تحت الضوء

لمياء المبيّض بساط: فلنتحمل المسؤولية كل بحسب وزناته

الأسئلة حول ما نحن فيه وما نحن ذاهبون إليه كثيرة وقاسية، لكن هل ثمة أمل في الخروج من النفق المظلم؟ لمياء المبيّض بساط رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي والخبيرة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة تجيب عن هذا السؤال وسواه في حديث إلى «الجيش». وإذ تقرأ بساط في المسار الذي أوصلنا إلى هذا الدرك القاتل من الفشل، تطرح رؤيتها للحل، وتقدّم استراتيجية للخروج من الأزمات التي تكاد تقضي على كل شيء.
ترى رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي أنّنا بحاجة إلى المصارحة والوضوح وتحمّل مسؤولية الانهيار كل بحسب وزناته. وفيما تدعو إلى تقدير الكلفة السياسية والاجتماعية لتحرير سعر صرف الدولار، تؤكد أنّ إدارة الدين العام للمرحلة المقبلة أساس، وتتبنى طرح الدكتور جورج قرم الذي يقضي بإنشاء جهاز مستقل عن البنك المركزي ومنحه الاستقلال المالي عن وزارة المالية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرقابة المصرفية التي ينبغي فصلها عن مصرف لبنان.
من جهة أخرى، تشدد بساط على ضرورة استعادة الدولة لمؤسساتها من براثن الإهمال والتبعية واللاكفاءة، وترى أنّ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصناعات الثقافية والإبداعية هي في طليعة القطاعات الواعدة التي يمكن أن تسهم بشكلٍ أساسي في النهوض.

 

في ما يأتي نص الحديث:

• في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها لبنان، من الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية، إلى الفساد وعدم الثقة بالمؤسسات، والأزمة الصحية، وما تعانيه مختلف القطاعات من تحديات... هل ثمة ما يسمح ولو بقليلٍ من الأمل؟
- في إدارة مخاطر الأزمات يَظهر الفارق بين القائد وغيره من المدّعين. وأعني بالقائد كل مسؤول يمارس دور القيادة في نطاق ما.
ميزة القائد تكمن في قدرته على خلق الأمل واستنباط الحلول باعتماد طُرق مبتكرة وعلى حضّ من معه على الخروج بأقل الخسائر فيما تكون عَينه على المستقبل.
ليس قائدًا من يسعى للمحافظة على مصالحه ومصالح الدائرة الضيّقة المحيطة به أو من ينتظر الأوامر والتوجيهات. ليس قائدًا من يقفز من السفينة حين يلمح خطر الغَرق. وليس قائدًا من يسعى إلى تحميل الأطراف الأخرى مسؤولية ما حصل ويحصُل. القائد من ينبري إلى الفعل، إلى وضع المدماك تِلو المدماك في بناء المستقبل، مَن يصنع الأمل بالعمل.
 

نقطف ما زرعناه
في لبنان الذي يشهد سلسلة أزمات مالية واقتصادية واجتماعية تكاد تكون وجودية بامتيازٍ تفاقمت مع جائحة كوفيد-19، كَثُرت الندوات والمؤتمرات والأوراق والنظريات التي شخّصت المعضلات السياسية والإخفاق الإداري والمالي والأخلاقي، ووزعت مسؤوليات الانهيار. الحقيقة أنّ اللبنانيين يقطفون ما زرعوه خلال أعوام رَكَنوا خلالها إلى نظام رَيْعي مبني على الاستهلاك والأرباح المصرفية العالية التي لم تنشأ بالضرورة عن نمو اقتصادي حقيقي أو عن دينامية وزيادة إنتاجية في النشاطات الاقتصادية.
وتضيف: «تَعايش اللبنانيون مع نظام حوكمة ضعيفة للمؤسسات وسطحية في التعاطي مع متطلبات الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وحشو في الوظائف العامة، وفجوة معارف ومهارات في إدارة الشأن العام، كبّدتهم خسائر مادية ومعنوية كبيرة. وأشاح المسؤولون بوجوههم عن المؤشرات المقلقة في كل الميادين، من التلوث إلى الفقر والتخلّف المدرسي والفجوات في الدخل والصحة والتربية وغيرها. في الخسائر المادية، عُجوزات تجاوزت حدّ المتعارف عليه في ميزان المدفوعات والموازنة والميزان التجاري، هذا على اعتبار أنّ الأرقام المتوافرة صحيحة ومدقّقة بحسب المعايير الدولية».
وتتناول بساط الخسائر المعنوية قائلة: «أما في الخسائر المعنوية، فثقة مفقودة بالمؤسسات تعاظمت بشكلٍ كبير بعد التفجير المُجرم لمرفأ بيروت الذي قتل ما كان المواطن يحتفظ به بَعد من احترام أو ثقة بمؤسسات الدولة والمسؤولين عن القرار فيها.
إنّه لمِن الصعب بعد كل ما حصل، أن نتوقّع من الوعي الشعبي أن يضع ألمه جانبًا كما فعل ويفعل دائمًا، وينفض عنه هذا الشعور العميق بالظلم ويستعيد نشاطه ويستمر من دون طلب الحساب».
 

