قانون دولي

لماذا تخشى اسرائيل انضمام فلسطين الى المحكمة الدولية الجنائية الدائمة (نظام روما)؟
إعداد: د. أحمد سيف الدين
(ضابط متقاعد)


عندما قدّمت السلطة الفلسطينية طلبًا للانضمام إلى المحكمة الدولية الجنائية الدائمة (نظام روما)، جُنّ جنون سلطات العدو الإسرائيلي؛ ولم يكتف مسؤولوه بالموقف السياسي, بل عمدوا إلى حجز رصيد السلطة من عائدات الضرائب والرسوم، وهددوا باتخاذ خطوات أكثر إيلامًا في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في مطلع نيسان الحالي، انضمّت فلسطين رسميًا الى المحكمة... فما الذي تخشاه إسرائيل؟

 

ردّ إسرائيل وحلفائها على طلب الانضمام
حلفاء إسرائيل أيدوا موقفها ولوّحوا بمنع المساعدات الاقتصادية عن السلطة، عبر التأثير على مؤسسات النقد الدولية والجهات المانحة... كما باشــرت بعــض المحاكــم النظــر في دعــاوى أقامهــا إسرائيليــون ممّــن يحملــون جنسيــات مزدوجــة ضــدّ فلسطينيين، بينمــا عمــدت السلطــة في إســرائيــل إلى استنفار وسائل الضغط الدولي.
في المقابل اتّخذت السلطة الفلسطينية قرارًا بوقف التنسيق الأمني مع العدوّ والذي كان يجري برعاية أميركية, وفق اتفاقيات أوسلو التي لم تطبّق.
لماذا اتّخذت اسرائيل هذا الموقف العنيف حيال طلب فلسطين الإنضمام إلى المحكمة الدولية الجنائية الدائمة؟ وما الذي تخشاه وهي التي ضربت عرض الحائط مئات القرارات الدولية الصادرة ضدّهــا؟ ومــا هــي هــذه الوقائع التي أثارت الموقــف الاسرائيلــي وخيــارات السلطــة الفلسطينيــة والبدائــل المتاحــة أمامهــا لمقاضــاة اسرائيــل علــى جرائمهــا؟

 

أسباب الموقف الإسرائيلي العنيف
تعود ردّة فعل العدو الإسرائيلي العنيفة إلى وضع المسألة في نطاق القانون الدولي. فعلى خلفية الصراع العربي - الإسرائيلي صدرت عن الأمم المتحدة مئات التوصيات والقرارات التي تجاهلتها إسرائيل, ولم تنفّذ أيًا منها. بل إنها أعلنت بوقاحة أنّ «قانون بلدية القدس أهم من جميع القوانين والقرارات الدولية».
 وقد صُنّفت إسرائيل كدولة خارجة عن الشرعية الدولية (قرار مجلس الأمن الرقم 237/1967) من دون أن يردعها ذلك ويحدّ من ممارساتها العدوانية. إلاّ أنّ خشيتها من المحكمة الدولية الدائمة ومن التدويل يمكن إيجازها بالآتي:
- إنّ وضع جرائم إسرائيل في هذا الإطار من البعد الدولي سيحدّ من نفوذها عندما تطرح هذه القضية في محافل قضائية وقانونية دولية لا مجال فيها لاستخدام سلاح النقض (الفيتو)، حيث تقتصر وسائل المساندة على الضغوط المادية.
لم يسبق للفلسطينين أن أعطوا البعد الدولي والقضائي مداه المثمر, فمحاولاتهم السابقة اتّسمت بالتردّد. وما يثير قلق اسرائيل الآن ليس فقط المحاكمات, بل الخشية من أن تذهب الأمور إلى تقرير مدى شرعية وجود دولتها بحدّ ذاته، وهذا ما كانت تتحاشاه بمختلف الوسائل.
- تدرك إسرائيل أنّ السير بهذا الإتجاه غير مضمون النتائج, وهي لا تريد أن تغامر بانجازاتها السابقة.
- تخشى إسرائيل في ظل عدم شرعيّة أعمالها وتعنّتها الدائم, إعادة طرح عقيدتها السياسية للنقاش ووسمها بالعنصرية وفق توصية الجمعية العامة الصادرة في 10-11- 1975، والتي ألغيت قبل مؤتمر مدريد بتوصية مشابهة في 16- 12- 1991 (مؤتمر ديربان الدائم لمناهضة العنصرية).
- وفي حال عدم طرح شرعية الكيان أو إعادة وسمه بالعنصرية, تخشى إسرائيل من التحوّل الدولي نحو استحقاق تنفيذ القرارات الدولية دفعة واحدة، وهذه العملية لا يمكن وصفها بأقل من إنتحار سياسي لهذه الدولة.

