رحلة في الإنسان

ماذا يعرف التعرف الى الذات؟
إعداد: غريس فرح

من أنا؟ سؤال يبدو في غاية البساطة، لكنه في الواقع يضعنا تحت مجهر التقييم الذاتي، ويكشف عن خبايا مشاعرنا وتحّركاتنا. ومن دون الجواب عليه، نظل مفتقرين إلى البوصلة الداخليّة التي تسيّر أقدامنا على دروب الحياة، فتبقى قراراتنا إعتباطيّة، وعلاقاتنا محبوكة بخيوط هشة.
الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى خلوة مع النفس يتم من خلالها تفحّص الأفكار والمشاعر، بالإضافة إلى مراقبة التفاعل الإجتماعي اليومي، وردّات الفعل التي يوّلدها على أكثر من صعيد. وهذا يتم من خلال حوافز تغّذيها مقتضيات التعرّف إلى الذات وتحديد الهوية.
ما هي هذه الحوافز، وماذا تعنيه معرفة الذات؟


الميل إلى التميّز عن الغير
بحسب الباحثين، إن أهم القوى الدافعة وراء السعي إلى معرفة الذات، هي الميل إلى الخصوصيّة، أو التميّز عن الغير. والدراسات الأخيرة في هذا المجال أكّدت أن كلًا منا يسعى إلى التميّز عن سواه بنسب مختلفة. فهنالك مثلاً من يشعر بالراحة بين أشخاص يقاسمونه الأهواء والميول، وهنالك من يرتاح لشعوره بالاستقلال التام في مجتمعه. أما الأكثرية فتميل إلى الحلّ الوسط، أي السعي إلى الاندماج مع الاحتفاظ بخصوصيّة مميّزة.
والمعروف أن الميل الفطري إلى تمييز الذات عن الغير، يؤدي دورًا بالغ الأهمية على جميع الأصعدة. فهو يؤثر في القرارات الشخصية، كشراء الحاجيات الخاصة مثلاً، أو طريقة تصفيف الشعر ونوعية اللباس وسواها من القرارات. إلى ذلك، فهو يعتبر أحد أهم الحوافز المفجّرة للإبداع. والدليل، مجموعات العلماء والفنانين الذين تميّزوا بشخصياتهم الخارجة عن المألوف ومنهم على سبيل المثال: العالم ألبرت أنشتاين الذي لمعت مواهبه بعدما ترك العمل الجماعي، واتجه إلى الاستقلالية. وكذلك العالمة ماري كوري التي لولا تخطّيها حواجز التقاليد التي قيّدت بنات جنسها في عصرها، لما تمكّن العالم من الاستمتاع بعطاءاتها.

 

التميّز مقابل الانصهار
على كلٍ، إن الدراسات النفسيّة تناولت من مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، حاجة الإنسان إلى تمييز نفسه عن الغير، مقابل حاجته إلى الانصهار في محيطه الاجتماعي.
الاختلافات التي أبرزتها النتائج أشارت إلى عوامل بالغة الأهميّة وراء تجذّر الدوافع المشار إليها، مؤكدة ارتباطها بالمحيط الاجتماعي. وهذا يعني أن تركيبة المجتمع التي يفرض على مطلق شخص العيش ضمنها، تحدّد نسبة ميله إلى التميّز أو الانصهار. وهذا يحصل نتيجة التفاعل بين الذات والغير، وما ينجم عنها من ردّات فعل ترسم خطوط الشخصيّة على المدى البعيد.
وهنا تشير الدراسات إلى أن التائقين إلى التميّز يتّسمون عمومًا بالجرأة والانفتاح والاعتداد بالنفس. هذا بالإضافة إلى كونهم متفائلين ودائمي الاستعداد لخوض تجارب جديدة. والمعروف أيضًا أن هذه الفئة من الناس لا تهتم بآراء الغير، وعمومًا هي تتّجه إلى العمل المبدع أكثر من سواها.

