وجهة نظر

ما بين التقسيم.. والفدرلة هل تنتصر سوريا لوحدتها؟
إعداد: جورج علم

أطلق الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان عملية «نبع السلام». هدفها واضح وهو استحداث منطقة آمنة بطول 444 كيلومترًا، وعمق 32 كيلومترًا في الداخل السوري، لاحتواء النازحين، وتحرير بلاده من عبئهم الاقتصادي – الاجتماعي، ومنع قيام كيان كردي مستقل في الشمال، وحجز مقعد له حول أي طاولة تناقش مستقبل سوريا.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدّم الجولان هدية «مفخخّة» لإسرائيل. الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ثبّت قواعده العسكرية والاستراتيجية في طرطوس، وحميميم. الرئيس الإيراني حدّد مكاسبه بالتنسيق والتفاهم مع دمشق. وكان لا بدّ لأنقرة، الجار الأقرب، من الحصول على «شهد عسل» من هذا القفير، حجّتها أنّ «المنطقة الآمنة» إنما هي ترجمة عملية لاتفاق أضنة المبرم مع الحكومة السورية في 20 تشرين الأول 1998.

 

لقد أحدث التركي عملية خلط أوراق واسعة. كانت الأنظار مشدودة إلى جنيف حيث قرر المبعوث الأممي غير بيدرسون عقد الاجتماع الأول للجنة الدستورية بعد مخاض عسير استنزف منه الكثير من الوقت والجهد للتفاهم على عضويتها، وفجأة يضرب «السلطان» على الطاولة: «الأمر لي»، ويعطي الضوء الأخضر للبدء بالهجوم، إلّا أنّ حسابات حقله لم تأتِ متطابقة مع حسابات البيدر السوري. ترك له الأميركي المكان مفخخًا بالألغام، فيما بادر الروسي إلى «لمّ الشمل»، عبر تفاهم ما بين الأكراد ودمشق، وعبّد الطريق أمام الجيش السوري ليدخل منبج وضاحيتها، ويأخذ مواقعه على الحدود. أما الإيراني فاحتفظ بالخطوط الخلفية، ليشرف على الأعمال اللوجستية!
 

خلط أوراق
قد يكون أردوغان نجح في خلط الأوراق، لكنّه لم يضمن نجاح مشروعه. «حركش وكر الدبابير، ففاعت من كل حدب وصوب». استخدام القوة للاعتداء على سيادات الدول، واحتلال أراضيها، منطق مرفوض، وسوريا ليست «لقمة سائغة»، صحيح أنّ لا شرق أوسط جديدًا من دونها، لكن هذا الشرق الأوسط كان تاريخيًّا وما زال انعكاسًا لواقع توازن القوى الدولية. انهارت الدولة العثمانية في 15 أيار 1916، وعلى أنقاضها قام الواقع الإقليمي الذي بدأ يترنّح تحت ضغوط الثورات والانتفاضات، فاتحًا الباب أمام شرق أوسط جديد ما زال غامض الملامح.
 

