وجهة نظر

ماذا يريد أردوغان: السلطنة أم السلطان؟!
إعداد: جورج علم

يطلق صفّارة الإنذار، لكنّه يُبقي على أسطوله هانئًا في مضيق البوسفور. يذهب الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان إلى المواجهة بالصوت والصورة فقط، يرفع النبرة، يجيّش العواطف، ويحصد الأصوات في صناديق الاقتراع.
فضحت أسلوبه المستشارة الألمانيّة آنجيلا ميركل، قالت عنه في عزّ أزمته مع أوروبا، وهولندا تحديدًا: «أتركوه وشأنه، وفي كلّ مرّة تردّون عليه، تمنحوه المزيد من الفرص كي يفوز بالاستفتاء الخاص بالصلاحيات الرئاسيّة».

 

حروب وجبهات
يمتطي أردوغان جواد المعركة، أمام كلّ استحقاق دستوري، ويقتحم حلبة المواجهة، وسط «بروباغندا» إعلاميّة لا مثيل لها، رافعًا راية التصعيد، ليستنفر الشارع التركي، ويدفع بالناخبين إلى «التدافش» أمام صناديق الاقتراع، تعبيرًا عن عميق الولاء.
يخوض حروبًا مثيرة على جبهات ثلاث: الاتحاد الأوروبي، سوريا، والأكراد.
يحاول «التلّهي» بأوراق ثلاث: إتفاق الشراكة، واتفاق الأطلسي، واتفاق النزوح.
حاول أن يلعب دورًا إقليميًّا، بعد أن خذله الأوروبيّون، فلا نجح هنا، ولا تمكّن من تجاوز وعكة «عسر الهضم» هناك. وفي عزّ أزمته مع هولندا، خرج رئيس حزب الحريّة اليميني الهولندي المتطرّف غيرت فيلدرز ليقول: «عندما يدوّي الصوت وترفع الستارة، يظهر على المسرح الأوروبي مشاغبان، الأول من الشرق، التركي رجب الطيب أردوغان، والثاني من الغرب، الأميركي دونالد ترامب. الأول يريد الشراكة بالمواصفات التي يقررها، والثاني يريد الحلف الأطلسي، وبالمواصفات التي يمليها، والنتيجة أنّ الاتحاد الأوروبي عالق ما بين المطرقة الأردوغانيّة، والسندان الترامبي؟!».

 

