كلمات ليست كالكلمات

مارلون براندو: عملاق ضد العنصرية
إعداد: العميد الركن الياس فرحات
مدير التوجيه

 

غاب عملاق اميركا والعالم: الممثل الانسان والفنان الانساني الكبير مارلون براندو، وعسى أن لا تغيب معه تلك المبادئ والمثل التي رافقت حياته الفنية. كان براندو كبيراً في فنه، معطاء في إنسانيته، لم ينجرف في تيارات الانتاج التجاري وعقليته الذكية على حساب القيم. كان صامداً في وجه عواصف عاتية طالما هبت في "هوليود" عاصمة السينما العالمية، واسهمت في تكوين رأي عام ظالم وفي طمس حقائق وإبراز أوهام. لقد كانت السينما الاميركية تروّج لمقولة تخلّف الهنود الحمر، وتشوه صورتهم في اذهان البشرية جمعاء وتشبههم بالحيوانات. هذه الصورة سرعان ما أدخلت في أذهان الناس الذين أُخذوا بالفن السينمائي وأحبوا افلام الـ "WESTERN" بأن مطاردة الهنود الحمر أمر طبيعي، من هنا، فإن قلائل في العالم هم من يصدقون بأن الهنود الحمر شعب متحضر مسالم، يعيش في أرضه ويأكل من خيراتها. وحده مارلون براندو كان الصوت الانساني الذي تصدى للمواقف العنصرية ضد هؤلاء، والذي رفض جائزة ال"اوسكار" التي طالما حلم بها كل من عمل في صناعة السينما واحترفها. وسبب رفضه تلك الجائزة هو أن السينما الاميركية شوهت حقيقة الهنود الحمر، وهي تشوّه حقيقة المواطنين السود الذين استقدموا من افريقيا، والذين طالب براندو بتحريرهم من نير العبودية والاستغلال. هذه السينما، إضافة إلى أنها طمست إبادة الهنود الحمر وعتمت على استبعاد السود فهي تسهم من جهة اخرى في خلق صورة الصهيونية المظلومة، وفي تكبير حجم ما عرف بمحرقة "هولوكوست" ضد اليهود، وفي إظهار صورة العربي متخلفاً لا يستحق ثروته ولا موقع أرضه. وهذه السينما كانت ولا زالت ميداناً سياسياً ­ وليس فنياً فقط ­ بامتياز يتم فيه غرس بذو ر الحقد والكره، والاستخفاف بالشعوب، وخلق قضايا من الأوهام. إن افلام "هوليود" ومسلسلاتها أظهرت اليهودي منكوباً مطلوباً ملاحقاً، وجمعت عواطف الناس حول قضيته، وهي نفسها تتجاهل عنصرية إسرائيل وعدوانها وهمجيتها، كما أنها تتصدى للثقافة العربية في إبراز مظاهر الفساد والقصور والحريم فيها، وتغييب فنون العمارة والأدب والشعر التي ما زالت صامدة حتى اليوم رغم كل المتغيرات. وحده مارلون براندو هو من أطلق الصرخة المدوية ضد هذه العنصرية، ولولا صرخته وصرخات من يشبهه، لتحول العالم إلى قطيع يسوقه راعٍ عنصري مجنون يفرض ما يناسبه من آراء. لقد كان لفيلم "الاميركي البشع" (The Ugly American)

فضل لا بأس به في إنهاء الحرب الأميركية ضد فيتنام عبر استثارة الرأي الحر في اميركا، وتوضيح الرؤية أمام الشعب الاميركي. وكان مارلون براندو كبيراً ورائعاً حين وظف الاموال التي جناها من افلامه العظيمة في خدمـة الهـنود الحـمر وقضايا حركـات السـود في اميركا. كان يصر على أن لا يشارك في أي فـيلم لا يعـبر عن طموحاته، وكم كان عظيماً حين أُبلِـغ بمـنحه جـائزة "أوسكار" عن فيلم "العـراب"، فأرسـل هـندية حمراء لتـعِلم الهيئة المشـرفة على الجائزة، وأمـام كل الحاضـرين بأنـه يرفـض هذه الجـائزة، ولتـقرأ رسالة منه يدين فيـها "هوليود" التي أسهـمت في تشويه صورة الهنود الحمر. وكان للمخرج التونسي رضا الباهي آخر حكاية مع براندو، إذ قابله واتفق معه على انتاج فيلم عن الانتفاضة الفلسطينية، والظلم اللاحق بالفلسطينيين، وسمع منه كلاماً شبّه فيه حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بتلك التي قام بها بعض الاميركيين ضد الهنود الحمر. وتحدث عن محاربة الصهاينة له في "هوليود" بسبب موقفه ذاك (لكن الفيلم لم يتم انتاجه مع الأسف).

 مارلون براندو رحل عن ثمانين عاماً وما زال صوته مدوياً في عالم السينما وفي مجاهل "هوليود" لقد كان عملاقاً في الفن، وعملاقاً ضد العنصرية.