رحلة في الانسان

ما هو دور حاسة الشمّ في الحروب؟
إعداد: غريس فرح

تحرص المؤسسات العسكرية الحديثة على إدخال تعديلات مستمرة على أساليب التدريب التي من شأنها تأهيل الجنود وتحصين ردّات فعلهم تجاه الأحداث من حولهم. وعلى الرغم من تطوّر تقنيات الحروب وآلياتها المعقدة، ومواكبة العسكريين لهذا التطوّر، فإن الأولوية ما زالت تُمنح للأحاسيس والطاقات البشرية التي تتحكَّم بهذه التقنيات وتعزّز من فعاليتها.
في هذا السياق يتم حالياً إختبار مفاعيل حاسة الشمّ لدى الجنود ومدى إرتباطها بطرق تأهيلهم وتعليمهم، وبالتالي إعدادهم لمواجهة الحرب الفعلية، وما قد يتخللها من روائح الموت والدمار.
فكيف تحرّك الروائح عواطف الجنود على ساحة المعركة، وما هو دورها على صعيد تأجيج ردّات فعلهم العفوية؟

 

إحداث التغييرات

منذ القدم أدّت الروائح دوراً مهماً في حياة الإنسان الذي حاول تصنيعها والاستفادة منها على مختلف الأصعدة، وخصوصاً على صعيد إنعاش الأجواء ورفع المعنويات وتحريك الأحاسيس والقدرات الفردية.
وكانت الأبحاث الجديدة في مجال التعرّف على كيفية عمل الحواس البشرية، وفي مقدّمها النظر والسمع والشمّ، قد أعطت حاسة الشمّ أهمية بالغة لدورها الملموس على صعيد توسيع الإدراك وتحفيز قدرات التعلّم. من هنا،  تهافتت مؤسسات التدريب على استغلال الروائح المؤثرة لإحداث التغييرات الإدراكية المراد بها تحسين النشاط والمعرفة.
من هذا المنطلق تسعى المؤسسات العسكرية الحديثة الى الانتفاع من المعلومات التي تمّ التوصّل إليها في هذا المجال لتضمين التدريبات العسكرية الحيّة أنواعاً من روائح الحرب، والتي يتم حالياً تصنيعها على يد إختصاصيين في مجال الكيمياء، بهدف ترسيخها في أذهان الجنود، ومن ثمّ الإستفادة من مفاعيلها المحفزة في المعارك الحقيقية.

 

كيف تعمل حاسة الشمّ؟

تؤكد الدراسات الحديثة أن الأنف البشري يميّز ما بين 10.0000 و100.000 نوع من الروائح المختلفة. كما ثبت بالتجارب أن باستطاعة الإنسان تمييز مصادر الروائح في الجو بدقّة كما بيّن كل من البروفيسورة ليندا باك (Linda Pak) والبروفيسور ريتشارد آكسل (Richard Axel) في جامعة كولومبيا الأميركية، (حازا في العام 2004 جائزة نوبل للعلوم لتمكّنهما من رصد مستوى عمل حاسة الشم، والتقاط الروائح من الجو بمقدار جزئيات من المليون).
والمعلومات التالية تعطي فكرة واضحة عن الأهمية المعطاة لمفاعيل الروائح: فعندما نتنفّس، تسير ذرات الرائحة الكيميائية المنتشرة في الجو عبر فتحتي الأنف ملامسة بطانة في داخله بحجم الطابع البريدي، وهي بطانة تتضمن نحو عشرة ملايين خلية عصبية في رأس كل منها لاقط بروتيني يلتقط هذه الذرات ويبعث بالرسائل الى منطقة إستقبال في القشرة الدماغية حيث يوجد نموذج خاص في المستقبلات العصبية الدماغية الناشطة التي تؤمن المعلومات عن الروائح ومصادرها.
وتحتضن حاسة الشمّ البشرية 350 نوعاً من الخلايا العصبية اللاّقطة التي تتفاعل مع أنواع مختلفة من الروائح.
 كما أن باستطاعة أي من هذه الخلايا أن تعمل منفردة أو ضمن مجموعات لإلتقاط ذرّات الرائحة وبثها.
وحسب آخر التقارير، فإن عمل حاستي السمع والنظر يعتبر أقل تعقيداً من عمل حاسة الشمّ. علماً أنه يسهم بدرجات متفاوتة في عملية تجميع المعلومات في الذاكرة إلاّ أنه يعتبر أدنى مرتبة من عمل حاسة الشمّ عندما يتعلق الأمر بنسبة تفاعل المعلومات في الذاكرة، وخصوصاً في ما يتعلق بتأثير هذا التفاعل على تعزيز قدرات التعلّم. والتجارب التي مرّ بها معظمنا مع مفاعيل الروائح هي خير دليل على ذلك.