وحدها العدالة تعيد للمجتمع توازنه
من الصعب أن نجد الأمل من دون قوة دفع هي العدالة. وحدها العدالة تُعيد للمجتمع توازنه وثقته بأنّ حُرمته محفوظة، ومصالحه مَحمية فَردية كانت أم جماعية، وبالمفهومَين المادي والأخلاقي القائمَين على الحق والعقلانية.
السؤال المطروح، هل ثمة قادة مُحنّكون أكفياء رُؤيَويّون قادرون على ملامسة عمق المعضلات بأبعادها القانونية والإنسانية والتقنية ومخاطبة الناس بتواضع ودِراية كافيتَين لاستنهاض الهِمم ووضع علاجات المآسي الموصوفة مَوضع التنفيذ؟

 

على طريق النهوض؟
• ماهي السبل والإجراءات التي يمكن أن تضعنا على طريق النهوض؟

- معظم الحلول تبدأ بإصلاح الأنظمة المالية والنقدية، إذ لا بد من تغييرات جَذرية في عاداتنا النقدية وفي الإدارة المصرفية، وكذلك في إدارة المال العام؛ تغييرات تسمح بالإفلات من فخ الدَّين وعودة الانتظام المالي والمحاسبي، واستعادة النمو في بلدنا على قواعد التنافسية والاستدامة والعدالة الاجتماعية.
الخروج من النظام الحالي ممكن، ولكن باتباع مقاربات تدريجية ومُصمّمة تصميمًا جيدًا بمنهجيةٍ تشاركية تضمن المقبولية من قبل الأطراف المعنية: المصرف المركزي وجمعية المصارف وقوى الإنتاج وكل من شارك في صناعة الأزمة عن جهل أو عن سابق تَصوّر وتصميم، والمودع الذي اعتاد أن يتَّكل على ما تدرّه حساباته الادّخارية في الجهاز المصرفي من فوائد عالية، والمجتمع الذي سيتحمل الكلفة الكبيرة.
بلادنا تحتاج مصارحة ووضوحًا وتحمُّلًا لمسؤولية الانهيار كلّ بحسب وزناته للخروج معًا من الأزمة وتعلّم الدروس، وتجنُّب الانهيار في المستقبل. فلسفة بناء الأمجاد السياسية والمالية على مبادئ الاستئثار والغنيمة لا تصنع إلا المآسي والانهيارات المتسلسلة.
نسمع حاليًا دعوات لتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية كحَلٍ سحري لكل العلل. العِبرة هي في تقدير الكلفة السياسية والاجتماعية للانتقال من سعر الصرف الثابت والمُدار من قِبل مصرف لبنان لعقودٍ إلى سعر مُحرَّر، وتأمين متطلبات سياسات الأمان للشرائح الأكثر ضعفًا، وتلك التي تتّكل على الأجر بالليرة اللبنانية، وهم أكثر من ثلثَي السكان.
 

