وجع الشهادة وفرح النصر

ليبقى الوطن لا بد من تحمل آلام الجراح الكبيرة
إعداد: ندين البلعة


«الحمد لله على السلامة» أول كلمة «للشباب» من قائد فوجهم، فوج مغاوير البحر، العقيد الركن جورج شريم، الذي أشاد بشجاعة العسكريين وبتماسكهم في مواجهة الصعاب ومتابعتهم المهمة حتى آخر لحظة من المعركة، منوّهاً بمناقبيتهم وكفاءاتهم.
قائد فوج مغاوير البحر يرى في معرض تقييمه أداء العسكريين بأنه كان ممتازاً خصوصاً بالقياس الى صعوبة المهمة التي لم ينفّذ الجيش مثيلاً لها من قبل. «كانت معمودية دم حقيقية للفوج». والعسكريون الذين تحلّوا بمستوى عالٍ من العزم والإصرار تحلّوا في المقابل بمستوى عالٍ من المناقبية في تعاملهم مع المدنيين: «عسكريونا هم من أخرجوا نساء المسلحين وحملوا أطفالهم».
أما عن الثمن الموجع الذي دفعه الجيش، فيقول: «للحرب ثمن وليبقى الوطن لا بد من تحمّل آلام الجراح الكبيرة».
هنا نص الحديث
مع العقيد الركن شريم.

قائد فوج مغاوير البحر

أصعب المهمات
يصف العقيد الركن شريم هذه الحرب «بأصعب المهمات التي تولاها الفوج كما المؤسسة العسكرية، لم تكن حرباً تقليدية، فيها خطوط تماس بين جهتين. لقد كنا ندهم مخيماً هو عبارة عن 6000 مسكن تقريباً، وكان علينا تنظيف هذه المساكن وتفتيشها بما فيها من مسلحين مختبئين وقنّاصين وما يتركونه وراءهم من قذائف وتفخيخات».
ويضيف قائلاً: الدمار الذي وقع في المخيم لم يكن لمصلحتنا. لقد كان يعيقنا أحياناً كثيرة، والمعركة تطلبت فترة طويلة بسبب تراكم الصعوبات وسعينا الى الحد من الخسائر.


• مع الأخذ في عين الإعتبار كل ظروف المعركة ومعطياتها، كيف تقيم أداء العسكريين ومعنوياتهم؟
- كان أداءً ممتازاً لكن ينبغي التمييز بين مرحلتين: الأولى تشمل العمليات من المخيم الجديد وحتى نصف المخيم القديم، خلالها كان أداء العسكر ممتازاً والخسائر قليلة جداً.
في المرحلة الثانية، أي في ما تبقى من المخيم القديم، أصبحت العمليات أصعب وأقسى. فالمسلحون أصبحوا محاصرين في بقعة ضيقة، حيث بات استخدام الأسلحة محدوداً وازدادت الخسائر.
واجهنا صعوبة في التقدّم بين الممرات الضيقة. كان العسكري يجاهد ليجد مكاناً يتمركز فيه وينطلق منه ليتابع مهمته، بالإضافة الى الصعوبة في إخلاء المصابين وسحبهم.
العسكريون أصابهم التعب، مع ذلك تابعوا المهمة بإصرار وعناد، وبالإرادة والتخطيط، استطعنا التغلب على كل الصعوبات.


الإصرار هزم التعب
ويشير العقيد الركن شريم الى أن القيادة عرضت فكرة تبديل الوحدات لإراحة المقاتلين، لكن الوحدات التي بدأت المعركة أصرّت على المتابعة حتى النهاية وهذا ما حصل.


• ماذا عن الخسائر في صفوف العسكريين، لقد خسرنا عدداً كبيراً من الشهداء؟
- خسـارة أي شهيـد موجعـة، لكن لا معركة من دون خسـائـر، والحـفـاظ على الوطـن يقتضي دوماً تضحيات يدفعها العسكريـون مـن دمائهـم. لقد كـان سقـوط شهيـد يُحـزن رفاقه ولكنـه كان يزيدهـم عزمـاً على المتابعة. لما استطعنا متابعة المهمة لو لم يكن الإندفاع موجوداً لدى العسكر. تغلبنا على الظروف الصعبة بفضل إرادتهم وصلابتهم أولاً، وبفضل إيمانهم بوجوب إنهاء هذه المهمة بنجاح لنبقى أوفياء لقَسَمنا ولدماء الشهداء الذين سقطوا من أجل قضية شرف. أما بالنسبة الى حجم الخسائر فنظراً الى طبيعة المعركة هي خسائر مقبولة.
ويضيف: لم يساورني الشك في أي لحظة بأننا سنحقق الإنتصار، لكننا سعينا الى تحقيقه بأقل ما يمكن من خسائر. هدفنا لم يكن فقط إنهاء المهمة بل ايضاً المحافظة على أرواح العسكريين المقاتلين، وهذا من العوامل التي أطالت أمد المعركة.