مسلسل القرارات والاتفاقيات
هناك مسلسل طويل من القرارات والاتفاقيات، والمؤتمرات التي هندست الأرض، وثبّتت الأعمدة والدعائم، من اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت المنطقة، إلى مؤتمر باريس في العام 1919، وبعده مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920، إلى معاهدة سيفر في 10 آب 1920، والتي نصّت على خروج نهائي لأراضي الشعوب غير الناطقة بالتركية من سلطة الدولة العثمانية، وجعلت لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، إلى معاهدة لوزان العام 1923، والتي فرضت الاعتراف بالجمهورية التركية على أراضيها الحالية، ورسمت الحدود الشمالية بصورةٍ شبه نهائية للدولة السورية، وتمّ الفصل بهذه الحدود نهائيًّا بعد انتقال لواء إسكندرون إلى الجمهورية التركية في العام 1939. كلّ هذا معروف، وموثّق في مفكّرة التاريخ، إلّا أنّ النصوص الجامدة ليست البديل عن الشعوب الحيّة، التي تصنع وحدها التاريخ والحاضر والمستقبل.
لقد ظلّت سوريا التي استقلّت في 17 نيسان 1946، مقصدًا لهجرات أكراد هربوا من عمليات عسكرية شنّتها القوات التركية في مواجهة مطالبهم، مما أدى إلى نشوء مناطق شريطية على الحدود الشمالية لسوريا تسكنها غالبية كردية. وفي 5 تشرين الأول 1962 قامت السلطات السورية بإحصاءٍ استثنائي في محافظة الحسكة، تمّ بموجبه تجريد عشرات الآلاف من الأكراد من الجنسية السورية، لكنّ المجرّدين استمرّوا في مناطقهم مع عدم امتلاكهم الحقوق المدنية.
سوريا ذات الغالبية العربية المسلمة، كانت ملاذًا أيضًا للأرمن إثر مذابح 1915، وما تلاها، وكانت ملجأ بكامل الحقوق للفلسطينيّين في 1948 و1967. ويسكن المناطق الجبلية المقابلة للساحل عربٌ من أتباع المذهب النصيري الذين سُمّوا بالعلويّين بعد العام 1920، ويتوزّع الدروز في الجنوب، وعلى طرفي سهل حوران الشرقي والغربي، كما يشكّل المسيحيّون عُشر سكان البلاد، بينما يشكّل التركمان أقليّة، مع الشركس.
 

الإعصار والأهداف
ضرب إعصار «الربيع العربي» الأديم السوري في آذار 2011، وتطوّرت الأحداث على نطاق واسع، ويقف الأميركي اليوم في الصفوف الأمامية إلى جانب الروسي والتركي والإيراني، فيما تقف في الصفوف الخلفية بعض دول الخليج لتقديم الإمدادات «اللوجستية»؛ الأهداف ليست واحدة، كلّ يغني على ليلاه، مع تأكيد الحرص على وحدة التراب السوري، كلّما دعت الحاجة!
عندما بدأ الإعصار قرّر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما انسحابًا هادئًا من الشرق الأوسط، للتخفيف من وطأة النتائج السياسية والاقتصادية والعسكرية لحروب بوش الإبن، لكن مع تطوّر الأحداث في الشمال السوري، ودخول التنظيمات الإرهابية الميدان، قدّمت واشنطن الدعم للقوات الكردية كي تخوض نيابةً عنها مهمّة قتال تنظيم الدولة الإسلامية، لا سيما بعد معركة عين عرب – كوباني في خريف العام 2014، وعمدت بعد ذلك إلى إقامة قواعد عسكرية في مناطق الفرات الأوسط بين العراق وسوريا.
 

