رحلة في الإنسان

مبدعون أم مجانين!
إعداد: غريس فرح

لماذا يتّسم الإبداع بالغرابة؟

 

من المعروف أن كبار المبدعين في مختلف الحقول، يبدون عمومًا غرابة في المظهر والسلوك، تجعلهم أقرب إلى المجانين منهم إلى الأصحاء.
ما هي اسباب هذه الظاهرة؟ هل تحمل أبعادًا بيولوجية تحتم إتّسام الإبداع بالغرابة، أم أن الشهرة التي توصل إلى القمة تؤدي دورها على صعيد نشوء سلوكيات المبدع المميزة؟


خلفيات بيولوجية ونفسية
المشكلة، بحسب الباحثين، لا تكمن في تمييز الذات عن الغير، بل في خلفيات بيولوجية عديدة تتفاعل مع عقل المبدع الواعي، لتشكل أطر الغرابة الظاهرة للعيان. فغرابة أطوار المبدعين بشكل عام ليست مجرّد صدفة، بل جزءًا من الوظائف الطبيعية للفرد المعني بهذه الظاهرة المميّزة.
منذ أقدم العصور، وتحديدًا منذ عهد قدماء فلاسفة اليونان، لاحظ الفيلسوفان أفلاطون وأرسطو الظاهرة المشار إليها والتي ميّزت آنذاك قدماء الأدباء والعلماء والفنانين، وأوردوها في آثارهم الفلسفية. لكن الفيلسوف أرسطو طاليس كان أول من قال بنظرية الربط بين غرابة الأطوار ومرض الإكتئاب، وهي نظرية تبنّاها علماء النفس المعاصرون وطوّروا مفاهيمها.
ومنذ أكثر من قرن تقريبًا، أشار عالم الجريمة الإيطالي سيزار لومباردو إلى تصرّفات المبدعين الغريبة في كتابه «رجل الإبداع»، ونسبها إلى أمراض وراثية تقرّب ما بين المبدعين والمجرمين العنيفين.
وخلال العقود الأخيرة، إستخدم علماء النفس المعاصرون مقاييس علمية بالغة الدقة من أجل تقصّي العلاقة بين الإبداع والأمراض النفسية. وقد توصلوا إلى نظرية مفادها أن معظم المبدعين يتميّزون «بشخصية فصامية» (Schizotypal Personality)، وهي شخصية تختلف عن تلك التي تميّز مرضى الفصام الذين يعالجون بالأدوية. مع ذلك يؤكد الباحثون أنها منبعثة من الجينات التي يورثها بعض أفراد العائلة المصابين بمرض فصام الشخصية (Schizophrenia).
وكانت الدراسة التي أجراها أخيرًا العالم البريطاني دانييل نيتل، ونشرتها مجلة العلوم الأميركية (Scientific American)، قد أكدت تفشي الشخصية الفصامية بين المبدعين أكثر من الناس العاديين. وهذه الشخصية، على حد تعبيره، تزوّد المعنيين بها أفكارًا واعتقادات خارجة على المألوف، والأمثلة على ذلك كثيرة نأتي على بعض منها:
الموسيقار المعروف شوبان على سبيل المثال، كان يعتقد أن بيتهوفن استمدّ الحانه من أرواح الأموات في القبور. أما الكاتب الشهير شارلز ديكنز فكان يشعر بأن أبطال رواياته يلاحقونه. من جهته كان العالم إسحق نيوتن يكرّس وقته للعمل، ويتحاشى المجتمع لأنه يؤمن بأن الغير يضمر له الشر.

 

خلفيات الشخصية الفصامية
من المعروف أن الذاكرة تخزّن معلومات ضرورية للبقاء. لكننا جميعًا، كما تشير التقارير العلمية، مجهزون بعوازل أو مصاف دماغية تخفي وراء الستار الكثير من الإشارات التي تمر عبر الحواس، لضمان استقرارنا الفكري. وهذا يعني أن معظم المعلومات التي تختزنها أدمغتنا لا تصل بالكامل إلى العقل الواعي. لكن أصحاب الشخصية الفصامية، لديهم كما تؤكد الأبحاث نقص في عمل هذه المصافي، الأمر الذي يوصل إلى عقلهم الواعي أفكارًا مختلفة وغريبة ترد تباعًا من العقل الباطني، فيؤمنوا بها، ويحوّلوها إلى إعتقادات غير واقعية.
إلى ذلك فإن نقص عمل المصافي المشار إليها يجعل كبار المبدعين يركزون بالكامل على عالمهم الداخلي، وذلك على حساب الحاجات الإجتماعية والشخصية. ومن هنا غرابة أطوارهم وأهم مظاهرها، إهمال المظهر واللباس وأحيانًا النظافة، واختلال التواصل الإجتماعي الطبيعي.
واللافت في الموضوع أن الدراسات التي تعمقت في الحالة المشار إليها، أكدت أن نقص عمل المصافي الدماغية يزوّد المبدعين كمًّا من المعلومات الخارجة على المألوف، الأمر الذي يغذي فكرهم الخلاق، ويرفع مستوى ذكائهم.


أهمية الذكاء
ما سبق ذكره لا يعني أن غريبي الأطوار هم جميعًا مبدعون. فالأبحاث الجارية حاليًا في المختبرات العلمية، تشير إلى أن المبدعين المتّسمين بالغرابة يتميزون بمستوى ذكاء مرتفع، وذاكرة بالغة الحدة، وهذا ما يمكنهم من تحويل نقص مصافيهم الدماغية لمصلحة مقدرتهم على تقصي المعلومات المخزنة، الخلاقة في ذاكرتهم وعقلهم اللاوعي، والاستفادة منها في أعمالهم الخلاقة.
هذا يعني أن الذكاء المرتفع والذاكرة الحادة يحميان المبدعين من الاندراج على لائحة المرضى ويرفدانهم بالمقدرة على غربلة الأفكار المشوشة، والاستفادة بالتالي من تدفق كم المعلومات إلى عقلهم الواعي.
إن الفئة المبدعة من غريبي الأطوار، هي كنز يغني المجتمع. فالجهود التي يبذلونها بعيدًا من الأضواء تزوّدنا الجمال والتجديد الدائم، إن على صعيد الفنون والآداب أو العلوم والتجارة والإقتصاد. إنها نفحة عطر تهبّ على حياتنا الراكدة، لتزرع فيها وعودًا تنمو مع كل حركة إبداع في مجالات أعمالهم.