 

عبرة لجيوش أخرى
• مــاذا عـن الخبـرات التي اكتسبهـا الجـيـش فـي معمـوديـة الـدم هذه؟
- أخدم في الجيش منذ 27 عاماً، لم أشهد ما شهدناه في هذه المعركة. كانت من أصعب المعارك التي يمكن أن يخوضها جيش. وستكون عبرة لجيوش العالم، وفي هذا الإطار شُكلت لجنة على صعيد المؤسسة العسكرية عموماً وعلى صعيد الأفواج خصوصاً، لدراسة تفاصيل هذه المهمة واستخلاص العبر منها، وبالتالي تعديل مناهج التدريب والتعليم والقتال العسكرية وتطويرها.
لم يتوقع أحد في العالم أن يخوض الجيش اللبناني هذه المعركة ويخرج منها بانتصار نهائي. لقد قضينا نهائياً على المنظمة الإرهابية التي كنا نقاتلها والفارّين تجري ملاحقتهم.
ويضيف:
كانت فعلاً معمودية دم لعناصر الفوج، 85٪ من العسكر حديثو الخدمة ولم يدخلوا سابقاً في معارك قاسية. هذه المعركة زادتهم خبرة في القتال، فقد قاتلوا كوحدة متكاملة على صعيد الفوج، وكجسم واحد مع باقي القطع على صعيد الجيش.
تخلل العمل بعض الثغرات التي فرضتها ظروف المعركة لكننا بجهد من كل الضباط والعسكريين تخطيناها. ففي المرحلة الأخيرة، أدى ضيق المسافة الى صعوبات تتعلق برمايات المدفعية والطيران التي كانت ضرورية لإنجاح المهمة، بالتنسيق والحذر تجاوزنا الصعوبات وصولاً الى حماية العسكريين المتمركزين قرب النقاط المستهدفة.

 

الإرهابيون هم المسؤولون عن الدمار
• حجم الدمار كبير في المخيم، كيف تشعرون حيال هذا الأمر؟
- الإرهابيون مسؤولون بالكامل عن هذا الدمار، لقد اعتدوا على الجيش، واتخذوا المدنيين دروعاً بشرية، كنا حريصين جداً على عدم إيذاء المدنيين، الإرهابيون تغلغلوا في الأماكن المدنية وأمعنوا في اعتداءاتهم علينا، عمدوا الى تفخيخ كل شيء، نحن كنا في معرض الدفاع عن النفس وعن كرامة جيشنا وبقاء وطننا.
في النهاية نحن من أخرج عائلاتهم من المخيم، نحن لا نضمر أي ضغينة للمدنيين، أخلاقياتنا والتزامنا المواثيق الدولية يحتمان علينا التصرف بمناقبية، وهذا ما فعله عسكريونا. لقد التزموا أوامر القيادة القاضية بعدم إيذاء أي إرهابي إذا استسلم. طبقنا في حقهم المواثيق الدولية.

 

«إنما الأمم الأخلاق»!
• لكنه موقف صعب... أن يُطلب من عسكريين نقل عائلات إهاربيين قتلوا رفاقهم وتسببوا لهم بكل هذا الأذى والألم؟
- نحن جيش نظامي نتصرف انطلاقاً من مبادئنا وقيمنا وما تحتمه أخلاقياتنا. الواجب الإنساني حيال النساء والأطفال والأبرياء، هو ما يحكم سلوكنا، لا نتصرف بدافع الإنتقام وإنما  بدافع حماية وطننا من الخطر وحفط كرامة جيشنا وشهدائنا.


• بعد انتهاء المعركة هل قيّمتم حاجاتكم كفوج؟
- بالطبع، لقد أنجزنا هذا التقييم، على الصعيد البشري نحن بحاجة الى دم جديد لذلك نسعى الى تطويع عناصر لصالح الفوج، إما من العسكريين في الخدمة الفعلية الراغبين في الالتحاق بالفوج، وإما من المجنّدين الممددة خدماتهم، كما أننا بصدد إعداد خطة نؤمن بموجبها وظائف تلائم العسكريين الذين باتوا في وضع صحي لا يسمح بمزاولتهم الوظائف التي كانوا يشغلونها. على صعيد التجهيز، رفعنا لوائح بحاجياتنا الى قيادة الجيش بالطرق الإدارية المعتمدة، وقد وعدنا القائد بتأمين ما نحتاجه.


• ماذا قال لكم مشهد الناس في انتظاركم من نهر البارد الى بيروت؟
- كان المشهد الأكثر روعة والأكثر تأثيراً الذي يمكن أن يعيشه إنسان. فرح الانتصار المتدفق على الطرقات، صنعه أبطال استشهدوا وآخرون ما زالوا يعانون آلام إصاباتهم.
عائلات تستقبل العائدين وعائلات تلوّح بصوَر الشهداء، صعب التعبير بالكلام. كل ما أقوله: كي يبقى الوطن لا بد من تحمّل آلام الجراح الكبيرة.


• هل من كلمة أخيرة للعسكريين؟
- أنا فخور بكم، فخور بصلابتكم وعنفوانكم وتضحياتكم ومناقبيتكم.