تصويب على الأطلسي
فتح جبهة مع الغرب لاستنفار مواطنيه المنتشرين في دول الاتحاد الأوروبي. أراد أن يصيب أهدافًا ثلاثة: الفوز بالاستفتاء حول الصلاحيات الرئاسيّة، انتقاد المماطلة في مفاوضات الشراكة، والتصويب على الحلف الأطلسي. كانت الرمية الأولى على الأخير من الرئيس ترامب، عندما هددّ وتوعّد بفكفكته.
تقول ريكاردا شتينباخ، مديرة النصب التذكاري الذي رفع يومًا في برلين: «اليوم، يبدو المشهد سلميًا في «فجوة فولدا» الألمانيّة. لكنّه لم يكن كذلك على مدى حوالى 40 عامًا، خلال ذروة الحرب الباردة. كان ساحة لمعركة محتملة، لحرب عالمية ثالثة، إنه مشهد «فجوة فولدا»، والتي تسمّى «نقطة ألفا»».
تضيف: «هنا، إنّنا في أهم نقطة في التاريخ الألماني، في التاريخ الأوروبي، هنا، في هذه النقطة تمركزت قوات الحدود العسكريّة وجهًا لوجه. المسافة الفاصلة بين قوات الحلف الأطلسي، وقوات حلف وارسو، كانت مترين فقط. هنا في هذه النقطة».
تتابع: «الخوف الرئيس كان في غزو القوات السوفياتية ألمانيا الغربيّة، وردّ قوات الحلف الأطلسي التي يبلغ عددها 400 ألف عسكري. التهديد الأكبر كان استخدام الأسلحة النووية التي كانت ستدمّر ليس ألمانيا فحسب، بل أوروبا الغربيّة بأكملها. هذا لم يحدث أبدًا، لكن بعد 27 عامًا تقريبًا على انهيار الستار الحديدي، هذا النصب التذكاري يذكّر بالوجود الأميركي آنذاك... جيش الولايات المتّحدة المستعد للدفاع عن أوروبا».
كانت رينات شتيبر ضابطة في الشؤون العامة مع القوى الأميركيّة لمدة 24 عامًا آنذاك، كانت تأتي إلى هنا، إلى النصب يوميًا. سألتها الصحافيّة فاليري زابرسكي من فضائية «يورو نيوز»: بماذا يذكّرك المجيء إلى هنا؟ أجابت رينات شتيبر: هذا يذكّرني بواجب الجنود الأميركييّن هنا، في البرج مثلًا، كانوا يراقبون المنطقة على مدى 24 ساعة. لقد ساهموا بجلب السلام والحريّة لنا. طالما كانوا هنا الشعب الغربي كان يستطيع أن يغمض عينيه في الليل. الآن العالم لا يستطيع أن يغمض عينيه لأنه ينظر إلى دونالد ترامب الرجل الذي قال علنًا «أوروبا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لضمان أمنها». قال أيضًا: «سأعود للتحدّث مطوّلًا عن منظمة حلف شمال الأطلسي، عن حقيقة أنّ العديد من الدول لا تتحمّل المسؤوليّة. إنّنا نتولّى حمايتها، إنّها تحصل على كلّ أنواع الحماية العسكريّة على حساب الولايات المتّحدة، على حسابكم، أرفض هذا، إمّا أن تدفع حصّتها، بما في ذلك العجز السابق، أو تخرج. وإذا كان لا بدّ من تفكيك حلف شمال الأطلسي، فليتفكك؟!».
بالنسبة الى ترامب، حان وقت الثأر، آن الأوان لتدفع أوروبا جميع السنوات التي وقفت فيها الولايات المتّحدة بجانبها خلال الحرب الباردة. ووفق ترامب، أربع دول فقط من أصل الـ28 دولة عضو في حلف الناتو تدفع الاثنين في المئة من الناتج المحلّي الاجمالي، المخصّصة للدفاع.
إذا كان هذا هو رأي الرئيس ترامب، فما هو رأي الرئيس أردوغان في الموضوع؟

 

المطرقة التركيّة... والسندان الأميركي
توتّرت علاقات تركيا مع أوروبا، والولايات المتّحدة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف تموز 2016. وكانت مضبطة الاتهام جاهزة. وجّهت أنقرة أصابعها أولًا إلى المخابرات الأوروبيّة «كانت على علمٍ مسبق بالمحاولة، كما أنّ دولًا سهّلت فرار العديد من الانقلابيين إليها». والاتهام الأبرز كان من نصيب الولايات المتّحدة التي تحمي «العقل المخطط لمحاولة الانقلاب، فتح الله غولن – كما يتّهمه أردوغان - والذي يعيش في منفاه الاختياري في بنسلفانيا منذ العام 1999». لكن، لا أوروبا اهتزّت، ولا الولايات المتّحدة تأثّرت، فقرر أردوغان الرهان على خيارات ثلاثة:
- أن يترك ظهره للغرب قاصدًا موسكو لينسج علاقات تحالفيّة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.
- أن يضرب على الوتر الحسّاس في اتفاق الحدّ من النزوح مع الاتحاد الأوروبي.
- أن يستفزّ الحلف الأطلسي من خلال اللعب بمصير قاعدة إنجرليك الجوية التي تعتبر قاعدة استراتيجيّة وفق تقييم «الناتو». لقد هدّد بإغلاقها، ولا يزال. وصعّد ويصعّد انتقاداته للأميركييّن والغرب في مؤشّر إلى وجود انقسامات عميقة بين أعضاء الحلف الأطلسي.
وقد قالت القنصليّة الأميركيّة في أضنة في رسالة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة: «إنّ السلطات المحليّة التركيّة ترفض السماح بالدخول أو الخروج من قاعدة إنجرليك الجويّة التي تمّ كذلك قطع الكهرباء عنها».

