الجيش والمجتمع

ما هي المهارات والقدرات التي تتيح للقادة العسكرين اللبنانيين السيطرة على الأزمات؟
إعداد: ريما سليم ضوميط


جاكلين أيوب تجيب من خلال أطروحة دكتوراه: مهارات الذكاء العاطفي واضحة لديهم بجميع أبعاده

«القدرة على إدارة الأزمات والتحكّم بالضغوط، قياس الذكاء العاطفي عند القادة العسكريين اللبنانيين»، هو عنوان أطروحة الدكتوراه التي ناقشتها السيدة جاكلين أيوب في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية - الجامعة اللبنانية.


أسباب إجراء الدراسة
بداية، أوضحت السيدة أيوب أن أهميّة الدراسة تكمن في أنها الأولى في لبنان وفي الدول العربيّة التي تتناول هذا الموضوع. وشددت على أهمية مشاركة العماد جان قهوجي مع ستة قادة ألوية لهم باعهم الطويل في القيادة، مما أغنى موضوعها وزاد صدقيتها. كذلك شارك في الدراسة خمسون قائدًا عسكريًا ومئتان وخمسون جنديًا من مختلف المناطق والأديان.
وأشارت إلى أن الدافع لهذه الدراسة هو النتائج السابقة لدراستها حول «ارتفاع تقدير الذات عند الجنود اللبنانيين المشاركين في حرب نهر البارد ضدّ الإرهاب»، وتفاجُؤ العديد من البلدان العربيّة والأجنبيّة، بشكل عام، ببسالة وشجاعة هذا الجيش الذي يفتقر للعتاد والذي حارب كما «باللحم الحيّ»، والذي تمتّع بتقدير ذات مرتفع، تمّ عزو بعض أسبابه لوجود قيادة حكيمة، مشَجّعة ومتفهّمة وداعمة للجنود لإتمام مهماتهم وتحقيق الأهداف المنشودة من قيادة الجيش اللبناني.
وأضافت: وجدنا أنه من الضروري استكمال دراستنا السابقة والقيام بدراسة تختصّ بالقدرات والمهارات التي يتمتّع بها القادة العسكريون اللبنانيون، وذلك بغية الإجابة عن العديد من التساؤلات ومنها: ما هي المهارات التي مكّنت القادة العسكريين اللبنانيين من السيطرة على الأزمات عند جنودهم خلال حرب نهر البارد ضدّ الإرهاب ورفع معنوياتهم؟ وما هي السمات والقدرات التي تمكّن القادة اللبنانيين من تخفيف حدّة الضغوط عند الجنود اللبنانيين التابعين لإمرتهم، وهل للتحكّم بالإنفعالات عند القائد العسكري دور في التخفيف من حدّة  هذه الضغوط؟».
وأكدت أن الهدف الأساسي هو تركيز الإنتباه على مفهوم الذكاء العاطفي عند القادة العسكريين اللبنانيين، وتأثيره على الضغوط النفسيّة عند مرؤوسيهم التي تتجلّى بمشاعر القلق والإكتئاب.

 

ماهية القيادة
في دراستها، عرّفت أيوب القيادة «على أنها الركن الأساسي الذي يقوم عليه نجاح المؤسسات، لأنّها مجموعة متماسكة ومتناغمة من العمليّات، التي توجّه نموّ الجماعة، وتهدف إلى مساعدة أعضائها على إشباع حاجاتهم الاجتماعيّة والنفسيّة الضروريّة للنهوض، نحو تحقيق الأهداف العامّة المنشودة.
وأكدت أن قيادة الجماعات تتعلّق، بشكلٍ عام، بتنظيم وإعداد أنشطة موجّهة، يشترك فيها أعضاؤها الذين يرتبطون ويتفاعلون معًا، في إطارٍ من التعاطف والتأييد والمساندة والدعم الذاتي الذي يستقي جذوره من رمز الجماعة ومثالها، أي من «القائد».
فما أهميّةُ الدور الذي يؤديه القائد في نجاح مؤسسته؟ وهل القيادة الناجحة هي التي تعتمد على وضع خطط واستراتيجيّات للأعمال، أم تتعدّى ذلك لتصل إلى إدارة الموارد البشريّة للجماعة وإدارة ضغوطها وأزماتها؟
بادىء ذي بدء نقول، القيادة العسكريّة هي، تحديدًا، عمليّة التأثير الإيجابي في جماعة من العسكريين وتوجيه جهودهم نحو الأهداف المحددة والمرسومة، عبر كسب ثقتهم وتأييدهم واحترامهم وولائهم، وبثّ الروح المعنويّة في نفوسهم لمواجهة أصعب التحديات، بخاصّة زمن الحرب. وكلّ ذلك منوط بقدرة القائد على الحفاظ على المعنويات وتلبية حاجات مرؤوسيه، وإقامة مناخ من التلاحم النفسي داخل المجموعة التي يرأسها، مستخدمًا بذلك مهارات وقدرات تندرج ضمن إطار مفهوم «الذكاء العاطفي» الذي برز منذ أوائل التسعينيات وانتشر في جميع المؤسسات والإدارات، كما في معظم المعاهد والكليّات، لا سيّما تلك المتخصّصة بإعداد وتدريب القادة العسكريين.