 

الإبداع والأوضاع الضاغطة
لا بد من الإشارة هنا إلى دراسة نشرتها مجلّة العلوم الأميركية عن علاقة التميّز والإبداع بالأوضاع الحياتيّة الضاغطة. فهذه الدراسة أوردت وقائع تتعلّق بشخصيات معروفة، تمكّنت على أثر مواجهتها الأحداث المؤلمة من تحقيق النمو الإبداعي.
على كلٍ، فهذه النظرية لا تنطبق على الجميع، بل تنحصر، بحسب الباحثين بالأشخاص المتميّزين الذين سبق وأشرنا إلى صفاتهم، وفي مقدمها، الاستعداد لخوض التجارب. أما السبب فيعود إلى أن هؤلاء يملكون الحس المسبق بالأحداث الأمر الذي يدفعهم إلى مواجهتها بغرابة قد لا يستوعبها العقل. ومن هنا تدفّق إبداعهم.

 

تأثير الثقافة الاجتماعية
لا ينسى الباحثون دور الثقافة الاجتماعية في تحفيز حاجة الفرد إلى التميّز الذاتي، أو دفعه إلى الانصهار في بوتقة الجماعة.
فالثقافة التي تنادي باستقلالية الفرد وحريته، تدحض نتيجة توجهاتها، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء أجيالٍ تتمتع بشخصيات مستقلة ومتميّزة. والمثال على ذلك المجتمع الأميركي وسواه من المجتمعات التي تشدد على أهميّة الحريّة الفردية. هذا بعكس المجتمعات التي تشجع الأفراد على نضال من أجل أهداف مشتركة، بحيث تصبح الحاجة إلى التميّز آفة تهدد مصير الجماعة.
هذا يعني أن الدول التي تشدد على الحريّة الفردية، تحظى عمومًا بمواطنين منفتحين وأكثر ميلاً إلى تنميّة شخصياتهم من مواطني الدول المؤمنة بالمصلحة الجماعية. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن الميل إلى تمييز الذات يرتبط عمومًا بالإبداع، يصبح من البديهي القول إن الإبداع يرتبط مباشرة بالتربية الاجتماعية المرتكزة على الحريّة الفردية.
ينتقد البعض هذه النظرية لاعتقاده بأن حريّة الفرد تمنع الدولة من استثمار العقول المبدعة في عمل جماعي يخدم المصلحة العامّة. بتعبير آخر فإن حقّ الفرد يلغي حقّ الجماعة، ويخالف المنطق الذي يؤمن بضرورة العمل ضمن فريق متناغم من أجل هدف موحّد. وهذا ينطبق، بحسب الباحثين، على دول العالم الثالث التي تربط ما بين ضرورة الإنصهار الجماعي وتحقيق وحدة المجتمع، الأمر الذي يخنق الاستقلالية والعمل المبدع.
هذه النظرية ليست مستحدثة، بل قائمة على دراسات أجراها خبراء اقتصاد عالميون، أثبتوا من خلالها، أهمية تشجيع العمل الفردي واستثماره في خدمة المجتم ككل.
وقد استغلت بعض الدول هذه النظرية إلى الحّد الأقصى، الأمر الذي دفع مواطنيها إلى الجهاد من أجل تحقيق الأهداف باستقلالية حرّكت فيهم مكامن الإبداع. مع ذلك، لم ينسَ كثيرون أننا كبشر قد تطوّرنا ضمن جماعات مكّنتنا من معايشة أصعب ظروف الحياة، وأمّنت صمودنا وبقاءنا عبر العصور.
هذا يعني أن الإنسان على الرغم من ميله إلى تفعيل طاقاته الذاتية الكامنة، مرغم على العيش في مجتمع يؤمن حمايته، ويتقاسم في ظله مع الغير، موارد العيش والإنتماء والهوية.
ويعيدنا هذا التناقض في الرؤية إلى ما سبق وأشرنا إليه، وهو اضطرارنا إلى معايشة واقع يجمع ما بين قوّتين مختلفتين تتكاملان بهدف صياغة الهوية البشرية.
فالسعي إلى معرفة الذات عبر التعّمق في الخصوصيّة الفردية، لا يلغي الحاجة إلى العيش المشترك. وبالرغم من كل الحواجز، يبقى التوق إلى التفّوق والبروز، القوّة الدافعة التي تمكّن الإنسان من سبر أعماق ذاته، ومتابعة المسيرة.