قضايا اقليمية

ماذا وراء حكومة شارون اليمينية الثانية؟
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

عندما وصل الإرهابي العتيق آرييل شارون الى سدة السلطة في الكيان الصهيوني إثر انتخابات عام 2001, وهو الوحيد المتبقي من جيل قدماء القادة الصهاينة ­ إذا استثنينا الإنتهازي التاريخي شمعون بيريس ­ قال عبارته المشهورة التالية: “المجتمع الإسرائيلي يعاني من نقص في يهوديته وصهيونيته”.

وكان شارون في الوقت عينه قادراً, أكثر من أي شخص آخر سواه, على قراءة حركة التاريخ والسياسة في إسرائيل والمنطقة, والتحولات الجوهرية التصاعدية الحاصلة في وتائر ومعدلات الصراع الفلسطيني بشكل خاص, والتي تجلت في صورها الدموية الواضحة إثر اندلاع انتفاضة الأقصى التي سببتها زيارة شارون الإستفزازية لباحة المسجد الأقصى في أواخر أيام ولاية رئيس الحكومة السابق إيهود باراك. وعلى هذا الأساس عمل شارون على إعادة توضيح معالم وخطوط المشروع الصهيوني المتجدد, من خلال استعادة أجواء حرب عام 1948 الدامية, التي اعتبرها بمثابة “حرب تحرير” لم تنته فصولاً بعد. وقد جاءت المجازر التي ارتكبها شارون أثناء حكومته الأولى في كل من جنين ونابلس ورام الله وطولكرم وسواها, من أجل أن تحدث هزّة نفسية وجدانية لدى الإسرائيليين عموماً, وتستنفر لديهم مشاعر الكراهية العنصرية والتخلي عن أحلام قوة افتراضية متفوقة وردع وهمي, وأوهام عالم استهلاكي مؤمْرَك يبعدهم عن الشعور بضرورة بذل التضحيات المناسبة, والمطلوبة من أجل ديمومة واستمرار التجمع الإستيطاني في الحياة.
سلّم الأولويات هذا الذي فرضه شارون على الروزنامة الوطنية الداخلية, ساعده على فرض هيمنته التامة على الحكومة والكنيست السابقين, وعلى إسكات الجدال والنقاش العام من خلال ذر الرماد في عيون الجمهور, بحيث تحوّل وزيرا الدفاع والخارجية (بنيامين بن اليعزر وشمعون بيريس من حزب العمل), الى مجرد خادمين طائعين في بلاطه, فيما تحولت المؤسسة الأمنية والعسكرية الى المرجعية الأساسية التي تفرض سياسة الدولة.
على الرغم من ذلك حاول شارون, الإستبدادي, الظهور في إسرائيل والعالم كزعيم براغماتي لا يفصل بينه وبين السلام مع الفلسطينيين المنتفضين, سوى ما سمّاه “الإرهاب” فقط, من باب الإنتهازية وتزييف الحقائق. وفي ظل المناورة الداخلية بتعاونه مع حزب العمل, ناور شارون أيضاً على صعيد المبادرات السياسية التي كانت تطرح عليه مثل خطة ميتشل وورقة العمل التي قدمها تينيت بالإضافة الى خطاب الرئيس بوش ورؤيته, حتى أنه أعلن استعداده, الشكلي بطبيعة الحال, لإقامة دولة فلسطينية من خلال تقديم “تنازلات” سمّاها بالمؤلمة!!
ومن الناحية العملية, تميزت فترة حكومة الوحدة الوطنية التي امتدت الى ثمانية عشر شهراً, بالجمود السياسي والنشاط الإستيطاني, كما تميزت بتصاعد وتيرة العنف الدموي المتبادل بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وسقوط المزيد والمزيد من القتلى والجرحى والمعوقين من الجانبين, مما أحدث أزمة إقتصادية خانقة لم يشهد الكيان الصهيوني مثيلاً لها منذ تأسيسه, بالإضافة الى تراجع مكانة هذا الكيان الدولية.
وبعد أن تعلّم زعيم حزب العمل الجديد اللواء المتقاعد عميرام ميتسناع, درس المذلة والمهانة الصعب من زميليه بن أليعزر وبيريس, رفض الإكتفاء بمناورات شارون الكلامية وطالبه, إثر فوزه الثاني, بوثيقة مكتوبة, إذا كان يريد منه الإنضمام الى حكومة وحدة جديدة. إلا أن شارون المأخوذ بنشوة الإنتصار رفض التعهد بجدول زمني لقيام دولة فلسطينية مفترضة, بل ورفض التعهد بشكل مبدئي بتفكيك حتى المستوطنات المنعزلة, وأعلن أنه ارتكب خطأ في ما يتعلق بتفكيك مستعمرة ياميث في سيناء, اثر اتفاقية كامب ديفيد مع مصر, وأنه لن يكرر هذا الخطأ على الإطلاق.
