رحلة في الانسان

ماذا يحصل في داخلنا عندما نغني؟
إعداد: غريس فرح

الإستماع الى الصوت العذب والغناء الجميل شيء مثير ومفرح. إلا أن الأحاسيس التي يختبرها من يترجم بصوته اللحن والكلمة, لا يعرفها سوى من خاض تجربة الغناء بنفسه, وتعرّف الى حلاوة وقع صوته في أذنه وكيانه.
وتجربة الغناء عرفها الإنسان منذ القدم. منذ أن رفع صوته بداعي الخوف والحزن والتواصل مع الغير عبر المسافات.
آنذاك لامست أنفاسه أعماق نفسه المضطربة فهدّأتها, وخففت من حدة وحدته وضياعه في عالمه البدائي. ومع الوقت نمت مواهبه وقدراته, وتعلّم كيف يستخدم طبقات صوته ليولّد الألحان. بهذا أصبح الغناء الذي تطوّر مع الزمن جزءاً من الكيان البشري وأحد أهم عوامل الإنصهار الجماعي والحضاري.
والسؤال المطروح: كيف يؤثر الغناء في نفوس محترفيه وهواته وفي علاقاتهم بالمجتمع؟

حالة فرح داخلي

علماء النفس الذين عاينوا عن كثب تأثير الغناء في نفوس المغنين وصحتهم إضافة الى علاقاتهم الإجتماعية والإنسانية, أكدوا أن آراء هؤلاء كانت متجانسة الى حد ما, وخصوصاً في ما يتعلق بتجربة الغناء التي تجمع عدداً من المواهب والقدرات الراقية وأهمها: الشعر والموسيقى والصوت والأداء.
فطلاب معاهد الغناء مثلاً, والذين يخضعون لتدريبات الصوت, وينخرطون في جوقات الغناء الجماعي, لفتوا الى أهمية حالة الفرح الداخلي الناجمة عن سماع المغنين لأصواتهم وهي ترتفع بالألحان لتولد فيهم الوحدة مع النفس والشعور بالإنسجام الكلي مع الجماعة. كما أشار معظمهم الى الإسترخاء غير المألوف الذي يلفهم أثناء الغناء, ويشعرهم وكأنهم يخضعون لتدليك مجهول المصدر يطال كيانهم الجسدي والنفسي. ويقول أحدهم: ˜عندما أغني أشعر كأني ألامس الأرض بقدمي بينما يحلّق صوتي بعيداً في عالم لا يدركه عقلي الواعي.

الإستماع الى صوت النفس

أكد أحد الباحثين الفرنسيين في علم الغناء بالبراهين الحية, أن الصوت أداة تخضع للتطوير في مختلف مراحل العمر. وحسب رأيه, فإن باستطاعة أي منا بلوغ الصوت الجميل والأداء الجيد إذا ما حاول الإستماع بعمق الى صوته الداخلي. وهذا يعني أن الإنسان لا يحتاج الى مدرب يعلمه أصول الغناء وتقنياته, إذ يكفي أن يتعرف الى نفسه, ويتعلم كيف يستمع الى نبضات جسده ومشاعره, ويجسدها من خلال صوته. وفي حال نجح في التوحيد بين إيقاعات جسده وصوته, فهو يتمكن بدون ريب من السيطرة على مسارات الطاقة التي تربطه بنفسه وبالعالم من حوله. وهذا يحدث عموماً عندما ينجح في إزالة الحواجر الإجتماعية الضاغطة والتي تعرقل إنسياب هذه الطاقة.

الغناء رياضة روحانية

من جهة ثانية, يؤكد معظم محترفي الغناء أن فهم إيقاع الموسيقى ضروري للتحكم بطبقات الصوت ومسارات الطاقة, لأن اللحن عندما يتوحد مع الكلمة والصوت والإيقاع, يتحوّل بفعل هذه الوحدة الى رياضة روحانية تؤمن الإرتقاء الذي سبق وأشرنا إليه, ويصبح بالتالي علاجاً نفسياً يزيل الضغوطات والحزن والتوتر ويساعد في مداواة الكثير من الأمراض.
وجهة النظر هذه عبّر عنها بوضوح أحد أساتذة الغناء الفرنسيين, حين عاد بالذكرة الى أيام الطفولة, حين كان يضطر الى كبت غضبه وحزنه تجاه قساوة والديه ومعلميه ومواقف بعض زملائه. كان عندها يلجأ الى الغناء بصوت مرتفع. كان يغني ويغني الى أن يشعر بضغط الألحان يهدهد مشاعره, وزفير الهواء الصاعد من حنجرته يلامس صدى أحزانه.

