ملف العدد

مافيات عالمية تستثمر آلام الناس لتحقيق أرباح خيالية
إعداد: جان دارك أبي ياغي

وجه من وجوه الإتجار بالبشر وجريمة تعاقب عليها القوانين وتحرّمها الأديان
بيع الأعضاء البشرية

مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي دخلت زراعة الأعضاء البشرية حيّز التطبيق الآمن. وبذلك التقت المبادرات الإنسانية النبيلة مع الجهود الطبية الحثيثة، لتقدم أملاً للكثير من اليائسين، ولتزرع الحياة في أجساد توشك على الموت. لكن في موازاة عملية وهب الأعضاء البشرية، وفي ظلها، نمت عمليات إجرامية سوداء اتخذت من آلام الناس وأمراضهم وسيلة لتحقيق الأرباح عبر التجارة بالأعضاء البشرية. فمقابل إنسان يتألم من المرض ثمة آخرون يتألمون من الفقر والجوع والتشرّد... وبين الطرفين مافيات تأخذ من هذا لتعطي ذاك محققة أرباحًا خيالية.
تجارة الأعضاء البشرية، وجه من وجوه الاتجار بالبشر، وجريمة تعاقب عليها القوانين العالمية والمحلية، وتحرّمها الأديان، لكنّ المجرمين كثر والضحايا أيضًا.

 

نشأة تجارة الأعضاء البشرية
ترجع نشأة تجارة الأعضاء البشرية إلى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين حيث تخطت زراعة الأعضاء مرحلة التجارب إلى مرحلة التطبيق الآمن خصوصًا بعد العام 1970. فمع نجاح الطب في إنقاذ أناس كثيرين عبر زراعة الأعضاء التي يؤتى بها من متبرعين، نشطت عمليات بيع الأعضاء، خصوصًا أن الحاجة إلى هذه الأعضاء هي أكبر مما تؤمنه عمليات الوهب من أحياء أو من أشخاص توفوا حديثًا.
إن بيع العضو البشري في أثناء الحياة أو بعد الوفاة باطل قانونًا لمخالفته قواعد النظام العام والآداب العامة. ويعتبر بيع الدم البشري أو الكلية أو القرنية مثلاً، عملاً غير أخلاقي يرفضه الوجدان العام مهما كانت دوافعه، كما أن إباحة تجارة الأعضاء البشرية يحوّل الإنسان من مخلوق كرّمه الله، إلى سلعة تجارية تخضع لسوق العرض والطلب، وهذا ما لا يجوز دينًا وأخلاقًا وقانونًا.
والاتجار بالأعضاء البشرية هو كل عملية تتم بغرض بيع أو شراء للأنسجة أو عضو أو أكثر من الأعضاء البشرية، وهي تجارة حديثة بالمقارنة بتجارة الأشخاص. أما التبرّع بدون مقابل فلا يُعد من أعمال التجارة في الأنسجة أو الأعضاء البشرية، بل انه يعتبر من الأعمال الخيّرة ذات الدوافع النبيلة.

 