وهم آخر
وتتابع حديثها فتقول: «أستَطرد بالنسبة إلى تأثير خَفض قيمة الليرة في الصادرات، وهذا وَهم آخر. إذ من المرجّح ألّا يَمنَح تخفيض سعر العملة الوطنية دفعًا لصادراتنا في ظل شح الاستثمارات بالقدرات الإنتاجية والصعوبات اللوجستية. ويكفي لذلك استذكار تجربة العام 1992 إذ إنّ حجم الصادرات لم يرتفع على الرغم من تراجع قيمة الليرة مقابل الدولار إذ أصبح يساوي 2800 ل.ل. بدلًا من 850 ل.ل».
وتضيف: « إنّ إدارة الدَّين العام للمرحلة المقبلة أساس، وقد طَرح العديد من قادة الرأي ومنهم الدكتور جورج قرم جَعْل هذه الإدارة أكثر رشدًا وتماسكًا واستقلالًا من خلال إنشاء جهاز مُستقل عن البنك المركزي ومَنحه الاستقلال الإداري عن وزارة المالية، كما هي الحال في عدة دول. كذلك الأمر بالنسبة إلى فَصل الرقابة المصرفية عن مصرف لبنان وإعطائها استقلالًا ماليًا وإداريًا لتَجنُّب سوء الأمانة والحفاظ على أموال المُودعين.
ولأنّ لا اقتصاد من دون مصارف، لا بد لهذا القطاع من إعادة رَسم دوره المستقبلي بنفسه على ضوء المتغيرات في لبنان والمنطقة، ومن خلال خطط جريئة طويلة الأجل لهيكلته وإعادة رسملته واستعادة ثقة زبائنه، وعلى أمل أن يجد نقاط تحوّل تمكّنه من أن يكون شريكًا حقيقيًا في دينامية إنتاجية النشاطات الاقتصادية وزيادتها بدل الإقراض المفرط للخزينة.
 

استعادة المؤسسات
وإذ ترى بساط أنّه من مكوّنات النهوض استعادة الدولة ومؤسساتها من براثن الإهمال والتبعية واللا كفاءة، تضيف: «الحقيقة أنّنا بحاجةٍ إلى نظرة متجددة لدورها وحجمها. فدولتنا هي المشغّل الأكبر. وكلفة الوظيفة العامة تجاوزت 50% من إجمالي النفقات (بحسب أرقام موازنة 2020 علمًا أنّها لا تتضمّن مجمل الرواتب والأجور في المؤسسات العامة، ومصرف لبنان والقطاع البلدي، وبعض مقدّمي الخدمات). هذه النسبة أعلى من متوسط البلدان العربية (30%) وقياسية مقارنة ببلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حيث لا تتعدّى الـ14%. قيود كثيرة تُربِك الأداء أبرزها تَعاظُم الكُتل المالية الثلاث (الرواتب والأجور، خدمة الدين، وتحويلات مؤسسة كهرباء لبنان) التي تستحوذ على أكثر من 98% من الإنفاق العام وتقلّص هامش الإنفاق الاستثماري إلى 2% في العام 2020. هذا الأمر استمر وتفاقم طوال السنوات العشر الأخيرة، وأدى إلى تراجع نوعية البنى التحتية الرقمية والاستثمار في الخدمات الإلكترونية للمواطنين. وترافق تراجع فعالية الأداء الحكومي مع تزايد مفاعيل الطائفية في التوظيف العام، التي بلغت كلفتها السنوية بحسب البنك الدولي 9% من إجمالي الناتج المحلي.
 

إصلاح الدولة حاجة مالية ومجتمعية
وفي ما يتعلّق بإصلاح الدولة تقول: «إصلاح الدولة في زمن الأزمات وقبل استفحالها أكثر، عصرنتها وتقليص حجمها ورفع أدائها، هي حاجة مالية ماسّة كما هي حاجة مجتمعية، للمحافظة على البلاد وقدرتها على الصمود. لا مفرّ من العودة إلى العمل بالقواعد الأخلاقية والمعايير المهنية المتعارف عليها عالميًا من قبل القطاعَين العام والخاص. فكيف للبنان بحجمه الصغير أن يجذب الاستثمارات في ظل هذا التشابك المُروِّع بين المصالح الخاصة للسياسيين والمصلحة العامة»؟
تغيير العادات هنا أيضًا محتوم. ومن الطبيعي أن يكون المسار وَعِرًا نظرًا للاتجاهات التاريخية في الاقتصاد والاجتماع اللبناني والنمط الذي سارت عليه البلاد. قلّة ستتشجع لخَوض مغامرة الإصلاح أيًا كان الميدان، وهي تعرف أنّها لن تحصد في النهاية إلا «لَسْع السَّوط ووَخْز المسامير». فهل من سيقبل المهمّة؟
 