 

الذكاء العاطفي ومهاراته
«الذكاء العاطفي هو مجموعة من الصفات الشخصيّة والمهارات الاجتماعيّة والوجدانيّة التي تمكّن الفرد من وعي مشاعره وانفعالاته، والتحكّم فيها وتحويل السلبي منها إلى إيجابي عبر تنظيمها وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف المنشودة؛ كما أنها تؤهّله لإدراك مشاعر وانفعالات الآخرين وتفهّمها والتعامل مهعا وإدارتها، بحيث يصبح الفرد أكثر قدرة على ترشيد حياته النفسيّة والاجتماعيّة والنجاح في التفاعلات المهنيّة وفي مواقف الحياة المختلفة، لا سيّما الضاغط منها».
وتضيف الباحثة: «على ضوء نتائج عملنا الميداني، يمكننا القول أن جميع القادة العسكريين اللبنانيين المشاركين في هذه الدراسة قد تمتّعوا بذكاء عاطفي يراوح ما بين المتوسّط والمرتفع، وهذا ما يدل إلى غياب الإضطرابات على هذا المستوى عند القادة العسكريين الخمسين، بل على العكس، ارتفعت لدى الجميع نِسب القدرات الخاصّة بمهارات الذكاء العاطفي الموزّعة على الأبعاد الخمسة الأساسيّة الآتية: بُعد العلاقات البينشخصيّة وأبعاده الفرعيّة (التعاطف، المسؤوليّة الإجتماعيّة والعلاقات البينشخصيّة بشكل عام)، بُعد المزاج العام وأبعاده الفرعيّة (التفاؤل والسعادة)، بُعد العلاقات البينذاتيّة وأبعاده الفرعيّة (الوعي العاطفي، تقدير الذات، الواقعيّة الذاتيّة، إثبات الذات والإستقلاليّة)، محور التأقلم وأبعاده الفرعيّة (الواقعيّة، المرونة، حلّ المشكلات)، ومحور إدارة الضغوط وفروعه (تحمّل الضغوط وإدارة الدوافع).
أمّا في ما يخصّ المقابلة مع سيادة العماد جان قهوجي قائد الجيش اللبناني، والمقابلة مع قادة الألوية الستة التي تمحورت أسئلتها حول المهارات اللازمة للقائد العسكري اللبناني لإدارة الأزمات والضغوط داخل جماعته، فقد أتت الإجابات لتوثّق النتائج الإحصائيّة للعيّنة.
فالمعلوم أن المؤسسة العسكريّة اللبنانيّة تعتمد في بنيتها على الهرميّة؛ كما انه لا يتمكن من الوصول إلى المراتب العليا إلاّ ذوو الكفاءة ومستحقوها، فمن هذا المنطلق شكّلت إجاباتهم غنى علميًّا لهذه الدراسة».
وأوضحت أيوب أن أعمار القادة الذين شملتهم العينة «راوحت ما بين 50 و55 سنة، وهم من القادة النخبة الذين لديهم باعهم الطويل في القيادة إذ تمكّنوا من إدارة العديد من الأزمات التي مرّت عليهم وعلى جنودهم أيّام الحروب والتوتّرات التي عصفت بلبنان.
لذلك، إضافة إلى إجابات العماد قهوجي، تُعتبر إجاباتهم كمرجع علمي قيّم يُعتمد عليه عند الغوص في التحليل.
وبالعودة إلى إجاباتهم، تمكنّا من تصنيفها وفق أبعاد الذكاء العاطفي، فسيادة العماد وقادة الألوية ركّزوا على مهارات مشتركة حيث أتت إجاباتهم شبه متطابقة؛ وذلك يدلّ على الروح الموحدة للمؤسسة العسكريّة اللبنانيّة والثقافة التي يتبنّاها القادة لتصبح في ما بعد جزءًا من طريقة تفكيرهم وتحليلهم للأمور والمعطيات؛ فنراهم على أثر ذلك يفكّرون ويحللون الأمور بالطريقة نفسها ويتعاطون مع الأزمات بطريقة موحّدة. والمهارات التي أجمعوا على ضرورة توافرها في القائد العسكري لإدارة الأزمات هي الآتية: التعاطف مع الجنود والتقرّب منهم (من دون إلغاء المسافة الضروري وجودها دائمًا بين القائد ومرؤوسيه)، التعبئة المعنويّة للجنود لا سيّما في أوقات الأزمات، تذكيــرهم برسالتهم الوطنيّة السامية وبقسمهم في الحفاظ على أرض الوطن وأهله، معرفة المشكلات التي يعاني منها الجنود (حتّى الخاصّة منها) والسعي لإيجاد الحلول المناسبة لها ومتابعتها للتأكّد من حلّها، التواصل الجيّد وحسن الإصغاء للمرؤوسين ولآرائهم وتنسيق جهودهم وبث روح العمل الجماعي في ما بينهم ضمن مناخ تسوده الثقة والتعاون والمساندة والعمل على رفع مستوى أدائهم وتطوّرهم.
هذا من ناحية، أمّا من ناحية أخرى فقد أتت إجاباتهم لتصف القائد العسكري الناجح بأنه الذي يستطيع أوّلًا التحكّم بانفعالاته وضبطها وعدم إظهارها للآخرين، كي لا تنعكس سلبًا على مناخ العمل والجماعة، وأن تكون لديه القدرة على ضبط النفس والهدوء والسيطرة على الإنفعالات حتى في الأوقات الحرجة، لأنّ ذلك يمكّنه من اتخاذ القرارات الصائبة وتحليل الأزمة وإيجاد حلّ لها، بالإضافة إلى مهارته في فصل حياته الشخصيّة عن حياته المهنيّة والعمل من أجل تحقيق أهداف الجماعة ونجاحها».
 

