- En
- Fr
- عربي
نظرة إلى الداخل
”مقياس المجتمع يكمن في كيفية تعامله مع مواطنيه الأكثر ضعفًا وحرمانًا“، مقولة للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر تكتسب أبعادًا بالغة الأهمية عند إسقاطها على قضايا الصحة النفسية والعقلية كونها تؤثّر بشكلٍ مباشر في جودة حياة الأفراد ورفاهيتهم، كما في ديناميكية العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
الصحة النفسية، موضوع ليس بجديدٍ على الواقع اللبناني الذي عاصر عبر تاريخه صراعات وحروبًا كثيرة أفرزت آثارًا نفسية واجتماعية عميقة، ورغم تزايد الاهتمام بمجال الصحة النفسية خلال العقد الأخير، بعد عقود من الإهمال والتهميش، ما زالت الحاجة ملحّة لتطوير رؤية وآليات عمل شاملة تتيح للمجتمع، أفرادًا وعائلات وجماعات، الوصول إلى خدمات صحية نفسية أساسية، تكفل لهم حياة كريمة ومتوازنة. تتعاظم هذه الحاجة بشكلٍ خاص في أعقاب العدوان الأخير على لبنان، والذي حمل معه موجات من القتل والدمار والعنف غير المسبوق، إلى جانب استخدام تكتيكات نفسية حربية استهدفت الوجدان اللبناني في الصميم، ما عمّق جراح المجتمع وفاقم التحدّيات النفسية والاجتماعية التي يواجهها.
تُعتبر الحروب والصراعات والتعرّض لحالات الطوارئ الإنسانية من أخطر العوامل المسبّبة لمشاكل الصحة العقلية، إذ أظهرت دراسات عديدة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات انتشار الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة في البلدان والمناطق المتأثرة بالصراعات مقارنةً بالمتوسط العالمي، ويُعدّ الفقر عاملًا مضاعفًا لهذه المخاطر، كما قد يكون في حدّ ذاته أحد الأسباب المباشرة للاضطرابات النفسية. إنَّ هذه العلاقة الترابطية بين الفقر والأمراض العقلية تزيد فجوة عدم المساواة عمقًا، إذ لا يقتصر أثره على المجال الصحي فحسب، بل يمتد ليطال مجالات أخرى من الحياة، مثل التحصيل العلمي، والدخل، والتغذية، والسكن، ومستوى الدعم الاجتماعي والاقتصادي والتي غالبًا ما تثقل كاهل أفراد الأسرة والمحيط القريب، ممّا يضاعف من حجم ارتداداتها على المستوى العائلي والمجتمعي سواء لجهة أثره المباشر على صحة الأفراد، أو لجهة الخسائر المترتّبة على رفاه المجتمعات.
من منظور اقتصادي، تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ هذه الاضطرابات غير المعالجة تخلّف خسائر جسيمة، فقد شكّلت في العام 2011 ما نسبته 13% من إجمالي العبء العالمي للأمراض، ما يسلّط الضوء على كلفتها الباهظة وتأثيرها العميق على التنمية البشرية والاجتماعية1.
على الصعيد العالمي، كشف تحليل «أطلس الصحة النفسية 2020» الصادر عن منظمة الصحة العالمية، أنَّ التقدّم المُحرز في تنفيذ خطة العمل العالمية للصحة النفسية (2012–2030) ما زال دون المستوى المطلوب لتحقيق الأهداف المرجوّة منها. وقد تمّ إعداد هذه الخطة واعتمادها خلال الدورة السادسة والستين لجمعية الصحة العالمية في العام 2013، وجاءت نتيجة عملية تشاورية موسّعة شارك فيها ممثّلون عن 135 دولة، إلى جانب عدد من المنظمات غير الحكومية، والباحثين، والخبراء المتخصّصين في مجال الصحة النفسية2.