الأسباب التي تقف وراء زيادة الإتجار وبيع الأعضاء البشرية
تتضافر أسباب عديدة لتجعل من أعضاء الإنسان سلعًا تجارية وأبرز هذه الأسباب وفق دراسة للدكتور مراد زريقات ( جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية السعودية) هي ما يلي:
- الحاجة المالية إلى ثمن العضو الذي يتم التبرّع به نتيجة الأوضاع الإقتصادية السيئة لبعض المجتمعات، مما يدفع البعض إلى بيع أعضاء من أجسادهم بسبب الحاجة.
- اتساع نشاط الجريمة المنظمة ودوره في تطور هذه التجارة ونموها، حيث يستغل هذا المجال الجديد لتحقيق أرباح هائلة، كما جاء في تقرير اللجنة البرلمانية السويسرية الموجه إلى الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي. ففي حين يدفع طالبو الأعضاء 100 إلى 200 ألف دولار أمريكي لقاء عضو ما، يتقاضى البائع 3000 دولار فقط ثمنًا لكليته.
- من المؤكد أن عملية النقل بين الأشخاص الذين لا تربطهم صلة قرابة تتم في سرية تامة، كما أنه لا توجد أرقام حقيقية أو تحريات يمكن الإستناد إليها لتطبيق القوانين على المخالفين. وفي سبيل تخطي المشاكل الأمنية قد يلجأ السماسرة إلى إجبار المتطوّعين على التوجه إلى خارج دولهم لإجراء الجراحة، وبذلك يتهرب السماسرة من المسؤولية القانونية.
- التقدم الطبي العلمي والتقني وما حققه من إنجازات في نقل الأعضاء البشرية وزراعتها.
- تعدّد الأمراض وتنوعها وانتشارها وزيادة أعداد المرضى المحتاجين للأعضاء في أنحاء العالم.
- عدم وجود أنظمة أو قوانين كافية تنظم عملية زرع الأعضاء في بعض البلدان أو عدم تجريمها في بعض البلدان الأخرى، وغياب الضبط الاجتماعي الرسمي والخاص لمكافحتها.
- عدم وجود رقابة صارمة على العاملين في مهنة الطب مما يتيح مجال التلاعب بهذه الأعضاء سواء بنزعها أو بنقلها.
- كثرة عدد الأطفال غير الشرعيين وأطفال الشوارع مما يجعلهم عرضة للخطف والسرقة، وبالتالي سرقة أعضائهم.
- عدم وجود بدائل صناعية لبعض أعضاء جسم الإنسان الأمر الذي جعل من استمرار حياة بعض الناس من الصعوبة بمكان.
- ضعف الوازع الإجتماعي والديني والأخلاقي لدى بعض فئات أفراد المجتمع.
- وجود بعض الإكتشافات العلمية التي تسهل عملية المتاجرة، كالثلج الجاف الذي يمكن أن يحفظ الأعضاء البشرية لفترة طويلة من الزمن.

 

عرض وطلب وأسواق
تعدّ هذه الأسباب موطن الخطورة في قضية الإتجار بالأعضاء البشرية حيث تحولت بعض المدن إلى أسواق لعرض الأعضاء البشرية وبيعها. ويؤكد ذلك تقرير لجنة الأخلاق التابعة لجمعية زراعة الأعضاء الدولية الذي كشف عن أن الغالبية العظمى من عمليات نقل الكلى منذ بداية إجرائها في مصر وحتى اليوم تتم عن طريق البيع والشراء. وقد اتسعت هذه التجارة حتى تحولت القاهرة إلى سوق دولي لبيع الكلى من الفقراء المصريين إلى الأثرياء العرب أو المصريين، وأصبحت هذه الحقيقة معروفة وثابتة في جميع الأبحاث التي تناولت القضية، بالإضافة إلى ارتفاع عدد بلاغات المتغيبين والمفقودين، والمخالفات ذات الصلة بمراعاة الأصول الطبية.

 

