موضوع الغلاف

متأهبون للخدمة مهما اشتدّت العواصف!
إعداد: الرقيب أول كرستينا عباس

بين الصخور الشاهقة والمسالك الوعرة... بين الشتاء البارد والصيف الحار... بين الثلوج المجمِّدة والرمال الحارقة... ينفّذون مهماتهم على أكمل وجهٍ مهما كانت الظروف. يجعلون من الثلوج «لعبتهم الجميلة» فيحوّلون عزلتهم وبُعدهم عن العالم إلى جنّة ناصعة البياض يحسدهم عليها كل من وطأ أرضها. إنّهم عناصر سرايا القتال الجبلي التابعة لفوج المغاوير المتمركزة في مناطق العاقورة، والأرز واللقلوق والتي تأسّست تِباعًا في الأعوام ١٩٩٨ و٢٠٠٦ و٢٠١١. فكيف يعيشون حياتهم العسكرية بين التدريبات والمهمات؟ وماذا يفعلون لتأمين حاجاتهم اللوجستية في الظروف المناخية الصعبة والمتطرفة وفي الأوضاع المعيشية الراهنة؟


«الجيش» قصدت سرية القتال الجبلي الثالثة المتمركزة في اللقلوق. في الطريق من بيروت إلى الأعالي يُتاح لنا أن نستمتع بجمالية المشاهد، خصوصًا حين نتجاوز المناطق الوسطى التي حظيت برداءٍ خفيف من الثلج. نتابع صعودًا فتزداد سماكة الرداء الأبيض كلما تقدّمنا في الطريق، وتشتد قرصات الصقيع. نصل إلى مركز السرية الذي يقع على ارتفاع ١٧١٠ أمتار عن سطح البحر. سماكة الثلج هناك تشعرنا بالرهبة، نترجل من السيارة فنشعر أنّ كل ما فينا يتجمد، وكأننا في مكان لا يصلح لحياة بشر عاديين. وجوه العسكريين المبتسمة وترحيبهم الحار بنا يخفف من وطأة البرد. ندخل إلى الثكنة حيث في استقبالنا مشروب ساخن ومدفأة كهربائية، وقرب المدفأة نشعر بعودة الحياة إلى أطرافنا المتجمدة.
من جهتهم لا يعير الضباط والعسكريون قساوة الطقس الكثير من الاهتمام. لقد تكيّفوا مع صعوباته، وهم يركّزون بدرجةٍ أولى على الخبرات التي يكتسبونها في السرية والمهمات التي ينفّذونها. آمر السرية الرائد المغوار غسّان جمّال يطلعنا على خبرته الشخصية كضابطٍ مسؤول عن أمور العسكريين وتدريباتهم وجدولة دوراتهم جميعها، منوّهًا بأنّ نطاق عملهم يصل حتى ارتفاع الـ٢٣٠٠ متر في جرود منطقة العاقورة المليئة بالطرقات المتعرّجة التي تتغطى بالثلوج بالكامل في فترات العواصف. وعلى هذا الأساس تُحدّد الدورات الرئيسة التي يشارك فيها عسكريو القتال الجبلي دوريًا وهي تتوزع بين القتال الجبلي والقتال الخاص.
- القتال الجبلي: يقسم الى أربع مستويات من المبتدئ حتى المحترف وكل مستوى يتضمن دورتين واحدة صيفية وأخرى شتوية، تُجرى هاتان الدورتان في لبنان ضمن فوج المغاوير أو مع الجيش الفرنسي في فرنسا.
- القتال الخاص: تتابع السرية الدورات التي تتابعها باقي وحدات الفوج بمشاركة فرق تدريب أجنبية.
يصقل التدريب المستمر مهارات العسكريين ويساعدهم في التعايش الأمثل مع الظروف المناخية المتطرفة. ففي الشتاء تكون الطريق المؤدية إلى الثكنة مليئة بالثلوج التي تعلو كلمّا تقدّمت في الطريق حتى تصل إلى مدخل الثكنة حيث يصبح ارتفاع الثلوج أعلى من السيارات وأحيانًا الآليات العسكرية. وتتضمن التدريبات التي يخضع لها عسكريو القتال الجبلي دورات مع فرق أجنبية وبشكلٍ خاص مع فريق فرنسي، وثمة تدريب يومي على المهارات الأساسية (التزلّج والمشي على الثلج واجتياز مسالك وعرة بالحبال) حتى في وقت العاصفة، ليكونوا مستعدّين لأي أمر طارئ.
 

