قضايا إقليمية

مات بيريس مجرم الحرب وحَرباء السلام
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

كان شمعون بيريس، (توفي في 28 أيلول 2016)، أحد أهم الرموز السياسية في إسرائيل منذ نشأتها في العام 1948. وقد شغل تقريبًا كل المناصب العامة، بما فيها منصبي رئيس الوزراء، ورئيس الدولة، على الرغم من أنه لم يقد أي حزب للفوز في أي انتخابات، حتى أنه لُقِّبَ بالمنحوس.


من الكيبوتس إلى السياسة
ولد بيريس في بولندا يوم الثاني من آب 1923 لأب يعمل في تجارة الأخشاب، واسمه الأصلي زيمون بيرسكي. لم يكن والدا بيريس يهوديان متشددان، لكنه درس التلمود في صغره على يد جده، وأصبح ملتزمًا دينيًا. في العام 1934، انتقلت الأسرة إلى فلسطين (كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك). تخرّج بيريس من مدرسة الزراعة، وعمل في المعسكرات الزراعية (الكيبوتس)، ثم انخرط في العمل السياسي، وعند انتخابه سكرتيرًا للحركة العمّالية الصهيونية، كان في الثامنة عشرة من عمره.
في العام 1947 عيّنه رئيس الوزراء المؤسس لكيان العدو، دافيد بن غوريون، في منصب المسؤول عن الأفراد وصفقات الأسلحة لمصلحة الميليشيات الصهيونية الإرهابية التي عُرفت باسم «الهاغاناه»، وشكلت نواة الجيش الإسرائيلي لاحقًا.
يتحمل بيريس مسؤولية تنفيذ الكثير من الهجمات الإجرامية ضدّ المدنيين الفلسطينيين خلال فترة الانتداب البريطاني قبل العام 1948، وتولّى عدّة مهمات خاصة، لا سيّما في مجال تشكيل القوة العسكرية الصهيونية وتجهيزها. وفي هذا السياق تمكّن من إبرام صفقة مع فرنسا للحصول على طائرات الميراج، وتأسيس منشأة نووية عسكرية سريّة في ديمونا. ومن «مآثره» أيضًا أنه من مهندسي العدوان الثلاثي على مصر(1956).
في العام 1959 انتُخب بيريس عضوًا في البرلمان الإسرائيلي (الكنيسيت)، عن حزب «ماباي» (حزب عمّال إسرائيل)، الذي انبثقت عنه الحركة العمّالية الحديثة في إسرائيل تحت إسم حزب العمل «عفودا». وعُين آنذاك نائبًا لوزير الدفاع، ثم استقال لاحقًا (1965) بعد الإشارة إليه في سياق تحقيق أعيد فتحه في عملية «سوزانا» أو فضيحة لافون وزير الحرب آنذاك، وهي خطة إسرائيلية تعود إلى العام 1954 وتقضي بتفجير أهداف بريطانية وأميركية في مصر (خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر)، في محاولة للتأثير على بريطانيا ودفعها إلى عدم سحب قواتها من سيناء.

 

الجلّاد يلوم الضحية
قاد بيريس منذ الستينيات عملية تهويد الجليل والنقب، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم. وعمل على إصدار قوانين تتيح هدم بيوتهم أو الاستيلاء على ممتلكاتهم بذريعة قربها من «منشآت عسكرية إسرائيلية». وطوال عقود، شجّع على انتقال الإسرائيليين إلى الجليل، للوقوف في وجه ما وصفه بـ«التهديد الديموغرافي» الفلسطيني.
في العام 2005، أطلق حملة رسمية بعنوان «تطوير (تهويد) الجليل»، واعتبر حينها أنّ «المشروع هو أهم عمل صهيوني في الوقت الراهن». وخلال توليه وزراة الدفاع بين 1974 و1977، شجّع على الاستطيان في الضفة الغربية، وعمل على رفض أي قيود أو حواجز توضع في وجه بناء المستوطنات. وهو أعلن أكثر من مرة عن دعمه الكامل لحصار قطاع غزّة، وللعمليات العسكرية الإسرائيلية فيه. وفي العام 2009، أعلن دعمه للحرب على هذا القطاع، لأنها ستشكل حسب قوله «ضربة قوية لأهل غزّة فيفقدون شهيتهم لإطلاق النار على إسرائيل». وفي العامين 2012 و2014، قاد حملة عالميّة لتلميع صورة الاحتلال في القطاع والتعتيم على جرائمه. حتى أنّه بأسلوبه المراوغ لام المدنيين الفلسطينيين على المجازر المرتكبة بحقهم، قائلاً: «إنه كان يجب عليهم أن يغادروا المنطقة التي يعرفون أنها ستستهدف بالقصـف».
إثر حرب السادس من تشرين الأول 1973 استقالت رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، وتنافس بيريس وإسحق رابين على المنصب، في الانتخابات التي انتهت بفوز الأخير. في العام 1977 استقال رابين من منصبه كقائد لحزب التحالف (معراخ) بعد فضيحة مالية تورطت فيها زوجته، لكن ثغرة في الدستور الإسرائيلي سمحت له بالبقاء في منصب رئيس الوزراء. وبالتالي أصبح بيريس زعيمًا للحزب ورئيسًا للوزراء بشكل غير رسمي، وهو قاد التحالف في العام نفسه إلى هزيمة في الانتخابات أمام حزب الليكود بقيادة مناحم بيغن.