دروس تجربة كورونا
• ماذا علّمتنا تجربة كورونا؟

- علّمتنا أزمة كورونا في العامَين 2019 و2020 ألا نقاربها من منطلق أنّها أزمة صحية فقط، وألا نتساهل في تقدير عواقبها على الاقتصاد والتربية والعمل وديناميات السوق، وكذلك على قدرات المجتمع الإنتاجية والإبداعية وديناميته الاجتماعية.
في زمن كورونا، يشير علماء الاقتصاد أمثال ماريا مازوكاتو إلى عودة الدور التقليدي للدولة باعتبارها «مستثمر المَلاذ الأول» أي «The Investor of First Resort» وليس مجرد «المقرض الأول» أي «The Creditor of First Resort».
تتخذ هذه العودة عدة أشكال، بما في ذلك القروض المُيسّرة أو المُعطاة بضماناتٍ حكومية، والدور التوسّعي للمصارف المركزية التي تتدخّل في تمويل الاقتصاد، وحاجات برامج الدعم، وكذلك الإعفاءات الضريبية المنظَّمة أو غيرها من التدابير.
تتدخّل الحكومات لإنقاذ القطاعات الاستراتيجية التي هي في أشد الحاجة إلى عمليات الإنقاذ، مثل شركات الطيران مثـلًا أو مصانع السيارات. وغالبًا ما يكون هذا التدخّل مشروطًا بالاحتفاظ بنسبةٍ معينة من القوى العاملة لديها كما حصل في الولايات المتحدة، أو بشرط خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون (النمسا وفرنسا) أو إنتاج سيارات تسير على الطاقة النظيفة، فيكون التدخّل عندئذٍ ليس لإنقاذ الصناعة فحسب بل لحثّها على التحوّل نحو أنماط إنتاج مستدامة بيئيًا تحقيقًا لالتزامات الدول بالأجندة 203 للتنمية المستدامة.
وفي حين تحشد الدول مواردها المادية وقدراتها المؤسساتية لتحسين إدارتها لأزمة كورونا واستشراف التحولات المجتمعية العميقة التي ستنتج عنها، يعجز لبنان، نتيجة أزماته المتشعبة، وضعف الحوكمة بمعناها الشامل لكل أطرافها، عن مد مواطنيه الأكثر تأثرًا بمِنَحٍ نقدية مباشرة من خلال أنظمة رقمية شاملة عادلة وشفّافة.
ويعجز أيضًا عن توافر حُزَم تحفيز وإنقاذ لاقتصاده المُترنّح من خلال أدوات مالية محلية أو عالمية مخصصة لهذا الغرض، علمًا أنّ لبنان لم يطلب الاستفادة من حزم المساعدة المالية التي وفّرها المجتمع الدولي ولا سيما صندوق النقد.
وفي حين تنظّم الحكومة حاليًا تدخلاتها في قطاع الصحة، لا تلوح في الأفق مقاربات كليّة متعددة المحاور ولا خُطط إنعاش متوسطة الأجل للقطاعات الاقتصادية الأكثر تضرّرًا كما هو حاصل في دول كثيرة.
السؤال، كيف تتحضّر الدولة لمواجهة 2021 اقتصاديًا وماليًا، وبأي خُطط معالجة؟

 

مؤشرات إيجابية؟
يتحدث بعض الخبراء عن مؤشرات إيجابية رغم كل السواد، ومنها: حجم تحويلات المغتربين الذي بلغ خلال العام 2020 نحو 7 مليارات دولار بحسب تقرير البنك الدولي، وموافقته على منح لبنان قرضًا بقيمة 246 مليون دولار ضمن برنامجه لدعم الدول التي تواجه جائحة كورونا.وثروات اللبنانيين النقدية الموجودة في المنازل، وزيادة المساحات المزروعة في لبنان، ونمو بعض القطاعات الصناعية، وانخفاض فاتورة الاستيراد.