سوق إلكترونية سوداء
نظرًا الى طبيعة جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية وخصائصها، يتم الكثير من عمليات البيع عبر الإنترنت، فقد شهدت شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) خلال العامين الماضيين سوقًا سوداء إلكترونية لعصابات مافيا الأعضاء البشرية حيث قدمت بعض الشركات مزادات على الانترنت للأعضاء البشرية السليمة يطرح فيها للبيع كل شيء بدءًا من القلوب إلى الكلى والكبد، الدم، والنخاع حتى الجلد والشعر والسائل المنوي، وذلك بأسعار تنافسية.
من المؤكد حاليًا زيادة عدد حالات الاتجار في الأعضاء البشرية إلا أنه لا يمكن الوصول إلى المعلومات الحقيقية عن هذا العدد وذلك لمجموعة أسباب أهمها:
- الطبيعة السرية التي تتم فيها عملية التوسط في النقل من خلال الشبكات الإجرامية المنظمة.
- الإفتقار إلى التحريات الكافية والتحقيقات ذات الصلة بالموضوع.
- الأوضاع الإقتصادية المتردية وارتفاع نسبة البطالة في كثير من الدول كما هو الحال في الهند، مصر ومنطقة البلقان خصوصًا سكان البوسنة وألبانيا، وحديثًا العراق وأفغانستان.
- الثغرات التشريعية في القوانين الوضعية حيث يتم تأمين وصول المتبرع إلى مكان إجراء الجراحة باعتباره سائحًا، فضلاً عن عدم وجود تشريعات تلزم المستشفيات تقديم إحصائيات عن عمليات نقل الأعضاء البشرية التي تتم فيها سواء من حيث النوعية أو العدد.
- حرص المتلقي على إتمام الصفقة بصفة سرية لإنقاذ حياته من الهلاك.
- امتناع بعض الحكومات عن حظر عمليات نقل الأعضاء أو التبرع بها حتى لا يكون للحظر نتائج عكسية على عمليات نقل الأعضاء التي قد تنقذ حياة المرضى أو تسهم في زيادة التقدم العلمي.
بالإنتقال إلى أهم العصابات الإجرامية والأشخاص المتورّطين في عملية الاتجار بالأعضاء البشرية، تفيد التقارير التي نشرتها بعض الصحف أن عصابات المافيا الدولية تلتقي فيما بينها لتحقيق أهدافها في مجال تجارة الأعضاء البشرية التي تمثل الدجاجة السحرية حيث تدر ما يقارب تسعة مليارات دولار سنويًا.
أما أخطر عصابات المافيا العالمية في تجارة الأعضاء البشرية وفق دراسة زريقات أيضًا، فهي: المافيا الفيتنامية، المافيا الروسية، المافيا المغربية، والمافيا اللبنانية.

 

حجم الجريمة: «الرقم المظلم»
من الصعوبة بمكان تحديد حجم ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية بشكل دقيق، نظرًا الى ما يكتنف هذا الموضوع من مشقة في بيان محدداته باعتباره من الموضوعات ذات «الرقم المظلم» والتي تحتاج إلى البيانات والإحصاءات الواضحة. ويعود ذلك إلى وجود نقص كبير في جمع البيانات والإحصاءات على المستوى الدولي نتيجة للاختلافات في تحديد الظاهرة، وفي حال توافر بعض الإحصاءات والبيانات لدى بعض الدول، فهي تظل غير مؤكدة، حيث أن جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية تعد من الجرائم الخفية التي لا يتم الكشف عنها. ويضاف إلى ذلك عدم توافر معلومات عن ضحايا الاتجار بالأعضاء البشرية، إلا في حالة استعدادهم للإدلاء بأقوالهم طواعية. فالضحية تواجه حالة من التردد الشديد للإبلاغ عما وقع لها خوفًا من تهديدات المتاجرين، أو الإهانات التي ستتعرض لها، أو خشية انقطاع المورد المالي، مع العلم أنه في الكثير من الأحيان يتم الإيقاع بالضحايا عبر إغرائهم بمبالغ طائلة لا يحصلون إلا على النذر اليسير منها.

 

رأي الأديان
يقول الدكتور عبدالله النجار (أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر) حول الاتجار بالأعضاء البشرية: لقد أجمع الفقهاء على تحريم ذلك الأمر لأن الإنسان وأعضاءه ملك لله وحده والاتجار فيها أو نزعها لا يجوز. بينما رأى العلماء جواز التبرع ولكن بشروط، فإذا كان التبرع بالمال صدقة لإنقاذ فقير أو مريض، فتبرع الإنسان ببعض أعضائه أمر محبب في الإسلام، حيث يعتبر هذا من ضمن إحياء النفس، يقول تعالى «من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا».
ويضيف: «الإنسان الذى يتبرع بأحد أعضائه يساهم بتبرعه هذا في إحياء نفس بشرية، ويعتبر هذا العمل من أعظم العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل».
كذلك الأمر بالنسبة إلى الكنيسة فهي تحرّم الاتجار وتشجع على وهب الأعضاء، وتدعو إلى عدم دفنها تحت التراب إذا كانت تستطيع أن تبقى حية في أجسام آخرين بحاجة لها (كقرنية عين أو قلب أو كلية أو أنسجة).
من هنا فإن بيع الأعضاء يتعارض والقيم والعادات والتقاليد الإجتماعية، وأحكام وتعاليم الديانات السماوية التي أضفت على الجسم الآدمي هالة من القدسية ولا يجوز ابتذاله بجعله يباع ويشترى لما في ذلك من إهدار كبير لكرامة الإنسان وانتهاك لحرمة كيانه الجسدي.