دوليًا أيضًا، تمّ إدراج الصحة العقلية والنفسية في خطة التنمية المستدامة 2030 وتحديدًا في الهدف الثالث المعني بضمان حياة صحية وتعزيز الرفاه، إلّا أنَّ الأشخاص الذين يعانون أمراضًا عقلية ما زالوا الأكثر عرضة للتهميش والإقصاء من برامج المساعدات المجتمعية والإغاثة الدولية، كما أنّ الفجوة الصحية الشاملة بين البلدان الغنية والفقيرة ما زالت تتسع. فالبلدان ذات الدخل المرتفع تتمتّع بجهوزية أوسع للتعامل مع الصحة العقلية والنفسية كونها أقرّت تشريعات وسياسات وخططًا خاصة بها للوقاية والعلاج، بينما تواجه الدول ذات الموارد المحدودة تحديات جمّة في الاستجابة لهذه الاحتياجات. ورغم أنَّ الصحة العقلية تُعدّ عنصرًا جوهريًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتُعتبر ركنًا أساسيًا للرخاء العالمي، إلّا أنّ الفجوة بين الحاجة إلى العلاج والقدرة على توفيره ما زالت تتسع على المستويين العالمي والمحلي إذ تفتقر الدول إجمالًا إلى آليات التمويل اللازمة وإلى إحصاءات دقيقة مصنّفة بحسب نوع الأمراض والخدمات وطبيعة الإنفاق المرتبطة بها، كما تغيب عنها مؤشرات تعكس نتائج التدخّل وتحلّل أثر السياسات العامة.
تعزيز الصحة العقلية والوقاية من الاضطرابات النفسية والحصول على دعم شامل، أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى وتتطلّب أولًا اعترافًا بأنّ الصحة العقلية ليست امتيازًا بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان في مجتمعه، وثانيًا تغييرًا جوهريًا في رؤية المهتمّين وأصحاب القرار والمجتمع ككلّ لدور الصحة العقلية والنفسية وأهميتها في التنمية الاقتصادية والتماسك المجتمعي.
أثر الأزمات المتكرِّرة على الصحة النفسية في لبنان
ترك تاريخ لبنان الحافل بالحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي بصمةً عميقة على الصحة العقلية لسكانه مسببًا معاناة تجسّدت بخسائر جسيمة في الأرواح، ودمارًا هائلًا وندبات نفسية عميقة أسهمت في ارتفاع معدلات اضطرابات الصحة العقلية، وبخاصةٍ اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) Post-Traumatic Stress Disorder - الذي ازدادت معدّلاته من 8.5% و14.7% خلال الحرب الأهلية (1974-1990) إلى 21.6% خلال حرب عناقيد الغضب العام 1996 ليتصاعد إلى 35%.
في حرب تموز 2006 3 وخلال العام نفسه، أشارت بعض الدراسات الوطنية4 إلى تزايد معدّلات الانتحار بنسبة 2.8% لكلّ مئة ألف شخص، أي انتحار واحد كل 2.1 يوم ومحاولة انتحار واحدة كل 6 ساعات. كما أشارت دراسات أخرى إلى أنّ نحو واحد من كل أربعة لبنانيين معرّض للإصابة باضطراب عقلي في مرحلةٍ ما من حياته، إلى جانب الانتشار المتزايد لحالات القلق والاكتئاب وما تسبّبه من تبِعات نفسية واجتماعية خطيرة.
لحين اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في العام 2019، كان حوالى 25% من البالغين في لبنان يعانون اضطرابات نفسية أبرزها الرهاب والاكتئاب والقلق5. وقد جاءت جائحة كوفيد-19 لتفاقم التحدّيات القائمة في مجال الصحة النفسية، واشتدّ تأثيرها مع انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، أقوى انفجار غير نووي في العالم في القرن الحادي والعشرين. وبعد وقتٍ قصير من الانفجار أظهرت دراسة استطلاعية أجراها البنك الدولي على عيّنة من 3,400 من سكان العاصمة، أنّ 80% ممّن تعرّضوا مباشرةً للانفجار أُصيبوا بالاكتئاب، فيما ظهرت أعراض اضطراب ما بعد الصدمة على 37% منهم6. تقاطعت هذه النتائج المقلقة أيضًا مع دراسة أخرى أُجريت عقب الانفجار على 801 طفل تراوح أعمارهم بين 8 و17 عامًا، إذ ظهرت أعراض القلق لدى 64% وعلامات اضطراب ما بعد الصدمة لدى 52% والاكتئاب لدى 33% منهم، فضلًا عمّا أعربت عنه المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية من قلقٍ تجاه ازدياد مشاعر اليأس والغضب والإحباط والاضطراب بشكل كبير لدى اللبنانيين7.