هكذا يحتملون المشقات...
العواصف القاسية هي من أبرز الصعوبات التي تواجهها السرية، وفي هذا السياق يتذكّر الرائد المغوار جمّال حين قُطعت الطرقات المؤدية إلى الثكنة بسبب تراكم الثلوج وقوّة العاصفة. علق حينها أحد العسكريين وهو في طريقه إليها، فحَفر في الثلج حفرة احتمى فيها إلى حين هدوء العاصفة ثم تابع طريقه. لم يكن ذلك العسكري لينجح بالبقاء على قيد الحياة لولا المهارات التي اكتسبها من خلال التدريبات التي تابعها.
يتميّز عسكريو السرية بتقنية المبيت في الثلج. فهم يبنون igloo من الثلج أو يَحفرون حفرة يغطونها بكيس النوم ويحتمون فيها حين تكون العاصفة شديدة ولا يمكنهم التقدّم في الطريق. يتدرّبون على الحَفر في الثلج ليلًا ليكونوا مستعدّين لأسوأ الاحتمالات وفق ما يخبرنا آمر السرية. وهو يضيف أنّهم يبرعون في اجتياز الممرات الجبلية الوعرة بواسطة الحبال والتسلّق عليها واستخدامها لإنقاذ العالقين في أماكن يصعب الوصول إليها أيضًا.
ليس التنقّل خلال العواصف القوية المشكلة الوحيدة التي يتعايش معها عسكريو القتال الجبلي، خصوصًا في فصل الشتاء الذي يزيد التحديات التي يواجهونها. فحين استضافنا آمر السرية في الثكنة عاينّا مشكلة تجمّد المياه في الأنابيب والخزانات بسبب الجليد. أما في الصيف فتشحّ المياه ولتأمينها يضطرون إلى الاستعانة بصهاريج بعد التنسيق مع قيادة الفوج.
«أحيانًا نصبح معزولين عن العالم، لأننا في منطقة بعيدة عن السكن ولأنّ شبكة الاتصالات تتضرّر في فصل الشتاء من جرّاء العواصف والرياح القوية» وفق ما يشير الرائد المغوار جمّال الذي يوضح أنّهم في هذه الحالة يستخدمون الأجهزة اللاسلكية لحلّ المشكلة. وبما أنّ المناخ في مركز السرية يكون متطرّفًا، يعمل العناصر بشكلٍ دوري ومستمر على تعهّد الآليات وإبقائها في جهوزية تامة فيتمكّنون بالتالي من تنفيذ أي مهمة توكَل إليهم. في الوقت الراهن وبسبب غلاء المحروقات وكلفة إصلاح أي عطل قد يطرأ على الآليات، قلّل العسكريون من استخدامها إلّا للضرورات القصوى، لكن من دون أن يؤثّر هذا التقنين في التدريب. فقد ارتأت إمرة السرية بالتنسيق مع قيادة الفوج بأن تنفّذه كما جرت العادة، لكن ضمن مسافات أقرب من المعتاد فلا يتوقف بالتالي التدريب اليومي ويبقى العسكريون جاهزين لتأدية كلّ المهمات الموكلة إليهم.

 

معنويات عالية!
يفتخر العسكريون بانتمائهم إلى سرايا القتال الجبلي في فوج المغاوير فهي وحدات متميزة بين وحدات الجيش لأنّ عناصرها هم الوحيدون في الجيش اللبناني المتخصصون في القتال في الجبال ولديهم التجهيزات الخاصة التي تسمح لها بتنفيذ المهمات صيفًا وشتاءً في المناطق الوعرة وفي الظروف المناخية كافة. «ولأنّ قيادة الفوج بالتنسيق مع إمرة السرية مستعدة دائمًا لتلبية حاجات العسكريين الممكن تحقيقها في ظل الأوضاع الصعبة الراهنة» يقول المؤهل أول ربيع درغام الذي يعمل حاليًا في أمانة سر السرية. ومن أبرز ما قامت به قيادة الفوج لتأمين حاجات العسكريين، اعتماد خطة لتسهيل انتقالهم من مركز العمل وإليه بتكلفةٍ منخفضة.
 

