رحلة في الإنسان

ما الذي يدفع الإنسان إلى العنف؟
إعداد: غريس فرح


الميل البشري إلى العنف، كان ولا يزال موضوع دراسات مكثفة. وقد بدأ التعريف العلمي لما يسمّى اليوم بالإرهاب، يتّخذ معالم واضحة. لكن ماذا في جعبة العلم الحديث عن الدوافع المغذية لسلوك العنف؟ وما هو تفسير تراجع العقلانية لدى البعض مقابل فوران النزعات الفطرية؟

 

الطريق إلى العنف
بالنسبة الى العوامل المغذية للعنف أو الإرهاب، يتّفق الباحثون حول وجود دوافع فطرية تسهّل تورّط الانسان في أعمال لا عقلانية، وهي دوافع مكّنته من الصمود عبر العصور في وجه كل ما يهدد بقاءه.
هذا يعني أن الميل إلى العنف لا يأتي من فراغ. فجميع تصرفات الإنسان تنبع من محركات داخلية تشعلها عوامل خارجية كالبيئة، والظروف الاجتماعية وسواها.
بهذا يمكن القول، إن سلوك العنف قد ينفجر كترجمة لشعور الخوف أو الإحساس بالظلم والدونية.
وهذا الشعور يعتبر كافيًا لاستخدام الانسان جميع وسائل العنف لإثبات ذاته.
ويشير الباحثون إلى أن إستخدام العنف يزداد لدى الذين تربّوا في بيئات غير سوية، وعانوا اضطرابات نفسية خلال سنوات الطفولة والمراهقة.
وما يزيد الوضع خطورة، وجود هؤلاء في بيئات حاضنة تشحذ فيهم الغرائز، وتحشو أذهانهم بشعائر وعقائد تستجدي العنف وسيلة إلى الحياة.

 

العنف غريزة بقاء ثائرة
باعتبار أنّ العنف ينبثق من ظروف غير عادية، فهو لا يتقيد بقواعد معيّنة، بل يكتسب فعاليّته من كونه غضبًا غير مسيطر عليه، أو بمعى آخر، غريزة بقاء ثائرة، ومن هنا اتّسامه بالهمجية والرعب. وبما أن العنف يقود عمومًا إلى عنف مضاد، فهو يدخل الفرقاء في دوّامة يصعب تحديد نهايتها. والإنسان الذي يدخل هذه الدوّامة، يركز كل اهتمامه على الاحتماء بالعقيدة التي يتخذها ملاذًا، للمحافظة على وجوده.
في هذا السياق، لا ينسى الباحثون العودة إلى أحد أهم العوامل الكامنة وراء نشوء دوامة العنف. فبالإضافة إلى التربية في ظروف اجتماعية غير سوية يسودها الفقر والجهل، هناك الاحتقانات السياسية، وهبوط مستوى الانتماء الوطني لحساب الانتماء الحزبي والطائفي، والعوامل الاقتصادية الضاغطة التي تثقل كاهل المواطن وتبقيه متوترًا. وكلما زادت هذه الأوضاع سوءًا، زادت حدّة العنف والاحتقانات التي لا تجد لها متنفسًا سوى المزيد من العنف.

 

العنف أنواع
في الكتاب الذي وضعه إيرفين سنوب أستاذ علم النفس في جامعة ماساتشوتس الأميركية، رأى الكاتب أن الإرهابيين ثلاثة أنواع: «المثاليون» الذي يعملون من أجل مصلحة جماعة ينال منها الظلم والقهر. و«المستجيبون» الذين يتفاعلون مع تجربة الجماعة التي ينتمون إليها، وربما يكون هؤلاء قد تربّوا في مخيّم للّاجئين، وعانوا صدمات دفعتهم إلى العنف. أما النوع الثالث منهم فهو «ذوو الأرواح التائهة». وهؤلاء يعيشون عمومًا تحت رحمة التيارات والعقائد، وربما يكونون من المنبوذين أو المحكومين بتهم معينة، ويجدون ذواتهم ضمن جماعات متطرّفة تمنحهم القوة والثقة بالنفس.
إشارة هنا إلى رأي عدد من الباحثين الذين وجدوا صلة وصل بين دماغ الإرهابي الذي يعمل من أجل قضية، ودماغ المجرم الذي سبق وحوكم بجرائم مختلفة. فكلاهما يتميّز بلا عقلانية التوجّه وسلبيته. إلى ذلك يرى البعض أن عددًا لا يستهان به من الإرهابيين يعاني أمراضًا نفسية خطيرة.

 

العنف والهوية الجماعية
يعطي الباحثون أهمية قصوى للهوية الجماعية باعتبارها العامل الأهم في تنمية النزعة الإرهابية. فالإرهابي الذي يخدم قضية ما، دينية كانت أم وطنية، يكتسب قوته من هويته الجماعيّة، أو من العقيدة التي ترسّخت في ذهنه بفعل انتمائه إلى مجموعة معنية (طائفة، قبيلة، عشيرة، حزب، الخ...). ويتوقع الفرد أن يلقى الحماية والأمن، في هذه المجموعة التي يتكتل ضمنها أشخاص يشتركون في الرؤية نفسها. وعلى أرضيّة هذا التكتل، ينمو كره الآخر، وتزداد الرغبة بممارسة العنف، وتصبح المجموعات التي احتضنته أكثر خطورة وتطرفًا. وهذا يحدث عندما تتفلت زمام الأمور وتفشل الأطراف التي أسهمت في تحريك العنف في إعادة لجمه.
من هنا يمكن الاستنتاج أن العنف هو حالة انفعالية تنفجر بشكل رد فعل عنيف يعطي شعورًا ولو وهميًا بالقوة. إنه إذن نزعة تلازم الإنسان وتتحوّل في حال شعوره بالضعف إلى قناع لهذا الضعف، وأداة للثأر والانتقام.
هذا يعني أن العوامل التي أتينا على ذكرها قد تكون أدوات محرّكة للسلوك العنيف، لكنها ليست ما يقرر وجوده. وهذا دليل قاطع على المبدأ القائل بأن ما من فكرة تسيطر على عقل الإنسان إذا لم تجد قبولاً داخله.
قد يوجد من يقول إن العنف لا يعتبر ظاهرة سلبية على الدوام، لأنه قد يكون أحيانًا ضرورة تاريخية، والدليل التحولات الثورية العالمية الكبرى والتي لم تكن لتحدث لولا وجود درجة معينة من العنف. لكن هذا لا يعني أن يبقى العنف الطريق الضيق الوحيد الذي يرسم الحقائق والرؤى. ومن غير المنطقي أن يظل هذا الطريق الوسيلة الوحيدة لإحداث التغيرات التاريخية مهما سمت العقائد والتطلعات.