يبقى تحديد الأثر النفسي لكل مأساة شهدها لبنان مهمّة معقّدة للغاية، ومع ذلك، فإنّ ما تؤكّده الدراسات هو أنّ الأفراد المعرّضين لصدمات ناتجة عن الحروب والنزاعات أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية، إذ يرتفع لديهم احتمال الإصابة باضطرابات المزاج بما يعادل ثلاثة أضعاف. ومع تعرّض نحو 70% من سكان لبنان لأنواع مختلفة من الصراعات والتوتّر، فإنّ تحدّيات الصحة العقلية منتشرة على نطاق واسع وهي عميقة الجذور.
حوكمة الصحة النفسية في لبنان تعاني تحدّيات جوهرية
لطالما عانت البنية التحتية للصحة النفسية في لبنان من ثغرات كبيرة كما قوّضت الأزمة المالية والاقتصادية المستمرّة قدرة النظام الصحي في لبنان بشكلٍ خطير. ووفق بيانات منظمة الصحة العالمية شَهِد الإنفاق على الرعاية الصحية تراجعًا حادًا، إذ انخفض من 260 دولارًا أميركيًا للفرد في العام 2015 إلى 134 دولارًا أميركيًا في العام 2022 8.
إلى جانب هذا التراجع المالي، يواجه لبنان اليوم خسارة فادحة في رأس المال البشري، إذ غادر ما يقارب 40% من الأطباء و30% من الممرضات البلاد. ولا تؤدي هذه الهجرة الجماعية للكوادر الطبية إلى تقليص فرص الحصول على الرعاية فحسب، بل تسهم أيضًا في تعميق الانهيار الاقتصادي، ما يشكّل عائقًا إضافيًا أمام تعافي لبنان من أزماته المتشابكة.
يتعلّق تنظيم الصحة النفسية في لبنان بالمرسوم الاشتراعي رقم 72 للعام 1983، الذي يحدّد الهيكل التنظيمي لخدمات وزارة الصحة والتدابير الضرورية لحماية الحقوق وتنظيمها، وقضايا الوصاية، وتوفير الرعاية داخل المستشفيات للفئات الأكثر هشاشة، كما يسهم قانون المخدرات رقم 673 الصادر العام 1998 في تنظيم بعض الجوانب المتعلّقة بالصحة النفسية، وبخاصةٍ ما يتعلق بعلاج الإدمان. وفي هذا السياق، أشار التقرير الاستشاري الدولي للاستراتيجية الوطنية الأولى للصحة النفسية (2015-2020)9 الصادر في العام 2018 إلى الحاجة الماسّة لمراجعة التشريعات الحالية، وسدّ الثغرات وأوجه القصور الموجودة في الأنظمة القائمة، بما يضمن تعزيز حقوق الأشخاص الذين يعانون اضطرابات عقلية، وتحسين جودة الرعاية الصحية، وتطوير الخدمات المجتمعية. وما زال نظام رعاية الصحة النفسية في لبنان يعاني التجزئة، إذ يعتمد توفير الخدمات للمرضى الداخليين بشكل رئيسي على المستشفيات الخاصة بدلًا من المستشفيات الحكومية. أما خدمات الصحة العقلية المخصّصة للمرضى الخارجيين فتُقدّم في المجمل في عيادات خاصة. ويُعدّ لبنان في المراحل الأولى من عملية إدماج خدمات الصحة النفسية ضمن مراكز الرعاية الصحية الأولية، وهي خطوة واعدة من شأنها تعزيز شمولية الرعاية، من خلال تحسين قدرات الكشف المبكر عن الاضطرابات النفسية والعقلية وتوفير العلاج المناسب، أو الإحالة إلى خدمات أكثر تخصّصًا عند الحاجة. كما يُتوقّع أن يسهم هذا الإدماج في توسيع نطاق أنشطة التوعية والوقاية، بما يعزّز الصحة النفسية على مستوى المجتمع.