الغناء والطب البديل

هذا الشعور المرافق للغناء عبّر عنه كثيرون ممن غنوا الحزن والفرح وأحيوا المناسبات والأعياد. كما تكلم عن مزاياه وفوائده بعض الأطباء الذين وجدوا فيه أحد أنواع العلاج الذي يستخدم حالياً في مجال الطب البديل, أي العلاج الذي يستبدل الأدوية الكيميائية بالأعشاب والتدليك والرياضة الروحانية, إضافة الى العلاج بالروائح العطرية وسواها من الوسائل الطبيعية. وقد عرف أن بعض الأطباء الفرنسيين أصبحوا يطلبون من مرضاهم متابعة دروس في الغناء والموسيقى, إضافة الى الإنضمام الى الجوقات الغنائية. واللافت أن بعض اختصاصيي الجراحة النسائية الذين يخضعون الحوامل لتدريبات تسهيل الوضع أثناء مرحلة الحمل والتي عادة ما تتضمن بعض أوضاع اليوغا, وتمارين التنفس, باتوا يعطون أهمية بالغة لتدريب طبقات الصوت, وذلك تمهيداً للاستعانة بطبقة الصوت العليا السوبرانو أثناء الوضع لتخفيف آلام المخاض وتسهيل الولادة الطبيعية. أما كيف يخفف الغناء الألم ويسهل الوضع, فهذا يعود حسب رأي الأطباء الى التأثير الإيجابي الذي تحدثه ذبذبات الصوت في الدماغ.
فعندما يستقبل الدماغ ذبذبات الصوت الصادرة من الحنجرة يبدأ بزيادة إفراز المادة المسكنة للألم والمهدئة لتشنج العضلات, من هنا أهمية الغناء في حالة الوضع وسواها من الحالات المرضية المصحوبة بالتشنج والألم, إضافة الى الإضطرابات النفسية بما فيها الإكتئاب المرضي.
ليس بمستغرب إذن أن نرى العاشقين ينسجمون مع أغاني الحب ويدندنون الألحان ليبعدوا شبح الحزن والوحدة. وليس غريباً أن يغني الفلاحون أثناء الحصاد ليخففوا من تعبهم ويتسلحوا بالفرح والنشاط وحب الحياة.
ولكن المستغرب أن يبتعد البعض عن دروب الغناء وينتقدوا هواته لترفّع أو خجل أو شعور بالنقص.
المهم أن نعلن عن مشاعرنا بصدق وأن نسعى الى التعرف الى قدراتنا الكامنة, بما فيها المقدرة على الصفاء لما فيها من منافع وإيجابيات على الصعد كافة.
ولكي نغني, ليس من الضروري أن نحترف الغناء أو نسعى الى الظهور والربح المادي, إذ يكفي أن نغني لذواتنا, أو أن نشترك في الاحتفالات الدينية, حيث يمكننا أن نرفع أصواتنا لتوحد أصداؤها القلوب والعقول, وترفعنا الى حيث يجدر بنا أن نكون.

أسباب الإنهيار العصـبـي وسبل مواجهته

الإنهيار العصبي, إصطلاح يرد على ألسنة الناس, ولا يُبحث في المراجع الطبية كحالة مرضية محددة وقائمة بذاتها, وإن كانت الأوساط الطبية تستعمل هذا الإصطلاح للدلالة على حالات الإضطراب النفسي التي تتصف بالشدة والحدة.
لا يدل الإنهيار العصبي, على وجود مرض عضوي في الأعصاب يؤدي الى حالة الإنهيار, وكل ما يفيده هذا الإصطلاح, هو أن المريض قد وصل الى نقطة تداعت فيها مقوماته النفسية بشكل عام وواسع, والى درجة يتعذر فيها عليه الاحتفاظ بتوازنه النفسي, وفي ذلك افتراض ينطبق على الواقع, وهو أن لكل فرد مقداراً معيناً من المناعة النفسية يتيح له تحمل ما يواجهه من جهد وضغوطات تفرضها الظروف المحيطة, والى الحد الذي لا يستنفذ فيه الفرد حدود هذه المناعة, فما زاد عن هذه الحدود يعرّض الإنسان الى انهيار مقاومته والى اضطراب كيانه النفسي, لنجده عاجزاً, يتملكه شعور بالإعياء والإخفاق في مواجهة التحديات والتغلّب عليها.
المناعة النفسية