حسابات جديدة
في أيلول 2018، اتخذ الرئيس دونالد ترامب قرارًا بسحب كامل قواته في مهلة لا تتجاوز الشهرين، لكنّه عاد فتراجع تحت ضغط مباشر من جنرالات البنتاغون. «لا يمكن أن ينسحب النسر الأميركي، تاركًا وراءه الدبّ الروسي يسرح ويمرح!» تغيّرت المهمة اليوم. تفتح واشنطن حسابات جديدة مع أنقرة حليفتها «اللدود»، وشريكتها في الأطلسي، لم تعد العطايا هبات، ولا شيكًا على بياض، بل قروض ملزمة، وبفوائد عالية؟! وليس سهلاً أن يهدد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي. لن يقبل من الآخر – أيًا كان – أن يعيد خلط الأوراق، وحده ملك الأوراق كلّها. الكل متغيّر بنظره على مسرح الشرق الأوسط الجديد، أما الثابت الوحيد عنده فهو أمن إسرائيل ومصالحها العليا!
لقد لعبت واشنطن على ورقة تقسيم سوريا من خلال دعمها للقوات الكردية. الصراع على المناطق الجغرافية يبقى مهمًّا بالنسبة إلى القوميين الأكراد، هدفهم إقامة الدولة الكردية المستقلّة، لكن الخلاف الأيديولوجي ربما يتطوّر إلى نزاع في ما بينهم في إطار تجاذبات إقليمية. نزاع قد تسعى إليه الولايات المتحدة لاحقًا، وهي التي أظهرت في العديد من المحطات تذبذبًا في دعمها لـ«قوات سوريا الديموقراطية»، ودورها في المعارك التي تخوضها ضد «تنظيم الدولة الإسلامية!».
وكان من الطبيعي أن تقتنص روسيا الفرصة التاريخية السانحة كي تقفز بدورها في الساحة السورية، بعد اشتعال النزاع في القرم، وبروز المسألة الأوكرانية، وشعور موسكو بضرورة حماية خط إنتاجها من الغاز إلى أوروبا، انطلاقًا من منع أي تغيير في دمشق، خصوصًا وأنّ مصالحها العسكرية تشكّل احتياطًا غير قابل للمساومة على الساحل السوري، وكذلك تمسّكها بالنظام القائم، والذي أفصح عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف في غير مرّة.
 

الباب مشرّع
أما تركيا، فمن الواضح أنّها تطبّق خطة عمل على طرفَي الحدود، تُرضي مطامعها التاريخية، وتطلعاتها المستقبلية، لكنّها ركبت البحر مع اقتراب فصل الرياح، والأمواج العاتية، والأعاصير الجارفة، وفي وجهها أكثر من بطاقة حمراء، ومن أكثر من طرف، حتى الأوروبي لم يستكن، بل غرّه المشهد، وقرّر الدخول إلى الملعب السوري لعلّه يحظى بضربة جزاء. لا يمكن تصوّر أن يكون لتركيا استراتيجيّة داعمة لتقسيم سوريا، إلّا أنّ إصرارها على إقامة المنطقة العازلة يُبقي الباب مشرّعًا على كل الاحتمالات، بمعنى هل تصرّ على استحداث هذه المنطقة حتى ولو كانت الكلفة قيام دولة كردية مستقلة على حدودها، أم تصرّ على وحدة التراب السوري مقابل إطلاق يدها لمنع قيام الكيان الكردي المستقل؟!
أما إيران فموقفها واضح، وهو وحدة التراب والكيان في ظل بقاء الرئيس الأسد، لإدراكها أنّ أي نجاح كردي في بلد من البلدان الأربعة التي ينتشر فيها الأكراد، سينعكس على الدول الأخرى، وهي ستكون مستهدفة في مرحلة تالية، وإن كان البعض يرى عكس ذلك، إلّا أّنه لا يخرجه من زاوية الاقتتال السنّي – الشيعي، وهو ما لم يحدث في العراق مثلًا.
وبانتظار أن ينتهي كبار المتورّطين من تصفية حساباتهم، ورسم حدود مصالحهم فوق الأديم السوري، تبقى طاولة وحيدة للمفاوضات متنقلة ما بين سوتشي، وأستانا، وجنيف، وعواصم أخرى، يجلس حولها الروسي، والتركي، والإيراني للبحث بمستقبل سوريا، فيما الأميركي صامد في «برج المراقبة»، يوزّع الأدوار، وينظر إلى سوريا المستقبل من منظار مشروعه الكبير في الشرق الأوسط الجديد، لذلك يترك باب الخيارات مفتوحًا على مصراعيه أمام مشاريع التقسيم، أو الفدرلة! لكنّ السوريين، موالاة ومعارضة، يصروّن على القول بأنّ سوريا ستبقى موحّدة، ووفيّة لتاريخها وتراثها وقيمها السياسية والاجتماعية... إنّها مسؤوليتهم أولًا وأخيرًا...