 

صلاحيات المحكمة
إنّ انضمام الدولة إلى المعاهدات الدولية يرسّخ شرعيتها الدولية ويعزّز مكانتها القانونية, وهذا ما شجّعت عليه المنظّمات الدولية.
والمحكمة الدولية الجنائية الدائمة (نظام روما) هي تنظيم دولي مستقل يرتبط باتفاقية تنسيق مع الأمم المتحدة, وهي غير محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة والتي تنظر بالقضايا بين الدول, وغير المحكمة الإدارية التي تنظر بالامور الوظيفيّة للعاملين في الأمم المتحدة.
أنشئت هذه المحكمة في العام 1998 وبدأ نظامها بالنفاذ في 1-7-2002, وهي تلاحق الأشخاص على أساس المسؤولية الجزائية الفردية عن ارتكابهم الجرائم الأشد خطرًا على الإنسان والمتمثلة بجرائم الحرب وجرائم العدوان وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وتشمل صلاحيتها الإقليمية الدول الأطراف في نظامها، أو التي تقبل الاعتراف بصلاحيتها. وبما أنّ ذلك لا ينطبق على إسرائيل, فإنّ صلاحية المحكمة الإقليمية تصبح شاملة فقط، إذا أحال إليها مجلس الأمن حالة بقرار يتخذه استنادًا للفصل السابع, وهذا الخيار مستبعد في ظل جهوزية الفيتو الدائمة.

فالمحكمة تنظر بالدعاوى المحالة إليها: من دولة طرف, أو من المدعي العام لدى علمه بحصول جريمة ما, أو إمّا عن طريق مجلس الأمن. وفي ظل الوضع الذي تعيشه دولة فلسطين وما تشهده من انقسام داخلي, معطوفًا على التوجه الدولي لعدم التفريق بين أعمال المقاومة والإرهاب، أصبح القضاء الدولي سلاحًا ذو حدين, مع التذكير بأن صلاحية المحاكم الدولية مكملة للقضاء الوطني.
وفي ما يتعلق بجريمة العدوان فالمحكمة لا تنظر بها لحين تعريفها. وقد اتفقت الدول الاطراف في اجتماع كمبالا (2010) على الأخذ بتعريف الجمعية العامة الصادر بتوصيتها الرقم 3314/1974 على أن يبدأ النظر فيها في مطلع العام 2017.
إلى ذلــك يحــق لمجلــس الأمــن وفــق المــادة 16 من النظــام وبقــرار يتخــذه استنــادًا للفـصــل السابــع، تجميــد أي تحقيــق أو مقـاضــاة يــرى أن اســتمرارهــا يشــكــل خطــرًا علــى الســلام الـدولــي.
إنّ الانجاز الذي يمكن أن يحقّقه انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة يتمثّل في وضع إجرام اسرائيل تحت المجهر الدولي وبتصرف الرأي العام العالمي وبأرشفة هذه الجرائم غير الخاضعة للتقادم، وذلك في حال باشر المدّعي العام بالتحقيق.