 

موقف المنظمات والجمعيات الدولية والإقليمية المعنية
لم تدّخر المنظمات والجمعيات الدولية والإقليمية المعنية، جهدًا في إصدار القرارات والتوصيات التي تؤكد ضرورة المحافظة على كرامة الإنسان وحرمة كيانه الجسدي، والحفاظ على طابع العمل الخيري للممارسات الطبية الحديثة في هذا المجال، والمناداة بضرورة درء أي شبهة إتجار بالأعضاء.
ولقد تواترت إدانة هذه المنظمات والجمعيات وحظرها لفكرة وجود مقابل مادي في عمليات نقل الأعضاء وزراعتها، بالإضافة إلى حظر أي إعلانات تنطوي على صبغة تجارية تدعو إلى التبرع بالأعضاء البشرية.
العام 1970 قررت لجنة الأخلاق التابعة لجمعية زراعة الأعضاء الدولية أنه» لا يجوز، ومحظور على المانح تلقي أي تعويض مادي، ولا يجوز بيع الأعضاء تحت أي ظرف، ويسري ذلك على الأعضاء المنقولة من شخص حي، أو تلك التي يتم الحصول عليها من أشخاص حديثي الوفاة».
والعام 1985 أصدر مجلس الجمعية نفسها توصياته بضرورة أن تكون عمليات نقل الأعضاء مبنية على أسس إنسانية محضة، وبناء على ذلك لا يجوز أن يتلقى المانح أي مقابل مادي لقاء العضو المتبرع به، وأوصى المجلس كذلك بضرورة حظر الإعلانات الخاصة بالتبرع بالأعضاء مقابل بدل مالي، وفرضت الجمعية في قرارها الصادر في هذا الشأن نوعًا من الجزاء التأديبي على أعضائها من الأطباء الذين ثبت اشتراكهم في إجراء عملية نقل وزراعة عضو ذات صبغة تجارية، ويتمثل الجزاء في حرمان الطبيب المشارك في هذا النوع من العمليات من عضوية المنظمة.
ومن ناحية أخرى أصدرت الجمعية الطبية العلمية توصياتها بحظر الاتجار بالأعضاء البشرية وذلك في اجتماعها السابع والثلاثين الذي عقد (1985) في بروكسل، وكذلك في اجتماعها التاسع والثلاثين (1987) في مدريد، حيث جاءت التوصيات الصادرة عن الاجتماعين في مجملهما مؤكدة لمبدأ مجانية نقل الأعضاء بين الأحياء، وكذلك حماية شعوب الدول النامية والذين تشكل أجساد فقرائهم أحد الموارد الرئيسية للحصول على الأعضاء، وبوجه خاص الكلى التي يتم نقلها إلى بعض دول العالم المتقدمة لزراعتها لطائفة الأثرياء من المرضى – وهذه التوصية تشكل اعترافًا بوجود إتجار منظم بالأعضاء البشرية عابر للحدود الوطنية.
والعام 1986 أصدرت الجمعية الأوروبية لزراعة الكلى قرارًا تضمن في فقرته الأولى أنه من غير المقبول ومن المنافي للأخلاق ومبادئ مهنة الطب، القيام بتشجيع الأشخاص على التبرع بالأعضاء عن طريق الضغط عليهم وإغوائهم بالوسائل المادية. وقد جاء في الفقرة الرابعة من هذا القرار أنه يجب على الأطباء المشاركين كافة في عمليات نقل الأعضاء وزراعتها أن يتأكدوا من عدم وجود مقابل مادي لقاء قيام المانح بالموافقة على نقل عضو من جسمه، حيث لا يجوز لهولاء الأطباء المشاركة في إجراء هذه العمليات طالما كانت تنطوي على بواعث مادية.