 

• ما رأيك بكل ما تقدّم؟ وهل يمكن أن تكون هذه المؤشرات مدخلًا للتفاؤل؟
- نعم، لبنان في المرتبة الأولى عربيًا لجهة نسبة التحويلات إلى الناتج (36,3% أي 6,9 مليار دولار أميركي مقارنة بـ6,4 مليار دولار للمغرب). لكن هنا أيضًا، نحن بحاجةٍ إلى نمط جديد.
ليس للهجرة أن تكون قَدَرًا أو ظاهرة حَتمية تُفكّك العائلات وتُشتّتها وتُهدد أمان المجتمع والانتقال الطبيعي للقيم عبر الأجيال. فالرقعة الجغرافية للنشاط الاقتصادي تغيرت ولم تعد مرتبطة بالمساحة الجغرافية أو بتوافر المواد الأولية، بل هي مرتبطة اليوم بالبنى التحتية التكنولوجية وتوافر الكفايات وخصوصًا في التكنولوجيا الرقمية. ثمة بلدان مثل سنغافورة مساحتها عُشر مساحة لبنان وعدد سكانها 4 ملايين نسمة تُصدّر أكثر من 150 مليار دولار من السلع، أو إيرلندا التي كانت من أفقر دول أوروبا في ستينيات القرن العشرين، أو تايوان الريفية الفقيرة التي أصبحت من عمالقة صناعة الإلكترونيات في العالم ولا ننسى هولندا وسلوفانيا.
 

النشاط الاقتصادي الذكي
تجربة كل هذه البلدان أثبتت أنّ النشاط الاقتصادي الذكي قادر أن يتخطى محدودية الرقعة الجغرافية والمواد الأولية، ويقدّم نماذج لاقتصاداتٍ مكثّفة إنتاجيًا. فلماذا نُبعثر ذَهَبنا الشاب في أنحاء هذا العالم، وجلّ ما نبتغيه هو أن نُبقيهم إلى جانبنا؟
للأسف، القطاعات الإنتاجية في تراجع. وقد قدّر أحد الخبراء مؤخّرًا تراجُع المساحات الزراعية بـ 30 في المئة. تحتاج المحافظة على المساحات الزراعية أو زيادتها وتطوير القدرات الإنتاجية للتمويل بالعملات الصعبة. وفي ظل التراجع الخطير في موارد الدولة اللبنانية والاستثمار الأجنبي وانكفاء المجتمع الدولي عن مساعدتها، من الواضح أنّ لبنان لن يتمكّن من التحضّر بشكلٍ مناسب للمرحلة المقبلة. ولا أقصد توافر القدرات التمويلية على أهميتها فقط. وما يقلقني هو قدرة الدولة على التخطيط والتدخّل لتوجيه الموارد المالية بشكلٍ استراتيجي من خلال أداة أساس هي الموازنة العامة المتوسطة الأجل والمبنية على البرامج والأداء.
إنّ غياب الدولة عن التخطيط، وغياب التخطيط عن الموازنة العامة، مضافًا إليها ضعف قدراتها على توافر برامج مساندة مشروطة تدفع باتجاه اقتصاد يسمح بتحقيق نمو مستدام وشامل للجميع، هذا الغياب، سوف يكون مدوّيًا في الأعوام الصعبة المقبلة. وفي غياب التخطيط وبرامج الإنقاذ المشروطة، من المرجّح أن تنخفض القدرة على توجيه القوى الإنتاجية لمصلحة الأهداف الاستراتيجية، وتَضعُف المنافسة فيَسهُل على المضاربين والمحتكرين السيطرة على الاقتصاد.

 