خدمات الصحة النفسية والعقلية تعاني هي أيضًا نقصًا حادًا في عدد المتخصّصين، إذ لا يتوافر سوى 1.5 طبيب نفسي لكل 100 ألف نسمة، ويتركّز معظم هؤلاء العاملين في القطاع الخاص أو ضمن منظمات غير حكومية وكلفتهم ما زالت باهظة مقارنةً بالموارد المالية المتوافرة. إنّ غياب أو عدم توافر نظام إحالة قوي بين مستويات الرعاية المختلفة يجعل من الصعب على الأفراد الوصول إلى الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، لا يسعى العديد من اللبنانيين الذين يعانون اضطرابات الصحة العقلية المزمنة إلى العلاج بسبب انخفاض الوعي والحواجز المالية والوصمة الاجتماعية، وهذا ما يؤدّي غالبًا إلى تطوّر الاضطرابات إلى حالات أكثر خطورة. تتمركز خدمات الرعاية في مناطق محدّدة وغالبًا ما تكون حضرية وتعاني أيضًا من نقصٍ شديد في التمويل، ممّا يقلّص فرص المناطق الأخرى وبخاصةٍ الريفية منها في الوصول إلى الرعاية، هذا فضلًا عن غياب أي نوع من التغطية الصحية أو التأمين؛ الأمر الذي يجعل الوصول إلى هذه الخدمات أكثر تعقيدًا ويُثقل كاهل الأفراد الباحثين عن الرعاية.
وعلى الرغم من إقرار وزارة الصحة استراتيجية 2024-2030 والتي تتماشى مع التوجّهات العالمية الرامية إلى نقل الخدمات إلى المجتمع ككلّ ومن تحقيقها خطوات متقدّمة في استقطاب التمويل الدولي وتوحيد معايير الرعاية والعلاج، إلّا أنّها ما زالت تعاني تحدّيات عدّة أبرزها الحاجة إلى فرق عمل متخصّصة في مجال الرعاية الصحية النفسية والعقلية والتدريب وتطوير مهارات العاملين في هذا القطاع، إلى جانب ضرورة تطوير وتصميم خدمات قائمة على الأدلة العلمية تضمن فعالية التدخلات واستدامة أثرها.
من ناحية أخرى، تواجه المستشفيات ضغوطًا مالية شديدة، إذ تجد صعوبة متزايدة في دفع أجور الموظفين أو تأمين المعدّات واللوازم الأساسية، نتيجة الانهيار الحاد في قيمة العملة الوطنية والتأخير المزمن في تسديد مستحقاتها من قبل الدولة. وفي ظل هذه الظروف، يلجأ العديد من المستشفيات إلى تقليص الخدمات، أو إغلاق بعض الأجنحة، أو تخفيض عدد الأسرّة، أو اعتماد حلول بديلة للاستمرار في العمل. حاليًا، ومع الأزمة المالية المستمرّة، يبقى مصير أي مريض في لبنان يحضر إلى قسم الطوارئ، ويحتاج متابعة نفسية متخصّصة، مرهون بتوافر الأماكن وتغطية الكلفة الصحية، كما يصعب عليه تلقّي أي مساندة في بيئته وذلك بسبب عدم وجود نظام متابعة يربط بين رعاية المرضى الداخليين والخارجيين.
أمّا في ما يتعلّق بالأدوية النفسية في لبنان، فقد أظهرت الاتجاهات بين العامين 2019 و2023 ارتفاعًا هائلًا في تكلفتها إذ تجاوزت أسعارها 7.47 أضعاف متوسط الدخل الشهري10 ممّا يضع عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على المرضى وعائلاتهم. وإنّ عدم توافر تغطية للعقاقير الطبية اللازمة لعلاج الأمراض العقلية في خطط الرعاية الصحية (الحكومية أو الخاصة)، يُفاقم معاناة المرضى ويعيق حقّهم في العلاج المستمرّ والمنتظم.
