وشروط تقرّها الدولة وتكرّسها في دستورها، إن وجد. أما الدولة اليهودية فهي دولة دينية بكل معنى الكلمة على غرار دولة طالبان في أفغانستان، وهي بالتالي تستمد شرعيتها من العهد القديم ومن التراث اليهودي بما فيه من أساطير ومزاعم وادعاءات.
ومعلوم أن الحركة الصهيونية بدورها انقسمت حول هذه الإشكالية منذ البداية، فكان هناك من أصرّ على أن الصهيونية هي حركة دينية وأن الدولة الصهيونية في جوهرها دولة يهودية وسمّي هؤلاء دعاة «الصهيونية الدينية» وفي المقابل كان هناك من سمّوا بأنصار «الصهيونية الثقافية» ممن يعتبرون الصهيونية حركة نهضوية علمانية لا تدافع عن الدين اليهودي، وإنما عن اليهود عموماً وعن هويتهم القومية.  إلا أن هذين الإتجاهين عادا وتوحّدا حول مفهوم الشعب اليهودي الواحد المتمتّع بالقداسة وبالحق المطلق في أرض فلسطين «أرض الميعاد»، من منطلق المصالح الإستيطانية والإستعمارية. ومع ذلك فالخلافات بين الفريقين استمرت حتى يومنا هذا في مختلف مجالات الممارسة العملية. والعام 2003 اتخذ الكنيست الإسرائيلي قراراً يقضي بضرورة تعميق فكرة يهودية الدولة وتعميمها على مجمل دول العالم جنباً الى جنب مع محاولة إنتزاع إعتراف فلسطيني بهذا الواقع، في أثناء مؤتمر أنابوليس الذي إنعقد في نهاية العام 2007، وذلك بهدف إضفاء الشرعية على التطهير العرقي الذي مارسته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني سابقاً وفي الوقت الحاضر، بالإضافة الى تهيئة الأجواء لتنفيذ مخططات «الترانسفير» (الترحيل) بحق من تبقّى من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر أي حدود العام 1967. وهكذا إنتبه دعاة «الدولة اليهودية» الى أنه إذا لم تكن الدولة الصهيونية يهودية حقاً ومحكومة بالشريعة اليهودية وأوامرها ونواهيها، سواء في المسائل العامة أو الشخصية، فإنها تفقد بالتالي شرعيتها التاريخية ولا يعود يحق لها المطالبة بما يسمى «أرض إسرائيل» في فلسطين وفقاً للأساطير التوراتية. والحقيقة أن التركيز على يهودية الدولة، بغض النظر عن التطبيق والممارسة الدينية، إنما يشكّل ذريعة خبيثة لأهداف كثيرة منها تبرير الممارسة العنصرية اللئيمة ضد الأقلية العربية داخل الخط الأخضر وضد اللاجئين الفلسطينيين المشردين في أماكنهم المختلفة، سواء في فلسطين التاريخية أو في المناطق القريبة داخل الدول العربية وتكريس توطينهم حيث هم، بذريعة المحافظة على نقاء «الدولة اليهودية». وقد كان رئيس الحكومة الأسبق آرييل شارون - الميت سريرياً - قد شدّد على هذا المصطلح معتبراً أن حدود هذه الدولة تمتد من البحر الأبيض المتوسط غرباً وحتى نهر الأردن شرقاً، وأضاف أن أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة يجب أن يُنقلوا الى العراق حيث يُمنحون الجنسية هناك وذلك تنفيساً عن الهاجس الديموغرافي الإسرائيلي حيال ما يسمى «القنبلة الديموغرافية»، من جراء التزايد الطبيعي المرتفع في صفوف العرب.
وفي هذا الإطار أتت مطالبات وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي أفيغدور ليبرمان لمبادلة الأراضي الفلسطينية التي تقوم عليها الكتل الإستيطانية الكبرى في داخل الخط الأخضر مع «الدولة الفلسطينية المقبلة» لتشمل منطقتي المثلث ووادي عارة، هذا مع العلم أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ أكثر من 60 عاماً لم تستطع جذب أكثر من 40٪ من يهود العالم الى فلسطين المحتلة.
كما ويوجد داخل الكيان يهود ضلّلتهم الدعاية الصهيونية، ممن يطالبون بأن تكون إسرائيل «دولة لكل مواطنيها». وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تنظر الى من يحاول إشفاءها من أمراضها العنصرية المتأصلة، نظرة عدو لدود حتى لو كان من مواطنيها اليهود من جهة الأم والأب، وهي طردت وحاربت الكثير من نخب اليهود المتنوّرين الذين عملوا على إعادتها الى رشدها من أمثال يسرائيل شاحاك وآفي شلايم وايلاه بابيه وصولاً الى أوري أفنيري وشولامين آلوني وموردخاي فعنونو وسواهم، لأن هؤلاء بحسب قادة الدولة يحفرون قبرها من دون أن يشعروا.
باختصار يمكن القول إن شعار «الدولة اليهودية» إنما هو شعار ذرائعي عنصري يرمي الى نفي كل من هو غير يهودي من داخلها، مع طمس معالم كل الحقوق الشرعية الراسخة المكرّسة للفلسطينيين. فلا وجود لحق العودة ولا لحق التعويض ولا لحق الأرض والبيوت والممتلكات المنهوبة ولا لحق حل مشكلة التشريد والقمع والإحتلال. كما وأن الإعتراف بـ«الدولة اليهودية» يعني حتماً الإعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، فلا دولة يهودية من دون القدس وذلك تصديقاً لشعار «فلتنسني يميني إن نسيتك يا أورشليم». كما ويعني أن يكفِّر العالم عن كل خطاياه باعترافه بإسرائيل كإمبراطورية يهودية صافية، الى جانب دولة فلسطينية مفكّكة ومحاصرة ومجرّدة من السلاح وضيقة المساحة ينتفي معها حق العودة ويتكرّس التشريد والتوطين على حساب الدول المضيفة.