 

كيف تستفيد المؤسسات العسكرية من هذه المعلومات؟

حسب تقرير أعدّه الإختصاصي الأميركي في تقليد المشاهد الحية، جايمس فلاهوس، والذي يعمل خبيراً لدى الجيش الأميركي في مجال تجسيد مشاهد الحرب في ثكنات التدريب، هنالك تأكيد على أهمية الروائح على صعيد تأهيل الجنود وإعدادهم لواقع الحرب، وذلك إنطلاقاً من التطوّرات التي قد تطرأ على استراتيجيات معظم الحروب وفق ظروف المعارك.
فالحروب التقليدية، كما يشير فلاهوس، تخضع عموماً لشروط لعبة الشطرنج، بمعنى أنها تسير وفق توجيه القيادة للجنود والآليات على الأرض، الاّ أن الأمر يختلف في معظم الظروف التي تمرّ بها الحروب المعاصرة، حيث يضطرّ المسؤولون في أسفل القاعدة أو في نهاية السلسلة التراتبية إلى اتخاذ قرارات مصيرية، وخصوصاً في حال حصول معارك في بيئات مدنيّة مجهولة المعالم.
 في حال كهذه تصبح ردات الفعل السريعة وكذلك المعرفة الإدراكية المسبقة بمضامين بيئة الحرب من الأولويات التي تتحكّم بسير المعركة، ومن هنا أهمية التعايش المسبق مع أجواء بيئة المعركة لتسهيل اتخاذ القرارات الصائبة تحت وطأة الضغوطات. وانطلاقاً من هذا المبدأ أنشأت المؤسسة العسكرية الأميركية مؤسسة التقنيات الإبداعية (Creative Technologies)  التي يشارك فيها إختصاصيون من هوليوود وجامعات أميركية وعسكريون أميركيون من أجل خلق أجواء معارك حقيقيّة تساعد في التدّرب والتأقلم مع محفّزات البيئة، وبالتالي إكتساب المرونة في التفاعل مع المستجدات، وبلوغ الأهداف. وفي هذا المجال تبرز على حدّ تعبير فلاهوس أهمية تنمية حواس الجنود والمسؤولين في المراكز القاعدية بهدف تحفيز مكامن الذكريات وقدرات الإدراك والتعلّم لتمييز مكامن الخطر، وكذلك التفريق بين المواقع العسكرية والمدنية، وهذا يمنح التدرّب على إستخدام حاسة الشمّ والتعرّف المسبق إلى روائح الحرب أهمية بالغة.

 

معلومات إضافية

بالعودة إلى تقارير الباحثين في المجال الكيميائي - البشري، نلمس تأكيدات على دور الرائحة في مجال إثارة العواطف المتعلقة بالذكريات المرتبطة بها.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن العواطف المتأججة تعمل في أكثر من إتجاه، بمعنى أنها قد تقود إلى تنشيط الأداء أو إلى الإحباط، نلمس بوضوح أهمية التدريب المسبق على التعايش مع بيئة الحرب.
ففي الحروب تنفجر القذائف وتحترق الشاحنات والطائرات وسواها، وتنبعث روائح الموت في الجثث المتناثرة أو المطمورة تحت الركام، وهي روائح كريهة تُحدث للوهلة الأولى تأثيراً سلبياً في نفوس المقاتلين والذين قد يواجهونها بأشكال من الإضطرابات والضياع والتشتّت الذهني.

الاّ أن التعرّف المسبق إليها وإلى مصادرها من شأنه أن يعزّز الصمود إنطلاقاً من تحديد مكامن الخطر واستهدافها.
في هذا السياق يؤكد العالم الأميركي روجير سميث رئيس المكتب العسكري لإدارة «تقنيات تزييف البيئة» أن الإنسان كتلة حيّة تعمل بتكامل وحدة الحواس، والجنود بشر يعملون وفق هذه النظرية، وهم وإن تعقدت تقنيات الآليات التي يستخدمونها في الحروب، يسخّرون حواسهم بالفطرة ويستعينون بطاقاتهم الفردية الكامنة في عمليات الدفاع والهجوم.
هذه وسواها من النظريات المؤيدة لمبدأ الإستعانة بتفاعل الحواس البشرية وخصوصاً حاسة الشمّ، أدّت الى إبتكار جهاز بشكل طوق يتضمّن تشكيلة منوّعة من روائح الحرب التي يتم حالياً تصنيعها في المختبرات بطرق بالغة التعقيد، لإطلاقها في مراكز تدريب الجنود بالتزامن مع إحياء صور المعارك وأصواتها الصاخبة.

وهنا يؤكد الإختصاصيون في الحقل العسكري الذين يواكبون تفاعلات الجنود في المعارك، أن العواطف التي تثيرها الروائح الراسخة في الذاكرة لحظة إنبعاثها، تخلق حالة إسترخاء وشعوراً بالحماية والدعم. والسبب أن الخبرات الشخصية المرتبطة بروائح معيّنة تهدئ الأدمغة المضطربة في لحظات العنف وتعزز الذكاء والمعرفة باتخاذ المبادرات.

وفي تجارب أجريت على جنود أميركيين في إحدى ثكنات التدريب، تمّ التأكد من أن قدرة معظمهم على التعلّم ترتفع في أثناء تأجج عواطفهم، وخصوصاً لدى تعريضهم لروائح تثير ذكرياتهم. الاّ أن التجارب الحالية على استخدام روائح الحرب في التدريب العسكري، ما زالت تواجه صعوبات تقنية تكمن في كيفية إطلاق الروائح المختلطة في آن معاً، كما في كيفية التخلّص من إحداها لإحلال أخرى مكانها. ولا يخفى على أحد الصعوبات التي تواجه الكيميائيين في مجال تحضير الروائح وربطها بمصادرها الطبيعية.
على كلٍ، فالآمال الواعدة التي تعزّزها التجارب في هذا المجال تستحق الجهود المبذولة لتعزيز الاستفادة من القدرات البشرية الكامنة في الحروب المعاصرة.