رحلة في الإنسان

ماذا يدفع البعض الى التهام غير الصحي؟
إعداد: غريس فرح

مع انتشار الوعي الغذائي وتوافر المعلومات المتعلقة بنوعية الطعام وكميته الواجب التقيّد بها للمحافظة على الصحة، وتجنّب أضرار البدانة، يصبح من الضروري أن تلتزم الأكثرية الساحقة، وخصوصاً في المدن، توصيات برامج التوعية التي تنبّه الى مضار المأكولات الدسمة والسكاكر وسواها من المأكولات المضرة بالصحة. لكن للأسف، نرى أن الكثيرين يندفعون بقوى خارجة عن إرادتهم الى التهام أنواع مضرة من الأطعمة بكميات تفوق حاجة أجسامهم، الأمر الذي يجعلهم يرزحون تحت أثقال الدهون والشحوم، ويتسبّب بمرضهم أو إصابتهم بالخمول. وكما ثبت بالدراسات، فإن الذين يعانون الوضع المشار اليه هم على العموم ضحايا صراعات نفسية مريرة سببها التأرجح الدائم بين ضغوط الدوافع القسرية تجاه تناول ما يشتهونه من مأكولات، وما ينجم عنها من نتائج سلبية تتمثل بمشاعر الذنب والندم واحتقار الذات، وخصوصاً عندما تتفاقم مضار البدانة على الصحة، وتؤدي الى تشويه لافت للشكل الخارجي.
هذا السلوك البشري الاستحواذي تجاه الطعام كان وما يزال محور اهتمام الأطباء
في المجالين الصحي والنفسي إضافة الى الباحثين في أمور التغذية والحمية.
وفي ما يأتي بعض ما تمخّضت عنه آخر الدراسات في هذا المجال.


مؤثرات بيولوجية
تشير المعطيات العلمية الحالية الى أن بواعث السلوك الاستحواذي تجاه بعض المأكولات الدسمة تنجم عن المؤثرات البيولوجية المتسببة بالإدمان على الكحول والمخدرات. وهذا يعني أن الميل القسري الى الإكثار من تناول الطعام غير الصحي هو شكل من أشكال الإدمان الذي يتخطى الإرادة الفردية بسبب إضطرابات تطرأ على مسار الأنشطة العصبية في بعض المناطق الدماغية البشرية.
وكان الباحثون قد توصلوا الى هذا الإستنتاج العام 1994، إثر دراسة أجريت في جامعة روكفلر الأميركية وأدت الى اكتشاف مادة بروتينية تعرف باسم «الليبتين» (Leptin)، وهي مادة تتسرّب عبر الدم الى الدماغ وتتسبّب بكبح الشهية الى الطعام فور حصول الجسم على حاجته من المواد الغذائية. ومن هنا تمّ التكهّن آنذاك بأن عدم المقدرة على التحكم بالشهية قد يكون ناجماً عن خلل بيولوجي في نشاط هذه المادة، الأمر الذي يتسبب باضطراب تواصل الخلايا العصبية وبالتالي وصول المعلومات الى المركز الدماغي الذي يصدر إشارة الشعور بالامتلاء. وبيّنت نتائج الأبحاث الأخيرة أن مادة الليبتين التي تعمل ككابح للشهية، تؤدي ايضاً دوراً مهماً على صعيد نشوء سلوك الإدمان لدى نسبة كبيرة من الناس. والدليل أن نتائج الاختبارات التي خضعت لها مجموعة من المدمنين على المخدرات أثبتت أن معظمهم يعاني نقص هذه المادة في أدمغتهم، وهو ما اعتبر أحد أهم مسبّبات إدمانهم.     

 

هل ثمة تشابه بين الطعام والمخدّر؟
إن الذين حاولوا إنقاص وزنهم بالامتناع عما اعتادوا تناوله من حلويات وأطعمة دسمة، اختبروا بدون ريب الشعور السلبي المرافق لهذه المحاولة المتّسمة بالصعوبة، وخصوصاً خلال مراحلها الأولى. وحسب رأي الباحثين، فإن صعوبة الإقلاع عن عادة تناول بعض المأكولات هي ظاهرة طبيعية تميّز الارتباط الوثيق بين تأثير هذه المأكولات على ارتفاع أنشطة دماغية معينة، وبين انعكاسات هذا الارتفاع المتمثلة عموماً بالتلذّذ بالطعام وما يولّده من شعور بالاكتفاء والسعادة. والدليل أن الذين يعانون السمنة المفرطة والذين أخضعوا لبرامج الحمية الغذائية المقرونة بالتجارب والفحوصات المخبرية، أظهروا خلال الأيام الأولى عوارض انسحاب شبيهة بتلك المرافقة  للانقطاع المفاجئ عن تعاطي المخدرات. وقد تمثلت هذه العوارض لدى البعض بميل هستيري ملحّ الى تناول أنواع معينة من الأطعمة، إضافة الى فقدان الانضباط الذاتي وإهمال الحاجات اليومية الأخرى، كما ظهرت لدى البعض الآخر بشكل نقص لافت في المقدرة على التكيف مع الواقع، بالإضافة الى الشعور بالقلق والتوتر الشديدين.