إنّ الإصابة باضطراب عقلي تُشكّل عبئًا كبيرًا على الفرد لا من حيث تدهور حالته الصحية فحسب، بل أيضًا بسبب ما قد يرافقها من وصمة اجتماعية وتهميش. كما تؤدّي مشاكل الصحة العقلية إلى تفاقم تأثير الأمراض غير المعدية، مثل السرطان وأمراض القلب والسكري، والتي تمثّل تقريبًا 91% من مجموع أسباب الوفاة في لبنان. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التكاليف الاقتصادية غير المباشرة لقضايا الصحة العقلية، بما في ذلك فقدان الإنتاجية، والتغيّب عن العمل، والإعاقة، والوفيات المبكّرة، تزيد الضغط الاقتصادي وثقله المالي على الأفراد والأسر.
الأثر الاجتماعي والاقتصادي للصحة العقلية متنوع وبعيد المدى
غالبًا ما تؤدّي تحدّيات الصحة العقلية إلى انزلاق الأفراد والأسر نحو الفقر، كما تعيق بشكلٍ كبير فرص التنمية الاقتصادية على المستوى الوطني، فالأشخاص الذين يعانون اضطرابات في الصحة العقلية يواجهون صعوبات متزايدة في الوصول إلى التعليم وفرص العمل، أو في الحفاظ على مصادر دخل مستدامة، ممّا يحدّ من استقلاليتهم المالية ويحرمهم من حياة اجتماعية لائقة وبناء الروابط والانخراط في مجتمعاتهم. وفي هذا السياق، كشفت إحصاءات دولية على سبيل المثال أنّ معدلات البطالة بين الأشخاص المصابين باضطرابات عقلية تتجاوز بكثير تلك المسجّلة لدى فئات أخرى من المرضى أو ذوي الإعاقات حيث تصل في بعض الحالات إلى نحو 90%، ما يعكس عمق التحدّيات البنيوية والاجتماعية التي تواجه هذه الفئة.
لعدم المشاركة في القوى العاملة أيضًا كلفة مجتمعية واقتصادية باهظة تتجلّى في خسائر مباشرة في الإنتاج وتراجع في الإيرادات الضريبية الناتجة عن انخفاض دخل الأفراد فضلًا عن الأعباء المالية المترتّبة على الرعاية الصحية والعلاج. ويشير تحليل حديث لإحدى المنظمات المهتمّة بالصحة النفسية إلى حجم الأثر الاقتصادي الهائل الناتج عن الاضطرابات العقلية: فكل عام يتمّ فقدان أكثر من 12 مليار يوم عمل بسبب الأمراض العقلية، وتشير التقديرات إلى أنّ الكلفة الاقتصادية العالمية للاضطرابات النفسية والعقلية بين العامين 2011 و2030 قد تتجاوز 16 تريليون دولار أميركي من الناتج الاقتصادي، أي ما يفوق الأعباء الناتجة عن أمراض كالسرطان والسكري وأمراض الجهاز التنفسي مجتمعة11.
يواجه السكان الأكثر هشاشة في لبنان ولا سيّما ذوو الدخل المنخفض واللاجئون والعمال المهاجرون والفئات المهمّشة، عوائق متزايدة للحصول على الرعاية اللازمة، وتشير الدراسات التي أُجريت على النازحين السوريين إلى معدلات مقلقة من الاضطرابات النفسية، إذ تمّ تشخيص أكثر من 35% منهم بأنهم مصابون باضطراب ما بعد الصدمة وأكثر من 20% يعانون الاكتئاب الشديد.
كما سجّلت العاملات المهاجرات، اللواتي تضرّرن بشكل بالغ من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، معدّلات مرتفعة من الاكتئاب وحتى الذُهان.
ولم يكن الأطفال بمنأى عن هذه التداعيات، إذ تترك صدمات الحرب آثارًا نفسية واجتماعية ملموسة على المدى القريب والبعيد، تتجلّى في العلاقات الأسرية، والتفاعل مع الأقران، والأداء التعليمي، والرضا العام عن الحياة.
يشكّل الإجهاد الناتج عن الصدمة المرتبطة بالحرب مخاطر كبيرة أيضًا داخل الأسر ويضعف قدرتها على التواصل البنّاء ويقلّل قدرتها على التسامح وعلى تحمّل أعباء إضافية مالية ومعنوية لتربية الأطفال أو تقديم الرعاية لهم. كما تسهم الضغوط النفسية الناتجة عن الخسارات المتعدّدة كوفاة الأحباء والأقارب، وفقدان الدخل، والاستقرار الاقتصادي، والألفة الثقافية والتنقل القسري المستمرّ في تفاقم آثار الصدمات النفسية ليس فقط على مستوى الفرد، بل أيضًا داخل الأسر والجماعات.
