تحت الضوء

ما الذي نشهده اليوم حَراك، انتفاضة أم ثورة؟
إعداد: روجينا خليل الشختورة

يشهد لبنان اليوم تحرّكات احتجاجية تشمل مختلف المناطق، وفي حين يستخدم البعض كلمة حراك لوصف هذه الاحتجاجات يستخدم آخرون كلمة انتفاضة أو كلمة ثورة. أي من المصطلحات الثلاثة ينطبق على واقع ما يجري في لبنان؟ وكيف تنشأ الثورات ومتى تنجح ومتى تنزلق نحو الفوضى؟ عن هذه الأسئلة وسواها تجيبنا الاختصاصية في علم النفس السيدة جوليانا كنعان ديب.

 

بدايةً، عرّفت السيدة ديب ما يشهده لبنان اليوم بسابقة لم تمرّ عليه من قبل، لا من حيث السقف المطلبي ولا التنوّع الطائفي ولا المناطقية، ولا التشارك الحزبي، ولا الاستمرار الزمني ولا التنوّع العمري... وبالتالي فإنّ ما يحصل تخطى «الحَراك» و«التظاهرة» و«الانتفاضة» ليصبح أقرب إلى ما يُعرف بـ«الثورة» وفق رأيها.
وهي توضّح أنّ الحَراك هو الوضع الذي يشير إلى تحرّك عدد من الأفراد لهم المطالب نفسها ضمن جماعة واحدة، كمطلبٍ ضمن نقابة الأطباء مثلًا، أو مطلب لنقابة الأساتذة المتعاقدين...
أمّا التظاهرة فهي عندما يتحوّل الحَراك إلى مجموعة أكبر لكنّها محدّدة ولها أيضًا مطالب محدّدة وفي وقتٍ محدّد، كطلب المرأة منح الجنسية لأولادها مثلًا، وهو موضوع متشعّب طالبت فيه النساء من مختلف الفئات والجمعيات، غير أنّ أوجه النظر إليه كثيرة ما جعل كفّة الفشل في إقراره أكبر من النجاح في ذلك، وبالتالي انطفاء التظاهرة المطالبة فيه.
ولكن عندما تشمل الاحتجاجات مختلف المناطق ونكون أمام أعداد كبيرة ومطالب موحّدة، نصبح أمام انتفاضة. إذا استمرّت الانتفاضة ونجحت في تحقيق المطالب تحوّلت «ثورة» أمّا إذا فشلت وانطفأت، فهي تصبح مثل أي تظاهرة أخرى.
أمّا الثائر فهو من لم يعُد يملك شيئًا ليخاف من خسارته: لا وظيفة، لا طبابة، لا استشفاء، لا تعليم، لا كهرباء، لا ماء ولا حتى هواء...

 

العوامل النفسية في الثورات
مضمون الثورة الأساسي هو التغيير بالذهنية، أمّا السبب المؤدي لها فهو الاستبداد على أنواعه كاحتكار الحكم (توارث الحكم من الآباء إلى الأبناء)، وعدم توافر العدالة واستيلاء فئة محدّدة على مقدرات البلد ما يؤدي إلى إثرائها على حساب الشعب، وغيرها من المظاهر التي لا يعود باستطاعة المواطن السكوت عنها.
وتوضح السيدة ديب: الإحباط النفسي هو السبب الرئيس للثورات، فعندما يشتدّ الإحباط يتحوّل من اللافعل إلى الفعل وهذا يعود إلى التناقض بين ما يريده الإنسان فعلًا وبين الواقع الذي يعيشه (إنّه حق لي ولكنّه مسلوب!) والوعي الذي بات يتمتّع به المواطن اليوم وانفتاحه على الخارج من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ويشعره أنّ بإمكانه إدارة الدفّة هو أيضًا سبب أساسي. فقد أصبح المواطن واعيًا إلى كيفية تعامل المسؤولين باحترامٍ مع المواطنين في بلدانٍ أخرى مقارنةً مع المعاملة التي يلقاها في لبنان، وإلى التقديمات والخدمات المؤمنة لهم وهي من أدنى حقوقهم... ووصوله إلى نتيجة أنّ العالم كلّه بات أفضل منه زاد إحباطه وقلقه.
ولكن ليس الإحباط والقلق وحدهما السبب، بل هناك أيضًا التنافر العقلي المعرفي الذي يؤدي إلى عدم التوازن النفسي للشخص، أي أنّه يدرك أنّ الفرق شاسع بين ما يراه العقل سليمًا ومنطقيًا وبين الوضع القائم، ما يصيبه بالتوتّر بسبب الصراع الذي لم يعُد يستطيع العقل تحمله.
كذلك، التوحّد النفسي وهي حالة نفسية لاشعورية يكتسب من خلالها الفرد سمات أو مشاعر أشخاص آخرين ما يجعله شاعرًا بمعاناتهم وأنّ ما يصيبهم يصيبه. بالإضافة إلى الجمود الذي يصيب السلطة ويتمثّل في تصرّفها ببطءٍ في ما خصّ المطالب الشعبية.
التفاعل التراكمي بين هذه العوامل مجتمعة يؤدي إلى الثورة.

