- En
- Fr
- عربي
من الأرض
يحفظ اللبنانيون للجيش من بين مآثر كثيرة، أنّه كان رافعة النهوض الأساسية يوم ضرب الزلزال لبنان في العام ١٩٥٦. رفع جنوده الركام، أغاثوا المواطنين، مسحوا الأضرار، ولم يتوقف دورهم هنا، فسواعد جنوده خاضت معركة إعادة تأهيل الطرقات وبناء ما تهدّم في مختلف المناطق التي تضررت.
اليوم يعيد التاريخ نفسه، وإنما وسط ظروف أقسى بكثيرٍ من تلك التي عاشها لبنان يوم ضربه الزلزال.
في تلك الأثناء كانت الدولة فتية، وكان اللبنانيون فخورين بأنّهم باتوا في كنف دولة مستقلة، بعد تاريخ طويل من الاستعمار والانتداب. اليوم، تخرج من جلد القهر أصوات تتمنى عودة الانتداب.
في تلك الأثناء كانت الدولة في مرحلة بناء المؤسسات، والاقتصاد، والهوية الثقافية، وعرفت البلاد فترة من الازدهار ما زال أهلنا يتحدثون عنها. اليوم، تتكىء الدولة على مؤسسات هرمة، واقتصاد مشلول، وديون قاتلة، ومواطنين فقدوا أعمالهم، وجنى أعمارهم، وما تبقّى من آمال بدأوا بخسارتها تباعًا منذ عقود.
شتان بين ما كان وما نحن فيه اليوم. كان بإمكاننا أن نصمد في وجه تداعيات زلزال، أما اليوم فقد ضربنا زلزال بل بركان. والبركان لم تصنعه الطبيعة، لم يثر بفعل عوامل الجغرافيا، بل بفعل الفساد المتراكم لعقودٍ طويلة، والضارب جذوره العفنة في كل مكان. عقود من الفساد والإهمال واللامسؤولية، انفجرت دفعة واحدة في أولادنا وأهلنا ومدينتنا، أي قهر أقسى من قهر وطن يحترف قتل نفسه؟
ما لم يتغير
أجل، ما نحن فيه اليوم يختلف جذريًا عما كنا فيه سنة ١٩٥٦، لكن ثمة شيء ما لم يتغير، بالأحرى مؤسسة واحدة لم تتغير. إنّها المؤسسة ذاتها التي نجدها قربنا في كل مصيبة وظرف عصيب. مؤسسة تحاول أن تسند دولة منهوبة وبائسة، أن تعوّض القصور المزمن، وأن تجترح ما يشبه المعجزات. مؤسسة تجسّد روح الشعب المقهور بألف خيبة وخيبة، لكنه يظل يقاوم، ينهض من جراحه، ينهض من بؤسه ويحنو على أخوته، ووطنه. « بيقولو مات وما بيموت، وبيرجع من حجارو يعلّي بيوت.» أليس هذا ما تقوله أغنية فيروز؟
الاستجابة الفورية
في سواد الكارثة وهول الدمار، كانت استجابة الجيش الفورية منذ اللحظة الأولى خيط الأمل الوحيد وسط الفاجعة. فقد تدّخل منذ اللحظات الأولى للحريق إلى جانب الدفاع المدني وفوج الأطفاء، دماء عسكرييه امتزجت بدماء المواطنين. القطع الأقرب إلى موقع الانفجار أصيبت بشكلٍ مباشر، لكنها كانت أول من هرع إلى إسعاف الجرحى ونقلهم إلى المستشفيات. الطبابة العسكرية هرعت إلـى نقل وإسعاف المدنين كما العسكريين. بعض العسكريين كانوا يحملون الجرحى مع أنّهم مصابون ويحتاجون إلى من يسعفهم. في غضون دقائق كانت القطع جميعها منخرطة في عمليات البحث والإنقاذ والإسعاف.
الاستجابة الفورية ترافقت مع الإجراءات الضرورية لحفظ مسرح الجريمة وضمان سلامة المواطنين، وفي موازاة العمل على الأرض، كان العمل في القيادة جارٍ على قدم وساق لمواجهة الكارثة وفق خطة توفر إطارًا منظمًا، يتيح أعلى مستويات الفاعلية.