الاحتراف
تنقّل المؤهل أول درغام بين عدة وحدات في الجيش قبل أن يصبح في سرية القتال الجبلي. خدم سابقًا في فوج الهندسة المتخصّص بمعالجة الألغام والقنابل وسواها من ذخائر، هناك الغلطة الأولى تكون الأخيرة كما يقول. تختلف طبيعة المهمات في السرية حيث يخدم حاليًا لأنّها تعتمد على كيفية التعامل مع الظروف المناخية الصعبة ومع تعرّجات الطبيعة. لا يعتبر أنّ الخطر على الحياة معدوم فيها، لكنّ الاحتراف في التعامل مع العتاد المستخدم يقلّل من نسبة وقوع الأخطاء القاتلة. هو لا ينسى حادثة حصلت معه في أثناء مهمة تدريبٍ مع الفريق الفرنسي في منطقة القرنة السوداء. يومها هبّت عاصفة قوية وكانت سرعة الرياح عالية والرؤية شبه معدومة. لكن التدريبات التي خضعوا لها والمهارات التي اكتسبوها مكّنتهم من الوصول إلى أقرب مركز.
 

خبرات وذكريات
من جهته، يستفيض المعاون حسن سليمان في الحديث عن خبرته في السرية وعن طبيعة العمل فيها التي تختلف عن طبيعة المهمات التي كان ينفّذها قبل التحاقه بها. ففي ثكنة فوج المغاوير في رومية حيث أمضى أربع سنوات، كان يشارك في المداهمات، والقتال... في السرية تعلّم كل ما يختص بكيفية التحرّك على الثلج والتعامل مع الطقس القاسي. يتذكّر الظروف التي عاشها ورفاقه في عاصفة قوية حصلت منذ ١٠ سنوات. استمرّت لـ١٠ أيام وأدت إلى قطع الطرقات المؤدية إلى السرية. وعلى الرغم من أنّهم يخزّنون مواد غذائية كافية لمثل هذه الظروف، إلّا أنّ مخزون الطعام نفد قبيل هدوء العاصفة، لكنّهم تدبّروا أمورهم.
يسترجع المعاون سليمان وقائع مهمة إنقاذ وإسعاف بالغة الصعوبة نفّذها مع رفاقه، إذ تلقوا اتصالًا يفيد بوجود شخص مُصاب في مكان يصعب كثيرًا بلوغه بسبب وعورة المسالك المؤدية إليه. استمرّت المهمة ثلاث ساعات ونصف تمكّن الفريق بنتيجتها من إنقاذ المصاب. ويؤكّد المعاون أنّ نجاحهم كان بفضل العتاد الذي يمتلكونه والمهارات التي اكتسبوها من تدريباتهم. المشقات التي يواجهها عسكريو الفوج تزوّدهم خبرات يستفيدون منها في مهماتهم وفي حياتهم اليومية مع عائلاتهم.
لم يتوانَ يومًا عسكريو القتال الجبلي عن تلبية أي نداء استغاثة من أي نوعٍ كان. لن يدَعوا أبدًا الظروف الاقتصادية الصعبة تَحول دون تنفيذ مهماتهم بمهارةٍ وبكل شغف. أوجَدوا الحلول لمشكلاتهم، تحدّوا الصعوبات، تغلّبوا على التضاريس وتأقلموا مع تقلّبات المناخ، والهدف واضح: الوفاء بكل شرف لقَسمهم والتضحية في سبيل تنفيذ مهماتهم.

هل تعلم؟
إنّ كل آمر سرية من سرايا القتال الجبلي يضع «خطة طوارئ» لتنفيذ مهمات الإخلاء الطبي والإنقاذ والقتال في مدة أقصاها ربع ساعة، من خلال تجهيز ١٠ عناصر بكامل عتادهم مع آليات جاهزة للتدخّل؟
إنّ المهمات الأمنية التي تنفّذها السرية تشمل تطويق النزاعات على الأراضي بين الأفراد في مناطق جرود العاقورة والقرنة السوداء.