كبارنا

لور دكّاش آمنت بالله
إعداد: العميد أسعد مخول

لا بدّ للمهتم من بذل جهد كبير لبلوغ مكان إقامتها، ستون سنة مضت على إقامتها في القاهرة، المدينة الوسيعة الكبيرة  الحافلة، وثلاثون مضت على اكتسابها الجنسية المصرية. قدمت من لبنان يسبقها صوتها وصيتها، وتتبعها أوتار عودها، ويخيّم عليها عشقها للموسيقى العربية الأصيلة.

استقرت في مصر الجديدة، الضاحية الحديثة لمدينة القاهرة، بعيداً عن الصّخب والضجيج، والحركة التي لا تهدأ، والليل الذي لا ينام. يستريح عودها الآن، وآن له أن يستريح، لكن أشرطة تسجيلاتها تجتمع منظمة موضبة مصنّفة، تتبعها عصاها التي لا تحتاج إليها كثيراً، لكنها تسبب لها الأمان وتتّكئ إليها أحياناً حين تحتاج إلى الاستراحة في الطريق.

محطتان لا بد من المرور بهما خلال التفتيش عن "فيلّتها"، فيلّة لور دكّاش؛ الإذاعة المصرية في شارع سبيرز، حيث يحفظ رصيدها الغنائي والتلحيني، والكنيسة اللبنانية في مصر الجديدة، حيث يتم موعدها الثابت هناك نهار الأحد من كل أسبوع.

وتلوينتان جميلتان ترافقان حديثها: حديث الإيقاعات والأنغام والنماذج الشعرية العربية، من جهة، والكلمات والجمل والعبارات الفرنسية من جهة ثانية.

تحنّ إلى لبنان، إلا أن مواطنيتها المصرية كاملة وراسخة، وهي تعرف كل شيء عن تفاصيل الحياة اليومية في مصر، من عادات وتقاليد، وأعلام وكتّاب وملحّنين وعاملين في المحطات الفنية ووسائل إعلامها. إلا أن مشكلة طرأت لديها في مسألة حفظ الأسماء، فتراها تذكر كل شيء عن فلانة أو فلان من زميلاتها وزملائها في الفن، شعراً وموسيقى ولقاءات وسهرات ولقاءات، لكنها حين تصل إلى تذكّر الاسم تتوقف وتتعثر وتلوم الذاكرة وتعترف بمرور الزمن.

تعيد لور دكّاش نجاحها إلى بركة الله، وإلى جهودها الشخصية ومثابرتها وإصرارها وإخلاصها لفنّها وثقافتها. ويلاحظ من يلتقيها، بشكل واضح، أنها لا تشكو من أحد، ولا تعيد أي عثرة أو عرقلة إلى الآخرين، ولا تعطي للغيرة والحسد كبير الأهمية. فهي تتحدث بإعجاب ومحبة عن الجميع: فتحية أحمد، أم كلثوم، أسمهان، نجاة الصغيرة، محمد القصبجي، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، محمد فوزي، عبد الغني السيد، أحمد صدقي، محمد الموجي، محمد عبد صالح، عزة الجاهلي، فريد الأطرش، محمد قنديل، كارم محمود، أحمد عبد القادر، محمود الشريف، أحمد رامي، صالح جودت، عبد العزيز سلام... ولا تنسى أبداً أن تحيّي زميلاتها في لبنان: نور الهدى، صباح، فيروز...

وهي تذكر أنها بكت حين سمعت أم كلثوم لأول مرة في أغنيتها الجميلة «يا غائباً عن عيوني»، أما أحب أغنيات محمد عبد الوهاب إليها فهي قصيدة كليوباترا، وعبد الوهاب بالنسبة إليها هو الملحن الوحيد الذي تطوّر مع الزمن وظلّ محتفظاً في الوقت نفسه بطابعه الشرقي. كما أن لور دكّاش تأثرت كثيراً حين سمعت صوت أسمهـان، لكن اللافت هنا أن سماعها لاسم أسمهان في البداية أغاظها وأغضبها وكان ذلك على الشكل التالي: سنة 1939 حضرت إلى القاهرة لتسجيل أغنيات لصالح شركة بيضا فون للاسطوانات، كان بين تلك الأغنيات واحدة من تلحين فريد غصن، الملحن اللبناني المعروف وأحد مؤسسي جمعية المؤلّفين والملحّنين في مصر. حفظت الأغنية وفي موعد التسجيل أبلغها الملحن فجأة أن الشركة قرّرت إحالته إلى المطربة أسمهان، فانتفضت صارخة: من هيّه أسمهان دي؟ فقال فريد غصن: إنها أخت فريد الأطرش، وهي مطربة جميلة الصوت. ولما لاحظ أنها استرسلت في العتب والغضب قال محاولاً إرضاءها:لديّ أغنية بديلة قد تفي بالغرض، هدّئي من روعك. وتقول لور دكاش إن فريد غصن قدّم لها كلمات أغنية "آمنت بالله" وطلب منها أن تبدأ بتلحينها، ثم تابع هو ذلك لاحقاً، فتكون الأغنية، برأيها، للاثنين معاً، وقد سجّلها فريد بصوته قبل أن تسجلها هي وتبلغ بها شهرة مستمرة حتى الآن.