إدارة الأزمات والضغوط
إندرجت إجابات العماد قهوجي وقادة الألوية، في ما يخصّ إدارة الأزمات والضغوط عند الجنود اللبنانيين، ضمن محاور الذكاء العاطفي وفروعه الآتية: العلاقات البينشخصيّة (التعاطف، المسؤوليّة الإجتماعيّة والعلاقات البينشخصيّة)، التأقلم (حلّ المشكلات)، وإدارة الضغوط (إدارة الدوافع)، متوافقة مع النتائج الإحصائيّة للعيّنة، كما سُلِّطَ الضوء على المهارات المعتمدة في المؤسسة العسكريّة اللبنانيّة.
وعلى ضوء إجابات سيادة العماد وقادة الألوية يمكننا تفسير عدم وجود إرتباط قوي بين بعض الأبعاد الفرعيّة للذكاء العاطفي والضغوط عند الجنود اللبنانيين، كبُعد المرونة الفرعي، مثلًا، في بُعد التأقلم والبعدين الفرعيين: الإستقلاليّة الذاتيّة وإثبات الذات في بُعد العلاقات البينذاتيّة. فالقائد العسكري اللبناني، وعلى الرغم من المهارات التفاعليّة والعلائقيّة التي يتحلّى بها، إلاّ انه يجب ان يكون حازمًا وأوامره قاطعة، وقادرًا على التوفيق بين الحزم ومراعاة مرؤوسيه. كما يجب أن يمتلك مهارة اتخاذ القرارات وتحمّل المسؤوليّة من دون ضرورة العودة لآراء الآخرين. فقرب القائد العسكري من جنوده أيّام الحرب والمساواة بينه وبينهم أمام نيران العدو لا يفرض المساواة في التحيّة والإنضباط ولا يلغي المسافة الضروري وجودها؛ فالمؤسسة العسكريّة تقدّس التراتبيّة، كما ان الجنود اللبنانيين معتادون على هذه الديناميّة وإنهم بحاجة لوجود قائد يأمر ويوجّه، وهم تاليًا ينفذون الأوامر، ليس فقط لإتمام المهمات، بلّ لأنهم يثقون بالقائد ويؤمنون بقدراته. فالقائد هو رأس الجماعة وموجهها، وهو الذي يصل بجماعته إلى النجاح عبر مناخ مليء بالثقة والإحترام والإخلاص. وبناءً على هذه الثقافة العسكريّة، يمكننا تعليل عدم وجود إرتباط بين الفروع الآنف ذكرها والضغوط المتمثّلة بالقلق والإكتئاب عند الجنود اللبنانيين».