 

المجرم حاملًا نوبل للسلام
بعد ذلك، مني بيريس بالهزيمة في خمس معارك انتخابية، انتهت كلها بحصوله على منصب وزاري كجزء من حكومة ائتلافية. وفي العام 1992، فشل في الفوز بقيادة حزب العمل الإسرائيلي، بعد هزيمته أمام رابين في المراحل المبكرة من الانتخابات الحزبية. وأثناء عمله كوزير للخارجية في حكومة رابين، بدأ مفاوضات سرية مع الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، انتهت بعقد اتفاقية أوسلو (1993). بموجب هذه الاتفاقية، اعترفت القيادة الفلسطينية ولأول مرة رسميًا بوجود إسرائيل. وبعد عام من أوسلو، حصل بيريس على جائزة نوبل للسلام، بالشراكة مع عرفات ورابين. ومن ثم تحول بيريس، الذي كان مدافعًا عن تأسيس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة، إلى داعية مزعوم للسلام.
كان بيريس رئيسًا للحكومة إثر اغتيال إسحق رابين (1995)، وحين وقعت مجزرة قانا الأولى في جنوب لبنان (1996) والتي استشهد فيها 106 من الأطفال والنساء والشيوخ الذين احتموا بمركز للأمم المتحدة. لكنه لم يُكمل عامًا واحدًا في منصبه بعد هزيمته أمام بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود.
في العام 2000، فشل بيريس بالفوز بمنصب رئيس البلاد، وهو منصب شرفي، أمام موشيه كاتساف. وفي العام 2002، بعد هزيمة إيهود باراك، الذي خلف بيريس في قيادة حزب العمل، أمام آريل شارون في انتخابات رئاسة الوزراء، قاد بيريس حزب العمل إلى التحالف مع الليكود، وفاز بمنصب وزير الخارجية، وتمكن بالتالي من تكوين «شبكة حماية» للمجرم شارون في الكنيسيت، ليتمكن من تنفيذ خطة الإنسحاب من غزة وأجزاء من الضفة الغربية، في مواجهة معارضة من حزب الليكود نفسه. شارك بيريس شارون في حملة القمع والتنكيل والمذابح التي مورست ضد الفلسطينيين في انتفاضة الأقصى، كما تورط أيضًا في مذبحة مخيّم جنين ومجزرة حي الياسمينة في القصبة بمدينة نابلس القديمة، وفي باقي عمليات الاغتيال والقصف التدميري في الضفة الغربية وقطاع غزة.
في العام 2005، أعلن بيريس استقالته من حزب العمل، ودعمه لشارون الذي أسس حزبًا جديدًا باسم «كاديما». وعند إصابة هذا الأخير بغيبوبة، توقع البعض أن يصبح بيريس قائدًا للحزب الجديد، لكنه واجه معارضة من أعضاء الليكود السابقين الذين شكلوا غالبية في الحزب. وفي شهر حزيران من العام نفسه، انتُخب رئيسًا لإسرائيل لمدة سبع سنوات،، حتى استقال في العام 2014، وكان آنذلك أكبر الرؤساء سنًا في العالم.

 

صانع مجزرة قانا
لم يكن بيريس يمتلك شهرة عسكرية تقنع ناخبيه بأنه يمتلك من الحزم والشدّة وقت الضرورة ما يضاهي خبرته وبراعته في التفاوض. وفي هذا السياق علّق الكاتب البريطاني المشهور في صحيفة الإندبندنت، روبرت فيسك، على وصف العالم لـه بـ«صانع سلام» عندما سمع بموته، بقوله إن بيريس -الذي خاض انتخابات رئاسة الوزراء بعد اغتيال سلفه إسحق رابين- قرر في حينه أن يزيد من أوراق اعتماده العسكرية قبل الانتخابات، بمهاجمة لبنان، فكانت عملية عناقيد الغضب التي تخللتها مجزرة قانا الأولى. ويتحدث فيسك عن المجزرة وقد كان شاهد عيان عليها فيقول: «كنت مشاركًا بقافلة مساعدات للأمم المتحدة تمركزت خارج القرية اللبنانية، عندما حلقت القذائف الإسرائيلية فوق رؤوسنا متوجهة إلى مخيم اللاجئين، واستمر القصف لـ17 دقيقة». ويضيف: حاول بيريس التملص من الجريمة بالقول: «لم نكن نعرف أن هناك مئات من المدنيين في ذاك المخيم التابع للأمم المتحدة. فقد كان الأمر مفاجأة قاسية لنا». ويعلّق فيسك على ذلك قائلاً: إن هذه كانت كذبة وإن الإسرائيليين كان لديهم فيلم فيديو للمخيم، وكانوا يطلقون طائرة من دون طيّار فوق المخيم أثناء تلك المذبحة. ويوضح أن هذه الحقيقة كان الإسرائيليون ينكرونها، إلى أن أعطاه جندي بالأمم المتحدة شريط فيديو للطائرة.
 إذًا، هذه كانت مساهمة بيريس في السلام اللبناني وفق فيسك الذي يقول أيضًا: «هو (بيريس) خسر الانتخابات وربما لم يعد يفكر في قانا، لكنني لن أنساها». ويحكي الكاتب أنه عندما وصل إلى بوابة مخيم الأمم المتحدة كان الدم ينساب أنهارًا من الجثث وكان هناك أرجل وأذرع وأطفال بلا رؤوس ورؤوس شيوخ بلا أجساد... وإذ يستهجن النفاق العالمي وتزوير الحقائق الذي أفضى إلى وجود من يقول «يجب علينا الآن مناداته بصانع السلام»، يختم فيسك بالقول: خلال الأيام القليلة المقبلة «سنحصي عدد المرات التي تستخدم فيها كلمة السلام في نعيه، لنحصي من ثمّ عدد المرات التي ستظهر فيها كلمة قانا في المقابل».