يشكل التعرّض لمواقف صعبة وحرجة صدمة انفعالية لدى الفرد ويمهد لظهور المرض العصبي تبعاً للحالة الإنفعالية التي تفرضها ظروف غير طبيعية.. والناس يتفاوتون في درجة مناعتهم, وفي مدى تحملهم لعوامل الضغط والإجهاد, وأكثرهم استعداداً للإنهيار, هم الذين يعيشون على هامش الحياة النفسية السليمة, وسرعان ما يقعون في أزمة نفسية عند تعرضهم لأقل تجربة مرهقة, تزيد ولو بـقدر يسـير عما تعودوا عليه في ظروف الحياة وتجاربها. على أن الإنيهار العصبي لا يقتصر على هذه الشريحة من الناس, إذ من الممـكن لأي فـرد مهما اشتـدت مناعـته النفسـية أن يصاب بالإنهيار فيما لو أخضـع للـقدر الكافـي من عوامل الإجهاد.
وأفضل مثال على ذلك, المعاناة التي يعيشها الجنود في الحروب بسبب الإجهاد المتواصل أو الخوف من الأخطار التي تهددهم في كل وقت, وهي أمور تؤثر على معنوياتهم وقد تعرض بعضهم للإحباط والإنهيار, فالجندي يحتاج الى طاقة نفسية وعصبية أكثر ثباتاً وتماسكاً وقوة, ليتمكن من السيطرة على انفعالاته سيطرة عقلانية, كما يجب أن يكون لديه الإستعداد الكـافي لمواجهة المواقف المسببة للقلـق وتحمّل مسؤوليته أمام كل الاحتمالات.
إن العوامل التي يمـكن أن تؤدي الى الإنهيار العصبي متعددة, وفي معظم الحـالات التي يحـدث فيها الإنهيار العصبي, يتوفـر الدليل على وجود اضـطراب نفسي تغلّـب على الفرد وبـشكل أفقـده السيطرة على أعصابه..
الى ذلك تجدر الإشارة الى أن الأعراض الغالبة في حالات الإنهيار العصبي هي: القلق والكآبة والشعور بالغضب والخوف الشديد. الى ما هنالك من صور مرضية ­ نفسية ترهق أعصاب الإنسان وتُضعف مقاومته, وبنتيجتها يصبح عاجزاً عن التكيّف تكيّفاً ناجحاً مع واقعه الآني, وعن التصدي للمعضلات التي تواجهه وتتطلب المزيد من اليقظة والمرونة والشجاعة والإنضباط.

الوسائل العلاجية

على العموم, يمكن القول أن الإنهيار العصبي هو ردة فعل طبيعية لظروف نفسية متعددة تساهم في تعجيز توازن الإنسان وتحويل الطاقة الدفاعية لديه الى طاقة مريضة. ولعل من أهم الوسائل العلاجية في هذا المجال, احتواء المريض في ظروف حياته وتوفير مناخات تُشعره بالإطمئنان والثقة, وتتنوع فيها مصادر التعويض عمّا فقده من أمان نفسي ومعنوي, بسبب حدث أو موقف أفقده السيطرة على أعصابه.. أما القاعدة الهامة في علاج حالات الإنهيار العصبي, فهي ضرورة عزل المريض عزلاً تاماً عن الظروف المسببة والمؤدية للإنهيار, سواء كانت هذه الظروف مادية أو عاطفية, ومثل هذا العزل ضروري لإيقاف فعل عوامل الإرهاق على الكيان النفسي للمريض, كما أنه ضروري لإعطاء الراحة للجهاز العصبي المنفعل بسبب هذه العوامل.
وفي المجال العسـكري يجـب تهيـئة أفضل الظـروف التي تساعد على رفـد معنـويات الجـنود, وتساعدهم للتغلب على خوفـهم وتقدير المصاعب على حقيقتها, كما يجب توجيههم توجيهاً بناءً ومشجعاً للمشاركة بتصميم عميق وحماسة مقرونة بشعور اندفاعي يتسم بالإخلاص لأهداف الرسالة الوطنية.. وفي المقابل, يجب أن يبتعد الجنود عن الإنفعال, وأن تكون لديهم المقدرة على ضبط أعصابهم. فالهدوء والإتزان والإرادة الثابتة سمات مطـلوبة في كل جندي لتثبيت كفاءته بأنه أهل لحمل السلاح والذود عن الوطن.
لا شـك أن الظروف الخارجيـة الضاغـطة ينشأ عنهـا صراع نفسي يهـزّ كيان الشخصية, وقد يؤدي الى تعـرّض الإنـسان لانهيار عصبي يعيق نشاطه العام.. من هنا, يجب أن يكون كل إنسان مستعداً لمواجـهة الظروف الطارئـة بشجاعـة وثبـات وثقـة عالـية بالنـفس, لأن الشخصية المتـوازنة, المنضبطة هي الأوفر حظـاً في مقـاومـة الإنهـيار العصبي.