 

الآلية التي تسير وفقها الاحتجاجات
تشير السيدة ديب إلى أنّ نجاح الثورة، يقتضي أن تخلو من أعمال الشغب والتعديات على الحريات وإحداث المشاكل، والتحلّي بالسلمية وإطلاق الشعارات والمطالب بعيدًا من إطلاق الشتائم. من هنا، يؤدي الإعلام دورًا كبيرًا في نقل الصورة كونه المنبر الذي يفسح المجال أمام المحتجين لإطلاق صرخاتهم وتفريغ غضبهم لإبعادهم عن تفريغ الغضب بطرقٍ أخرى غير سلمية. الفنون التعبيرية والنشاطات الراقية (جمع النفايات وتنظيف الساحات...) هي أيضًا من أسباب نجاح الثورات وبقائها في سياقها السلمي الصحيح، على أن يترافق ذلك مع الإصرار نفسه على تحقيق المطالب.

 

الانزلاق إلى الفوضى
في بلدٍ ديموقراطي كلبنان، تجدر الإشارة إلى «قانون الأب» أي قانون احترام التسلسل الهرمي للدولة والذي يتمثّل بفخامة رئيس الجمهورية، ورئيسَي مجلس النواب والحكومة الذين يجب عدم التعرّض لهم. فالهتافات المندّدة بالنظام والتي نسمعها مثل «الشعب يريد إسقاط النظام» لا تنطبق على نظامنا لأنّ إسقاط النظام يكون عبر صناديق الاقتراع، وهنا يظهر التأثّر المغلوط بالثورات الخارجية. وبالتالي، يجب تصويب هذه الشعارات للابتعاد عن الانزلاق إلى الفوضى. مثلًا: «الشعب يريد إصلاح النظام»، يتناسب أكثر مع المطالبة بالمحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة وإصلاح المؤسسات وتنظيفها من الفساد...

 

بين الأمس واليوم
في قراءة لبعض النشاطات التي قام بها المحتجون تقول ديب: مشهد الـ«بوسطة» مثلًا، أعاد للجيل القديم ذاكرة «بوسطة» عين الرمانة التي ذكّرته بالحرب اللبنانية، بينما هي في الواقع مظهر لا يقلّ حضارة عن السلسلة البشرية التي وصلت جنوب لبنان بشماله. غير أنّ مشهد السلسلة البشرية لم يكن مألوفًا لدى الجيل القديم وغير مطبوع في اللاوعي لديهم كمشهدٍ يعيدهم إلى ذاكرة الحرب، لذلك كان له صدى جيّد.
وأضافت: يُعرِب الجيل القديم عن مخاوفه من العودة للحرب الأهلية التي سبَقَ وعاشها وصمد خلالها وتخطاها، لكنّه لم ينسَها ولم يشفَ منها ويخشى أن يعيد الأبناء الأخطاء نفسها. أمّا جيل الشباب فلا يقبل فكرة الوقت أو الربح والخسارة التي كان يراهن عليها أباؤهم. «جيل الحرب» انتظر ٣٠ سنة قبل أن ينفذ صبره للتغيير والمطالبة بأدنى حقوقه وجيل الشباب يلومه على هذا الانتظار، فهو جيل السرعة، الوقت بالنسبة إليه هو الآن، فورًا بـ«كبسة زر»... إنّه جيلٌ مغامر لكنّه واعٍ متعلّم.