 

الردّ الأوروبي
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، انعكس التوتر على عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، «سياسة فوقيّة، مفعمة بجنون العظمة؟!».
طرح الرئيس التركي، ولا يزال، في العديد من المناسبات العامة: «هل علينا مواصلة المفاوضات، أو وضع حدّ لها؟»، متهمًا أوروبا بأنّها «لا تريد انضمام تركيا إليها لأنّها دولة ذات غالبية من المسلمين». ويسأل الاتحاد الأوروبي: «لماذا تماطلون إلى هذا الحدّ؟» معبّرًا بذلك عن إحباط أنقرة أمام العملية المستمرة منذ سنوات.
برلين ردّت على هذه المواقف بالقول: «إنّه لم يعد هناك أساس تقوم عليه المناقشات، وإننا نتحدّث مع بعضنا مثل طرفين قادمين من كوكبين مختلفين»، فيما اقترح المستشار النمساوي وقف المحادثات بشأن عضوية تركيا إلى الاتحاد.
وكانت تركيا قد تقدّمت بطلب العضوية في العام 1987، وهي تقود مفاوضات عسيرة منذ العام 2005، إلاّ أن ملفّها يحفل بالمسائل الشائكة، ولا يثير حماسة الدول الرئيسيّة الأعضاء في الاتحاد.

 

المسألة الكرديّة
قبل أن يعود أردوغان من صراعه على الجبهة الأوروبيّة – الأطلسيّة، بقيت جبهاته الداخليّة مفتوحة ليس مع فلول الانقلابييّن، بل وأيضًا مع الأكراد.
منذ تموز 2016، لا يكاد يمرّ يوم في تركيا من دون ورود أخبار عن سقوط قتلى بين أفراد الجيش أو الشرطة أو المسلحين الأكراد في مناطق الجنوب الشرقي، أو تفجير لغمٍ أرضي، أو سيارة انتحاريّة في إحدى المدن، أو غارات تركية على معسكرات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل شمال العراق.
هذه الصورة مختلفة كليًّا عن حالة التهدئة التي سادت بين الدولة التركيّة وحزب العمال الكردستاني بين العامين 2013 و2015، عندما نقض حزب العمال الهدنة، واستأنف العمليات العسكريّة، بعد انتخابات حزيران 2015 التي أفقدت حزب العدالة والتنمية غالبيته البرلمانية، للمرّة الأولى منذ العام 2002.
وفاقمت الجبهة الجديدة التي فتحها أردوغان في الداخل السوري من تعقيدات الوضع، مع بروز تطوّرين مهمّين:
الأول: تفعيل عدد من المنظّمات اليسارية الهامشية التي بقيت على مدى سنوات طويلة غائبة عن الفعل والإعلام في تركيا.
الثاني: الإعلان عن تشكيل ما سميّ بـ«حركة الثورة المتّحدة للشعوب» من عدّة فصائل يساريّة مسلّحة في مقدمها حزب العمّال الكردستاني، والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني، وتنسيقيّة الثوّار البروليتارييّن وغيرهم، لمواجهة النظام، وحزب العدالة والتنمية.

 

كردستان
تناول الباحث في مركز الدراسات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التركي سيتا ميريام يانيك، الأسباب التي دفعت حزب العمال الكردستاني إلى الانقلاب على عملية السلام عقب انتخابات السابع من حزيران 2015، فقال: «مع التطوّرات في سوريا والعراق، بدأت تركيا تشعر بالقلق من احتمالات تحقيق مشروع «كردستان الكبرى»، ولا سيما مع بدء نشاط منظّمة حزب العمّال الكردستاني لفرض سيطرتها على مناطق في شرق تركيا، وجنوب شرقها، بالقوّة، ونصب حواجز، وحفر خنادق، لتكريس سلطتها في هذه المناطق».
وبحسب يانيك، فإنّ الحديث عن إقامة كيان فيدرالي كردي في سوريا إلى جانب إقليم كردستان في العراق، والذي يتمتّع بحكم ذاتي، هو من النقاط الأساسيّة التي أقلقت تركيا.
واستطرد شارحًا: «إنّ السيادة المحوريّة الكرديّة التي تحقّقت في إطار عمليات كوباني (عين العرب)، و«ثورة روج آفا» شمال محافظتي الحسكة والرقّة في سوريا، والدعم الأميركي والروسي لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا، وذراعه العسكريّة ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكرديّة، وكذلك التعاطف العالمي الضخم تجاه النجاح الذي حقّقه المقاتلون الأكراد ضد تنظيم «داعش» الإرهابي... كلّها كانت عوامل حفّزت حزب العمال الكردستاني لقلب طاولة الحوار، والعودة إلى السلاح في تركيا لإعلان الاستقلال في الوقت المناسب».
لقد بدا من خلال التطوّرات الأخيرة، مدى حالة القلق التي تنتاب صنّاع القرار في تركيا من احتمالات أن تؤدي الامتدادات التي تحظى بها منظّمة حزب العمال الكردستاني في العراق وسوريا وإيران إلى توحيد مناطق الكثافة الكرديّة في البلدان الثلاثة. وهذا ما دفع بقمّة السلطة في تركيا إلى حالة من الارتباك في التعامل مع ملف المسألة الكرديّة داخليًّا. فأطلقت القوات المسلّحة، وقوات الأمن التركيّة عملية عسكريّة موسّعة منذ 17 كانون الأول 2015 للقضاء على عناصر حزب العمال الكردستاني المتحصّنة داخل بعض المدن التركيّة، وإزالة مظاهر «الحكم الذاتي» التي سعت المنظّمة لتثبيتها داخل أحياء بعض البلدات الكبيرة.