 

البدائل المتاحة أمام دولة فلسطين
تتطلّب البدائل المتاحة للفلسطينين استنفاد جميع النصوص والوثائق الدولية واستثمارها:
في المجال القضائي، يمكن اعتماد الخطوات الآتية:
– الادّعاء على سلطات الاحتلال أمام المحكمة الدولية الجنائية الدائمة والسير بالدعاوى مع إظهارها للرأي العام لحين توقّف النظر بهذه الدعاوى بإحدى الطرق المنصوص عنها في النظام. وإذا تعذّر استصدار أحكام بهذه الدعاوى فإنها على الأقل تكشف للرأي العام الدولي فظاعة جرائم الاحتلال.
- الاستفادة القصوى من الفرص التي تؤمنها المحاكم الوطنية ذات الصلاحية الشاملة, والعمل لدى الدول العربية على الاقل على تعديل انظمة المحاكم فيها للنظر بهذه الجرائم.
- العمل على انشاء محاكم دولية جزائية مختصّة كما حصل في يوغوسلافيا السابقة ورواندا وغيرها، عن طريق مجلس الأمن، واذا تعذّر ذلك فعن طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا الأمر إن كان صعبًا فهو ليس بمستحيل.
- استثمار التجارب السابقة مثل اعمال لجان التحقيق أو الفتاوى كفتوى محكمة العدل الدولية المتعلّقة بقضية الجدار العازل الذي أقامته اسرائيل على الاراضي الفلسطينية.

في الانضمام الى المعاهدات، أمام الفلسطينيين العديد من الخيارات مثلًا:
- انضمام السلطة إلى اتفاقيات جنيف الاربعة والتي تشكل ركيزة القانون الدولي الإنساني، يتيح لها اعادة احياء طــرق الملاحقــة المنصــوص عنهــا في هذه الاتفاقيــات، والتــي أهملــت سابقًــا.
- المطالبة الدائمة بتطبيق المعاهدات الدولية والأعراف السارية والالتزامات المترتبة على سلطات الاحتلال لحماية المدنيين، باعتبار هذه المعاهدات أعرافًا دولية مستقرة وملزمة.
- المطالبة بإنهاء الاحتلال بقرار من الجمعية العامة في حال استمر عجز مجلس الأمن عن اتخاذ مثل هذا القرار. والعمل على طرد اسرائيل من الأمم المتحدة, وتعريتها أمام الرأي العام الدولي, بوصفها الدولة الوحيدة التي قبلت عضويتها بناء على شرطين: إعادة اللاجئين وتطبيق قرار التقسيم. وهي لغاية الآن لم تنفذ أيًا منهما.
إنّ هذه البدائل هي أمثلة قليلة عن كثير من الفرص لم تستنفد سابقًا, والتي تطلب وجود استراتيجية شاملة لمواجهة الاحتلال ورفضه.

 

مراجع:
1-جريدة الحياة السعودية الصادرة بتاريخ 9-3-2015, العدد الرقم 19866.
2 – الموقع الالكتروني للأمم المتحدة www.un.org/ar.
3 – اتفاقيات اوسلو على موقع جريدة السفير اللبنانية.
4- عندما اجبرت اسرائيل على الانسحاب من لبنان في العام 2000 نتيجة المقاومة, ادعت ان انسحابها جاء تطبيقا لقرار مجلس الأمن رقم 425/1978 والذي كان قد مضى على صدوره عشرات السنين.
5- راجع فتوى محكمة العدل الصادرة في تموز 2004 على موقع المحكمة www.icj.org/ar.
6- راجع كتابنا مجلس الأمن ودوره في حماية السلام الدولي, منشورات الحلبي الحقوقية, بيروت, طبعة الاولى, 2012 ص 180.
7 – د. شفيق المصري, لبنان والشرعية الدولية, دار العلم للملايين, بيروت, طبعة اولى, ص 77.
8- راجع تقرير الأمين العام للأمم المتحدة على الوثيقة (A154/2000).
9- د. محمد المجذوب، التنظيم الدولي, منشورات الحلبي الحقوقية, بيروت, طبعة اولى 2005 ص 141.