في اليوم التالي للانفجار، وأمام هول الكارثة بشريًا وماديًا، أعلن مجلس الوزراء حالة الطوارىء في بيروت، وبموجبها تتولى السلطة العسكرية العليا (قيادة الجيش) المحافظة على الأمن، وتوضع تحت تصرفها القوى المسلحة كافة (الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والجمارك ورجال القوى المسلحة في الموانىء والمطار...).
تأطير الجهود وتنسيقها
اتخذت قيادة الجيش الإجراءات التي تكفل تنسيق الجهود وتكاملها وتحقيق الفاعلية القصوى في مواجهة الكارثة. فأنشأت غرفة عمليات تولت كل ما يتعلق بأعمال البحث والإنقاذ، وغرفة طوارىء متقدمة وفرت إطارًا تنظيميًا لكل المبادرات الجماعية والفردية التي تطوعت لتقديم المساعدة على مختلف أنواعها. كما عينت لجانًا لتقدير الخسائر ومسح الأضرار، وأخرى لتسلّم المساعدات، واستُحدث مركز لتوضيب المساعدات وتسليمها إلى الجهاز المعني بتوزيعها... باختصارٍ، تم تأطير كل الأعمال المتعلقة بمعالجة آثار الكارثة والتخفيف من تداعياتها بسرعةٍ قياسية.
في ما يتعلق بأعمال البحث والإنقاذ في البر والبحر، تم تحديد القطاعات والمهمات للقوى المشاركة ومن بينها فرق أجنبية وصلت تباعًا. حرصت فرق البحث والإنقاذ على التنسيق مع الجهات القضائية كي لا تُفقد الأدلة، فكانت الأولى تعمل في القطاع بعد أن تكون الثانية قد أنجزت معاينته وأخذ العينات منه. كان من الصعب على الأهالي المفجوعين أن يدركوا أهمية هذا الأمر، علت بعض الصرخات متحدثة عن بطء. على الأرض المنكوبة كان الجنود يحفرون بأياديهم طبقات الركام الهائل، حرصًا على عدم إضاعة أي فرصة لوجود ناجين، وعدم تشويه الجثث. عمل اقتضى صبرًا ما بعده صبر، وجهدًا ما بعده جهد. بعد أيام من العمل المتواصل نهارًا وليلًا بات الأمل بوجود ناجين معدومًا تقريبًا، انصبت الجهود على انتشال الجثث وقد بات بعضها أشلاء متناثرة. هنا أيضًا ظل الحرص قائمًا، وترافق مع الدقة في العمل. في البحر كان مسح كل قطاع يتكرر عدة مرات.
في الساعات بل الأيام الأولى للكارثة، كنا أمام مشهد ظننا أنّه سيمتد إلى مدى غير منظور. التعليقات المحلية والخارجية ركزت على حجم الدمار الهائل الذي أصاب مرفأ بيروت. في ظل الحالة العامة للبلاد، ظننا أنّنا خسرنا المرفأ. صعقنا للدمار الذي أصاب نحو نصف المدينة بمؤسساتها وبيوتها. دمار لم تستطع أن تصنع مثله الحروب المتتالية، فصنعه الانفجار ببضع ثوانٍ.
أمل مفاجىء
بينما كانت التحليلات تتوالى حول وضع مرفأ بيروت وعدم أهلية مرافئنا الأخرى، كانت آليات الجيش تواصل العمل لتستجلي الوضع الحقيقي. أحد البيانات التي كانت تصدرها قيادة الجيش- مديرية التوجيه، حمل أملًا مفاجئًا: ثمة جزء لم يتضرر ويمكن أن يعود للعمل، لكن كميات الباطون المسلح التي تغطي الأرصفة بفعل انهيار إهراءات القمح كانت هائلة. قائد الجيش الذي كان يتابع الوضع على الأرض في جولات متتالية وعد: «لن أترك المرفأ.» فرق الهندسة وفوج الأشغال المستقل كانا أمام مهمة تقارب المستحيل: تحرير عدة أرصفة من الركام خلال ٤٨ ساعة. أنجزت المهمة. البواخر التي كان قد تقرر تحويلها إلى مرفأ طرابلس رست في مرفأ بيروت الذي جهد موظفوه وعماله لإصلاح ما ينبغي إصلاحه من رافعات وسواها. رست البواخر وأفرغت حمولتها وأعلنت السواعد المعقودة على العزم أنّ إرادة الحياة أقوى، وأن لا مستحيل أمام هذه الإرادة، المرفأ عاد يعمل بثمانين في المئة من قدرته.