 

الدور الرئيس لمادة «الدوبامين»
من هذا المنطلق، يرى الباحثون أن الإدمان على بعض المأكولات لا يختلف بالمفهوم العلمي عن الإدمان على تعاطي المخدرات أو الكحول، والاختبارات العلمية التي تناولت أنشطة دماغية أخرى (سنأتي على ذكرها)، قدّمت دلائل ملموسة على هذا الصعيد.
فعدا عن الدور الذي تؤديه مادة «الليبتين» والذي سبق وأشرنا اليه، هنالك التأثير البالغ الفعالية لمادة «الدوبامين» الدماغية، والمعروف عنها أنها إحدى الكيميائيات التي تفرزها نواة الخلايا العصبية وتؤدي دوراً أساسياً على صعيد التوازن السلوكي والمشاعر الإيجابية، علماً أنها تتفاعل مباشرة مع التجارب الحياتية. وعرف أن التجــارب الحياتية المثيرة للبهجة ترفع نسبة إفراز «الدوبامين» الى مستويات عالية.
كما أن تكرار هذه التجـارب يتسبب بالاعتياد على ارتفاع هذه المادة والشعـور الإيجابي المرادف لها، وهو ما يدفع بالمعنييـن الى الاحتفاظ بهذا المستوى عن طريق الإستزادة آلياً من المواد المثيرة للبهجة. وقد تمّ التأكد من أن التلذّذ بالطعام الذي نحب، وخصوصاً الحلويات الدسمة، يدفع مستوى «الدوبامين» بالنسبة نفسها التي تنشأ عن الانتشاء بمفعول المخدر.
هذا النظام العصبي الذي يؤمن مكافأة بيولوجـية عالية، ومتمثـلة بالاستمتاع بالطعام والمواد الكحولية والمخدرة، هو نظام متصل بمنطقة دماغية تعرف بـ«ما تحت السرير البصري» (Hypothalamus)، ومهمتها ضبط الشهية والتحكم بالتوجه الفطري الى اختيار كمية الطعام المناسب ونوعيته.
وعرف نتيجة اختبارات أجريت على الفئران، أن بعض الفئران الذي تم تعديله وراثياً لمنع تدفق «الدوبامين» في أدمغته، فقدَ شهيته الى حد تعرّضه للمجاعة وخطر الموت. ولدى تزويده كميات مناسبة من هذا الهرمون، استعاد سلوكه الطبيعي.
الى ذلك، فقد ثبت من خلال الفحوصات المخبرية والصور الشعاعية، أن الذين يعانون السمنة المفرطة يفتقرون عموماً الى كمية الدوبامين الكافية لشعورهم بالاكتفاء، الأمر الذي يدفعهم الى تناول الطعام بشكل غير منتظم وبكميات كبيرة للتعويض عن هذا النقص وتأمين الشعور بالارتياح، وهو السبب نفسه الذي يدفع بالبعض الى معاقرة الخمرة وتعاطي المخدر.

 

الإكثار من الطعام
يتحول الى عادة
من ناحية ثانية، يشير الإختصاصيون الى وجود منطقة دماغية تعرف بـ«القشرة المحجرية الجبهية» (Orbitofrontal Cortex)، وهي منطقة تعمل كمركز منظّم للسلوك وترتبط مباشرة بإدمان المعنيين على مواد معينة. وعرف أن الأشخاص الذين يعانون تدنياً في نشاط هذه المنطقة نتيجة خلل وراثي، أو بسبب التعرض لحادث أو مرض ما، يفتقرون عموماً الى السيطرة على النفس، وخصوصاً في ما يتعلق بتناول الطعام ومعاقرة الخمرة وتعاطي المخدر.
والعام 2001، أثبتت نتائج الدراسات التي أجريت في جامعة يال الأميركية أن التلذّذ ببعض المأكولات وكذلك المواد المخدرة والكحول، يزيد من نشاط هذه المنطقة الدماغية ويؤمن بالتالي الاستمتاع اللحظوي بمؤثرات هذه المواد، وبالتالي الاعتماد عليها لتحقق الارتياح المطلوب.
هذه وسواها من المعطيات تدفع بالباحثين الى الاستزادة من تفهّم كيفية تعامل الدماغ مع الشعور بالجوع والشبع من أجل تطوير العلاج المناسب للإفراط اللاإرادي في تناول الطعام، وما ينجم عنه من زيادة الوزن والأمراض المرافقة له. وحسب نتائج الأبحاث الحالية، فإن الأنظار تتجه اليوم الى بعض العقاقير المطورة لمعالجة الإدمان على المخدرات كحل واعد لمعالجة الإدمان على تناول الطعام، علماً أن التجارب في هذا المجال قد تمخّضت عن نتائج إيجابية ملموسة.
صحيح أن التمارين الرياضية، والتحكّم بعادات الطعام، والخضوع لاستشارات الاختصاصيين قد تؤدي الى نتائج إيجابية على صعيد تخفيف الوزن، إلا أن صعوبة التعاطي مع هذه الوسائل، وخصوصاً في ما يتعلق بالمقدرة على الاحتفاط بالوزن الصحي لمدة طويلة، تلقي الضوء على الأساس البيولوجي لهذه المشكلة العصرية.