قلب المعادلات ممكن
على الرغم مما تقدّم ترى بساط أنّ الأمل موجود وتقول: «إنّ قلب المعادلات ممكن. زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد وتنويعه ورفع المَعوقات من أمامه هو المسار الأهم. وبقدر ما يحتاج بلدنا إلى التمويل والتخطيط، يحتاج إلى جردة بكل هذه المعوقات الإدارية والإجرائية والضريبية المتراكمة عَبَثًا، والتي تُثقل كاهل أصحاب المؤسسات والمهن والمُبدعين وتحدّ من قدرتهم على الابتكار وخَلق فرص العمل اللائق وتصدير المنتجات والخدمات الفكرية والإبداعية. جَردة شاملة قطاعية تُفضي إلى إزالة هذه المَعوقات واستبدالها بإجراءاتٍ تُسهّل العمل والإنتاج والإبداع. بهذا المعنى، نحن لسنا بحاجةٍ إلى أنماط فلسفية وأيديولوجيات تميّز قطاعًا على حساب قطاع آخر أو تدعمه، بل تسهيلات تزيد من قيمته المضافة وتسمح له بخلق فرص العمل اللائق. وتوضيحًا، أشير إلى اثنين من هذه القطاعات الواعدة وهما قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقطاع الصناعات الثقافية والإبداعية الذي، وكما بيّنت دراسة لمعهد باسل فليحان، يسهم في حوالى 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات برزت إمكاناته بشكل لافت خلال أزمة كورونا، وهو شهد نموًا بمعدل سنوي قدره 7,9 في المئة خلال الفترة 2009 -2014، وقُدّرت حصته من الناتج المحلي بحوالى 700 مليون في العام 2018».
عددٌ لا يستهان به من الشركات نجح في إثبات نفسه بنفسه أمثال ميوركس وCME أو بمساندة من الحاضنات مثل Beritech وUK Lebanon Teck Hub وغيرهما، وبدأ ببيع المنتجات في الأسواق الرقمية العالمية وببناء نماذج تجارية ناجحة توسّعت نحو المنطقة العربية والأسواق العالمية. خبرة العاملين في هذه الشركات تتطور باستمرار وهم قادرون على الإسهام في نهضة القطاع المصرفي والصحي والتربوي والإعلام الرقمي وغيرها من القطاعات.
ويكفي تحسين البيئة الحاضنة لهذا القطاع، من قوانين عصرية تحفّز الاستثمار وتحمي الملكية الفكرية، وقضاء تجاري مختص، وبنى تحتية رقمية، وفرص تطوير المهارات الرقمية في الجامعات كالبرمجة، وإدارة البيانات المتقدّمة وتحليلها، والتصميم التكنولوجي المعقّد وغيرها، ليصبح القطاع عمودًا فقريًا للاقتصاد اللبناني.
وتنتقل إلى الحديث عن قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية الذي ترى أنّه: قطاع مستقبلي واعد جدًا ويتمتع بأكبر إمكانات نموّ مقارنة بأمثاله في بلدان الشرق الأوسط، وذلك استنادًا إلى عدد كبير من الدراسات القائمة، (البنك الدولي 2018). لبنان في المرتبة الأولى متقدمًا على مصر والأردن وسوريا والإمارات العربية المتحدة، ويتفوّق عالميًا على بلدان مثل المكسيك وكندا والفيليبين وروسيا وجامايكا لجهة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي.
وصلت حصّته من الناتج المحلي الإجمالي بين العامَين 2004 و2015، إلى 4.75%، أي 2.3 مليار دولار أميركي (الأونكتاد 2010) ، وهي نسبة مماثلة لتلك التي في الولايات المتحدة الأميركية. وبمقارنة أخرى مدهشة، يسهم القطاع في ضُعف مساهمة القطاع الزراعي في لبنان ويتساوى مع قطاع البناء بل يتخطاه، إذا ما احتسبنا العمالة حيث يُقدّر عدد العاملين فيه بما لا يقل عن 100 ألف شخص، أو حوالى 5,8٪ من القوى العاملة.
أخيرًا، تقول بساط: «باعتقادي أنّه ما زال في القَوس مَنزع، ومن الممكن عَكس الاتجاهات السلبية الحالية وتصوّر نموذج جديد للمجتمع، بحيث يكون الاقتصاد في خدمة الإنسان، والتنمية المستدامة محورًا ومدخلًا للأمان والاستقرار، والتعاون والانفتاح عناوين لتميُّز اللبنانيين في محيط سريع التحوّل.
نعم! باعتقادي أنّه ما زال في القوس مَنزع. لم نخسر رصيدنا في العالم بعد، والقادة الإصلاحيون موجودون وقادرون على وضع الحلول الناجعة موضع التنفيذ. لكن، على المنظومة السياسية التنازل، وعلى المجتمع حسم خياراته والركون لمن اقتَدر من دون حساب لمحاصصة من هنا واستنساب من هناك وعصبيّات ضيقة قاتلة للأمل».