ورغم أن المطربة فخورة بأغنيتها هذه، إلا أنها تستغرب أن تكون قد حالت دون انتشار أغنيات أخرى لها تعتبرها مهمة أيضاً وجميلة شعراً ولحناً وصوتاً.

وفي الدعوة إلى انتشار تلك الأغنيات، فإن من الجدير اعتبار لور دكّاش كتاباً لبنانياً مهاجراً، تتوالى في داخله صفحات جميلة، ويزيّن غلافه عنوان مشرق.

أ.م.

 

هاوية الفن

من الميزات العديدة التي تتمتّع بها لور دكّاش، إضافة إلى عدم انشغالها بأوهام الحسد والغيرة وإلقاء اللوم على الآخرين في كل شيء، أنها بدأت طريقها الفنّي بشكل "شرعي" إن صحّ التعبير، فلقد شجّعها والدها في هوايتها وهي في الخامسة من العمر بعكس معظم الأهل آنذاك.

وهناك أيضاً أنها اشتهرت كملحّنة وهذه حالة لم تتمتع بها إلا القليلات من الفنّانات (نذكر على هذا الصعيد الملحنة ملك، والملحنة نادرة، وجدير ذكره أن ملك ارتبطت بأشعار أحمد شوقي، ونادرة ارتبطت بأشعار عباس محمود العقاد، ولور دكّاش ارتبطت بأشعار صالح جودت).

يُضاف إلى ذلك، احتفاظها باسمها الأصلي، وعدم استبداله بما يعرف الاسم الفني، وذلك رغم إخلاصها الواضح للفن الذي وهبته عمرها وحياتها الشخصية كاملتين.

 

فنانة بالولادة

تنتمي الفنانة لور دكّاش بأسرتها إلى محلة حارة حريك بجوار بيروت، وهي من مواليد حي السراسقة بالمدينة عام 1917. بدأت هوايتها للفن وهي صغيرة في الخامسة. حصلت على دروسها الموسيقية الأساسية على أيدي عازف العود بترو، والملحن سليم الحلو.

سجلت الأغنية الخاصة الأولى وهي ما دون العاشرة، وقد رافقها عزفاً الكمنجاتي المشهور سامي الشوا (والأغنية كانت بعنوان "طلوع الفجر"، من كلمات بطرس معوّض).

في بداية الثلاثينيات، دعاها البيروتي أحمد الجاك، مع الفنانة صباح لاستقبال أم كلثوم التي أتت لزيارة لبنان، بحراً. غنت في حلب وانطاكية وتونس. ذهبت إلى مصر أكثر من مرة قبل أن تستقر هناك نهائياً في أواسط الأربعينيات.

كان من المنتظر أن تشترك مع محمد عبد الوهاب، تمثيلاً وغناءً في فيلمه الأول "الوردة البيضاء" عام 1933 لكن ظروفاً عائلية خاصة حالت دون ذلك (وقد اشتركت في الفيلم الفنانة سميرة خلوصي تمثيلاً فقط).

 

من تسجيلاتها العديدة

1- من تلحينها:
*  " ليلة الهرم" كلمات صالح جودت.
*  " آمنت بالله": من تلحينها وتلحين فريد غصن.
*   مستحيل تقدر تنسيني الليالي.

2- من تلحين غيرها:
* ودعت دنيا الغرام: تلحين أحمد صدقي.
* النيل: تلحين عزة الجاهلي.
* إن قلت لك: تلحين محمد الموجي.

3- من التراث:
* دور ضيعت مستقبل حياتي: تلحين سيد درويش.
* دور كل من يعشق جميل ينصفه: تلحين داوود حسني.
* موشح لاح بدر التم: تلحين محمود صبح.

 

اهتماماتها التراثية تركزت على موشحات وأدوار محمد عثمان، سيد درويش، داوود حسين ومحمود صبح... أما تسجيلاتها الشخصية فهي بمعظمها في الإذاعة المصرية، تبث من وقت لآخر، وهي تتمنى انتقالها إلى ذاكرة الجيل الجديد من المغنيات والمغنيين من أجل أن تطمئن إلى استمراريتها وتواصلها مع المستمعين في كل عصر.