تترك الصدمات الجماعية أثرًا عميقًا على صحة المجتمع ورفاهيته، ما يستدعي تأمّلًا معمّقًا في كيفية انتقال ارتدادات الإجهاد الناتج عن الصدمة النفسية من مستوى الفرد إلى النسيج الاجتماعي والمجتمع بأسره. إنّ العبء المُلقى على عاتق المواطنين ما بعد العدوان الهائل يُنذر بالحاجة الماسة إلى دعم شامل للصحة العقلية والنفسية.
استدامة الرعاية للصحة العقلية تشترط استدامة المالية العامة
فيما يواجه لبنان تداعيات عدوان 2024 وما تسبّب به من استشهاد ونزوح ودمار ومحو لقرى بأكملها، يتصاعد عبء الصحة النفسية بصورة حادّة ما من شأنه أن يفاقم المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، ويزيد الضغط على أنظمة الحماية والدعم الاجتماعي والحصول على الرعاية. وإذا كان هدف تمويل التدخّلات المبكرة والعلاجية للصحة النفسية في مرحلة ما بعد الصراع هو الحد من تفاقم الاضطرابات ومنع تطور الأمراض المزمنة والخطيرة، فإنّه من الواجب علينا أن نتيقّظ أكثر وألا ننظر إلى الصحة العقلية على أنّها مشكلة طبية فقط، ولا أن نحصر الاستجابة لها بالتدخّلات الطبية الطارئة وباستخلاص المعلومات النفسية (PD - Psychological Debriefing) وبالتوفير المبكر للعلاج السلوكي المعرفي (CBT- Cognitive Behavioral Therapy) فحسب، فالصحة النفسية تمسّ شريحة واسعة من المجتمع، وتتداخل فيها عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية معقّدة، وتتعدّى تأثيراتها الأفراد المصابين لتطال أسرهم، وأرباب عملهم، ومدارسهم، ومجتمعاتهم المحلية. من هنا، تصبح الاستجابة الشاملة والمتعدّدة الأبعاد ضرورة ملحّة لضمان التعافي الفعلي والمستدام.
أشارت عدّة دراسات دولية إلى أنّه على الرغم من أنّ شدّة تجارب الصراع تؤثر سلبًا على الصحة العقلية، فإنّ وجود عوامل وقائية، بما في ذلك قبول الأسرة والمجتمع، قد يعمل على تخفيف الآثار السلبية للحرب، وبالتالي تقليل خطر الاضطرابات العقلية وتعزيز الأداء النفسي والاجتماعي. كما أنّ البيئة الاجتماعية المحيطة بمرحلة التعافي قد تسهم إمّا في تسريع عملية الشفاء أو إعاقتها، ويؤدي الدعم الاجتماعي بحسب الدراسات دورًا محوريًا في تسهيل التعافي من الصدمة وتعزيز الشعور بالأمان والانتماء.
إنّ النهوض بالصحة العقلية في مرحلة ما بعد الصراع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الدولة على إعادة تنظيم مؤسساتها وأدائها بما يهيّئ البيئة الملائمة لبدء عملية التعافي النفسي والحد من الآثار بعيدة المدى للصدمات واضطرابات الصحة العقلية. وغالبًا ما تواجه الدول الخارجة من النزاعات تحدّيات اقتصادية حادّة، بما في ذلك ضعف القدرة على جباية الضرائب أو جمع اشتراكات التأمين الاجتماعي، ممّا ينعكس سلبًا على تمويل القطاع الصحي ويُقوّض فرص الإنصاف في الحصول على الرعاية. كما يُثير هذا الوضع مخاوف من توسّع غير منظّم في الخدمات، ما قد يؤدي إلى ضعف التنسيق وتراجع جودة وفعالية التدخلات.
إنّ نظام إدارة المالية العامة يبقى عنصرًا محوريًا لتحقيق أهداف التغطية الصحية الشاملة وضمان استمرارية تقديم الخدمات، ففي البلدان ذات الموارد المالية المحدودة ينبغي أن يتماشى أي توسّع في الإنفاق العام على الصحة مع القدرة الاقتصادية والمالية للدولة.