النقابات والجمعيات والشباب
في الأحياء المنكوبة كانت همة الشباب المتدفقين من المناطق كلها تعلن أيضًا أنّ الحياة أقوى. آلاف الشابات والشباب حملوا حبهم وعدة العمل وأتوا لنجدة المواطنين. حركة فيها كثير من النخوة والاندفاع، لكن كان لا بد من تنظيمها كي لا تتركز الجهود في أماكن وتُحرم منها أماكن أخرى، وكي لا يستغل البعض الظروف المأسوية. هنا كان دور غرفة الطوارىء المتقدمة التي شكلت إطارًا جامعًا لعمل المندفعين إلى المساعدة، من النقابات والجمعيات والمؤسسات إلى المتطوعين الأفراد، بالإضافة إلى فرق الجيش.
استلام المساعدات وتوضيبها وتوزيعها، مهمة مضنية أُسندت إلى الجيش حرصًا على الشفافية وعلى وصول الهبات إلى مستحقيها. هنا أيضًا تم العمل وفق آلية محكمة تضمن الفاعلية والشفافية، وتتمتع بالمرونة. ففي حين حُدّدت في الأيام الأولى مراكز ثابتة لتوزيع الحصص للمواطنين، عُدّلت الخطة وبات العسكريون يحملون المساعدات إلى بيوت المتضررين. هذه الآلية تطلبت مضاعفة الجهود لكنها كانت الأفضل.
تقدير الخسائر ومسح الأضرار، وكل ما اتصل بمعالجة آثار الكارثة تم وفق آليات دقيقة محكمة وشفافة. وتنسيق الجهود أتاح فاعلية عالية وفصل بين الخيوط البيض وتلك التي حاول أصحابها التسلل إلى الساحة المنكوبة لغاياتٍ رخيصة.
هيروشيما العصر
كانت الصدمة صاعقة مزلزلة في وطن أرهقته الأزمات، نُهبت مقدراته، وما بقي له قرش أبيض لليوم الأسود، ولا بقيت لمواطنيه قدرة على احتمال المصائب. من كان يتخيل كارثة بهذا الحجم؟ من كان يتخيل أنّ قمحنا سيقتل حراس إهراءاته التي لم تقو عليها حروب السنوات الطويلة.
أضحى القمح في وطني قاتلًا، اللقمة قاتلة. خبأ الموت نفسه في عنبر وانفجر دفعة واحدة، نارًا وحديدًا وركامًا وضحايا.
الصدمة قاسية مزلزلة، انفجار اعتُبر الثالث في العالم بقوته، شُبّه بهيروشيما. نحو ٢٠٠ قتيل، ستة آلاف جريح، تشريد نحو ٣٠٠ ألف من منازلهم. دمار واسع في المستشفيات والمدارس، والمؤسسات على اختلاف أنواعها. خسائر قدرت بمليارات الدولارات.
في المقابل، جيش أثبت أنّه القرش الأبيض لليوم الأسود، مبادرات لاستيعاب الكارثة ولملمة الجراح. نقابات، جمعيات، مؤسسات، أفراد، الجميع في هبة واحدة للنهوض بالمدينة التي التهم الانفجار قلبها ولم يكتف بتجريحه.
نهض الوعد
سوف تكون بيروت هيروشيما القرن الواحد والعشرين، وكما نهضت اليابان من دمارها في القرن الماضي، ستنهض بيروت اليوم. بيروت ليست مجرد مدينة ومرفأ وشوارع. بيروت هي ناسها، هي أبناء لبنان وبناته العسكريون والمدنيون. من آلياتهم وزنودهم ومكانسهم نهض الأمل يلملم الجراح. نهض الوعد: «لن يُقفل باب مدينتنا». بأيدينا، بوجعنا، سنعيد بهاء مدينتنا.
زرعت بيروت الكثير من الحب والجمال في حياة أهلها وزوارها ومحبيها. بيروت تاريخ، بيروت ثقافة، بيروت حياة. سوف تعود، سوف تعود، لكن حذاري أن تُقتل مرة أخرى بدفن حقيقة ما جرى تحت الركام.
ستعود مدينتنا، بسواعد المخلصين وحزن الموجوعين.بمحبة الأشقاء والأصدقاء الذين ما هانت عليهم بيروت. لكن مرة أخرى: حذاري أن تبقى الحقيقة تحت الحطام والركام.