 

سوريا
شكّل هذا الهاجس دافعًا إضافيًا حضّ أردوغان على فتح جبهة في الداخل السوري، و«الاستثمار» بها. قالها بكل صراحة ووضوح: «أريد منطقة آمنة، مستقّرة خالية من المتطرّفين في سوريا، أريد بالمقابل أن تحلّ مكان «داعش» مجموعات موالية لأنقرة؟!». وأكدّ في أكثر من مناسبة دعم تركيا اللوجستي للعديد من فصائل المعارضة السوريّة، كما طرح خطة استراتيجيّة لإحداث التغيير عن طريق إقامة منطقة حظر جوّي في الجانب السوري، بالتعاون مع طيران التحالف، على غرار مناطق الحظر التي أقيمت في جنوب العراق وشماله، لمنع أي طيران حربي سوري من الاقتراب منها، أو اختراقها، لكن الحسابات الأميركيّة – الدوليّة جاءت مغايرة، ومتعارضة تمامًا مع طموحاته.
حاول التدخّل عسكريًا في البرّ والجوّ كي يحقّق أهدافًا أربعة: إسقاط النظام، السيطرة على «داعش»، إقامة «المنطقة الآمنة» في العمق السوري، ومنع إقامة الحزام الأرضي الكردي الممتدّ على الحدود التركيّة – السوريّة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب السوري، إلاّ أنّ الأميركي والروسي والإيراني كانوا له بالمرصاد.
وعندما أصبح جيشه على تخوم مدينة الباب، تقدّم بعروض جديدة منها: إقامة حكومة جديدة، وتقوية المعارضة السوريّة بعد إعادة غربلتها، وتدريب وحدات عسكريّة جديدة في تركيا، وبعض دول الإقليم يتمّ اختيارها بعناية، ووفق معايير متكاملة، على أن تكون نواة الجيش السوري الجديد، فضلًا عن إضعاف المكوّنات الكردية السوريّة، ومنعها من استحداث إقليم خاص، على غرار الإقليم الكردستاني في العراق.
لم يكن الأميركي يقرأ مع التركي في كتاب واحد. حصل ذلك في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما عندما عرّى الأوهام التركيّة من حقائقها، ومنع أردوغان من إقامة المنطقة العازلة على طول الحدود التركيّة – السوريّة، كما منعه من قيام منطقة حظر جوّي في سوريا، وفق المواصفات والطموحات الأردوغانيّة. وحصل ذلك أيضًا مع إدارة ترامب التي منعت قوات «درع الفرات» من التقدّم من مدينة الباب إلى منبج، ومنها إلى الرقّة، وتركت شرف المواجهة للقوّات الكرديّة مدعومة بـ400 عنصر من القوات الأميركيّة الخاصة «مارينز»، ودعم معنوي ولوجستي غير مسبوق؟!.
مع حلول نيسان، وتتفتّح أكمام شقائق النعمان في البستان التركي، ينصرف الرئيس أردوغان لاحتساب فوائد معاركه في صندوقة الاقتراع، وتعداد الأصوات المؤيدة للصلاحيات الرئاسيّة، والتمعّن بالنتائج، واستخلاص العبر... إنه يريد «السلطان»، وعندما يصبح... يفكّر بأمور السلطنة... وكيف يعود من المعارك المفتوحة بما يحفظ ماء الوجه؟!...