وهكذا أسقط خيار حكومة الوحدة الوطنية رقم اثنين, وتم تشكيل الإئتلاف الجديد الذي ضم الليكود, وفي داخله إسرائيل بعاليا الخاص باليهود الروس, والمفدال (الديني القومي) والإتحاد القومي (ليبرمان وبيني آلون) وشينوي بزعامة يوسي لابيد الذي يصنّف كيمين وسط بأغلبية 68 صوتاً, مقابل 52 صوتاً في الكنيست, وقد تم تصنيف هذا الإئتلاف في الصحافة الإسرائيلية بأنه “اشكينازي جداً ورأسمالي جداً ويميني جداً”.
ويشهد ميزان القوى بين شينوي (التغيير) من جهة والمفدال والإتحاد القومي وكتلة الصقور الكبيرة في الليكود في جهة أخرى, بشكل فاضح, على مواقف الحكومة الشارونية الجديدة في الميدان السياسي, حيث لا نجد أي توازن بين مناورة إعلان النوايا بشأن إقامة دولة فلسطينية مفترضة وبين تعيين آفي إيتام زعيم المفدال, الذي يدعو الى ترحيل الفلسطينيين كوزير للبناء والإسكان, والذي كان قد أعرب في حينه عن معارضته الشديدة لإخلاء أي من المواقع الإستيطانية, حتى تلك المصنفة على أنها “غير شرعية”, التي أمر وزير الدفاع السابق بنيامين بن أليعزر بتفكيكها. كما وأن المفدال والإتحاد القومي المشاركين في حكومة شارون الجديدة لا يتحفظان فقط من أي تلميح للإستعداد لإنهاء الإحتلال, بل إنهما خرجا علناً ضد أي مبادرة لسحب الجيش الإسرائيلي من داخل المدن الفلسطينية أو التسهيل على حياة السكان هناك. وإنه لمن باب الإستخفاف بالعقول الإعتبار بأن التحالف مع شينوي, بوسعه أن يخفي الوجه الحقيقي للحكومة الجديدة التي حددت صحيفة هآرتس في افتتاحيتها حقيقة هويتها بأنها “حكومة من دون بشرى سياسية تستند الى اليمين الأيديولوجي الذي يستبعد التسوية وكل ما تبقى ليس سوى تمويه مكشوف”.
من هنا, وعلى ضوء ما تقدم, وعلى ضوء خبرتنا الطويلة في فهم شخصية رئيس الحكومة الصهيونية آرييل شارون, المبنية على الكذب والخداع والمناورة, يمكننا القول أنه مثلما فعل عام 1982 بخداع رئيسه مناحيم بيغين, في ما يتعلق بحدود إجتياح لبنان, فإنه اليوم يعمل على خداع الجميع من أجل بلوغ أهدافه الإستراتيجية التالية:
­-  إحراز نصر عسكري نهائي وساحق وحاسم على الفلسطينيين.
­-  الوصول الى تصفية أو نفي رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.
­-  وضع حد نهائي على الأرض لأي أمل بإقامة دولة فلسطينية حقيقية.
­- إستمرار التقدم نحو تحقيق إسرائيل الكبرى والعظمى معاً وذلك بضم معظم الضفة الغربية, إن لم يكن كلها ومضاعفة بناء المستوطنات وجلب المستوطنين اليهود من الأرجنتين وفرنسا وروسيا وأفريقيا, جنباً لجنب مع طرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين أو إجبارهم على الهجرة.
ـ الإضعاف والتطويق المستمر للعراق وسوريا, وذلك لاستبعاد أي تهديد محتمل الآن أو في المستقبل من جبهة عربية شرقية.
­- قلب النظام الإسلامي في إيران ومحاولة إعادة بعث الرابطة الإيرانية الفارسية القديمة مع إسرائيل, مثلما كانت عليه الحال أيام الشاه محمد بهلوي.
­-  القضاء على المقاومة الإسلامية والوطنية في لبنان.
وهذه الأهداف جميعاً سيجري العمل على تحقيقها في ظـل حكومة يمينية متطـرفة, تسـتند الى أيديولوجيا شوفينية والى احتكار أسلحة الدمار الشامل والتحالف الإستراتيجي الحصري مع الولايات المتحدة, ناهيك بالتحالف التكتـيكي أيضـاً مع تركيا الباحثة في ركـام العـالم العربي الممزق عن مصالحـها الإقتصاديـة في الدرجة الأولى.