ويُعدّ تحسين إدارة الأموال العامة وتدفقاتها في القطاع الصحي من خلال أنظمة مالية مستدامة، خطوة ضرورية لضمان استدامة الخدمات الصحية وجودتها، إذ تؤثّر أنظمة إدارة المالية العامة على التمويل الصحي عبر ثلاثة مستويات رئيسية:
أولًا، على مستوى تخصيص الموارد خلال إعداد الموازنة العامة؛
ثانيًا، على فعالية الإنفاق أثناء التنفيذ، بما في ذلك التخطيط المحكم للمشتريات العامة؛
وثالثًا، على ضمان مرونة وكفاءة استخدام الموارد، من خلال ترتيبات إدارية ومالية تتيح إدارة فعّالة للمساعدات والهبات، وتقييم أثرها الاستراتيجي على المدى الطويل.
إنّ الالتزام الجاد والمستدام على مستوى القيادة وتوفير الموارد المالية الكافية وضمان الإنصاف في الوصول إلى الخدمات، يشكّل ركيزة أساسية لتعزيز الجهوزية والاستجابة للاحتياجات الإضافية والمستجدّة. كما يسهم هذا الالتزام في ترسيخ الثقة وبناء الأمل بمستقبل أفضل لدى الفئات الأكثر هشاشة والأقل قدرة في المجتمع.
”كشفت إحصاءات دولية أنَّ معدلات البطالة بين الأشخاص المصابين باضطرابات عقلية تتجاوز بكثير تلك المسجّلة لدى فئات أخرى من المرضى أو ذوي الإعاقات حيث تصل في بعض الحالات إلى نحو 90%، ما يعكس عمق التحدّيات البنيوية والاجتماعية التي تواجه هذه الفئة.“
”إنّ النهوض بالصحة العقلية في مرحلة ما بعد الصراع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الدولة على إعادة تنظيم مؤسساتها وأدائها بما يهيّئ البيئة الملائمة لبدء عملية التعافي النفسي والحد من الآثار بعيدة المدى للصدمات واضطرابات الصحة العقلية.“
المراجع
1.Global burden of mental disorders and the need for a comprehensive, coordinated response from health and social sectors at the country level report
2.Mental health action plan, Mental health
3.Shaar K. Post-traumatic stress disorder in adolescents in Lebanon as wars gained in ferocity: a systematic review. Journal of Public Health Research. 2013;2(2):e17
4.Elie G Karam et al. “Prevalence and treatment of mental disorders in Lebanon: a national epidemiological survey.” Lancet (London, England), 367(9515), 1000-1006, 2006
5.Yehia, Farah, and Fadi El Jardali. “Applying knowledge translation tools to inform policy: the case of mental health in Lebanon.” Health research policy and systems 1(1), 1-11, 2015
6.El Khoury J, Ghandour L, Charara R, Adam L, Maalouf F, Khoury B. The Beirut explosion psychological impact study: An online cross-sectional population survey. . Traumatology. 2022: Advance online publication. https://doi.org/10.1037/trm0000353.
7.Maalouf F, Haidar R, Mansour F, Elbejjani M, El Khoury J, Khoury B, et al. Anxiety, depression and PTSD in children and adolescents following the Beirut port explosion. Journal of Affective Disorders. 2022; 302:58-65. https://doi.org/10.1016/j.jad.2022.01.086.
8.Global Health Expenditure Database
9.José Caldas De Almedia, Prof. Benedetto Saraceno International consultancy on “Midterm evaluation of the Lebanon National Mental Health Strategy for the MOPH National Mental Health program”, 2018
10.National Mental Health Strategy for Lebanon (2024 - 2030) Reforming the Mental Health System
11.Mental Illness Will Cost the World $16 USD Trillion by 203, Psychiatric Times Vol 35, Issue 11
* لميا المبيّض بساط - رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي ونائبة رئيس لجنة خبراء الأمم المتحدة للخدمة العامة (UNCEPA).
* سوزان أبو شقرا - اختصاصية تعلّم وتطوير رئيسية، معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي.