متاحف في بلادي

متحف آرام بزيكيان
إعداد: جان دارك أبي ياغي

 «عش العصافير» يعيد رواية المأساة

 

تحتضن مدينة التاريخ والتراث جبيل متحفًا تروي محتوياته وقائع المجازر التي تعرّض لها الأرمن،
وما زالت ذكراها حيّة في وثائق وصور جمعت من الجاليات الأرمنية المنتشرة في كل أنحاء العالم، وفي قصص عاشها أشخاص، خصوصًا أولئك الذين استقبلهم «عش العصافير» أيتامًا ناجين من المجزرة... «عش العصافير» أصبح متحفًا بمناسبة مرور مئة سنة على المجزرة.
«الجيش» زارت المتحف وتجولت في أقسامه مع السيدة ريتا كاليندجيان المسؤولة عنه.

 

الفكرة صارت حقيقة
منذ عشرة أعوام، طرح كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان فكرة إنشاء متحف يروي تاريخ الشعب الأرمني ويوثق وقائع الإبادة الجماعية التي تعرّض لها في العام 1915. بعد 3 سنوات من العمل، صار «متحف آرام بزيكيان لأيتام الإبادة الأرمنية» حقيقة واقعة في ميتم «عش العصافير».
أراد أليكو بزيكيان تكريم والده وآلاف الأيتام الذين عاشوا مأساة المذابح والتهجير وترعرعوا في هذا الميتم، فتبرّع بإنشاء متحف على اسمه، وتولى المهندس المعماري فيكين ترخنيان الإشراف والتنفيذ، ووضع شقيقه رافي المهندس والمصمم الداخلي، سينوغرافيا المكان، بعدما أجريا بحوثًا معمّقة عن مجازر الأرمن وقصصهم ومآسي الجوع والموت التي عانوها، ورحلات العذاب من تركيا إلى لبنان، وعايشا مآسيهم، فجسّداها في المتحف.

 

كي لا ينسوا
يقوم المتحف على مساحة 400 متر مربع من أصل 2000 متر تشكّل كامل المساحة، والبقية حدائق خضراء تضم مدفن «ماما ماري» (الدانماركية ماري جايكبسون) التي كانت تهتم بالأولاد في الميتم.
ندخل إلى المتحف على «دعسات أقدام حافية» ترمز إلى الأثر الذي حفره في الأرض من سكنوا الميتم. وإلى جانب الممر تماثيل تجسد صورة (أخذت في العام 1923) لأطفال جائعين جاثمين على الأرض، وأمامهم صحون من تنك، وماري توزع الأكل عليهم. وفي الأعلى مجسم معدني يكلّل المدخل وكأنه يدها التي تحمي الأولاد.

 

لحائط المكسور والصفحات السود
يعود تاريخ المبنى الذي يضم المتحف إلى أواخر القرن الثامن عشر، وهو يتألف من أربعة أقسام.
البداية من قسم الإبادة: صور ووثائق من واقع الحياة اليومية للأرمن في قراهم التركية، حيث كانوا يعيشون بأمان وسلام، منخرطين في المجتمع التركي، إلى أن بدأت المجازر.
حائط مكسور وصفحات سوداء تروي وقائع الإبادة بالتسلسل الزمني، وصور لأبشع مشاهد المجازر. وفي الجهة اليمنى خريطة تتولى السرد الجغرافي والديموغرافي، بحيث تظهر عليها كل بلدة حصلت فيها مجزرة مع عدد الضحايا والشهداء، وطريق الهجرة نحو دير الزور. وفي الوسط رمز الكنيسة الأرمنية، الجرس، لكنه مكسور في إشارة إلى محاولة إسكات صوت هذه الكنيسة.
يتصدر القاعة «حائط النخبة» وعليه صور 600 شخصية سياسية وأدبية ودينية من نخبة المجتمع الأرمني الذين أعدموا يوم 24 نيسان 1915. في الجهة المقابلة، وثائق لأولى المجازر (العام 1894)، وأخرى تعود إلى مجازر أضنا (العام 1909).
ولأن السرد لا يكتمل إلا بالشهادات، نرى في زاوية أخرى، ثلاث شاشات متلفزة تمكّن الزائر من الاستماع إلى أشخاص نجوا من الإبادة يخبرون ما جرى معهم.

 

العبور إلى الحياة
عبر ممر ضيق يرمز إلى طريق التهجير، ننتقل مع الناجين من الموت، إلى مرحلة الحياة مجددًا، والتي خصصت لها القاعة الثانية من المتحف. هنا تطالعنا هويات جديدة لحياة جديدة. أعمدة تحمل صور الأطفال الحفاة الذين كانوا الأساس لبناء جيل شكّل خميرة الأجيال المقبلة التي أبدعت في المهن والحرف اليدوية. وهنا أيضًا خريطة لتوزيع مياتم الأرمن وانتشارها في منطقة الشرق الأوسط. وعلى شاشة كبيرة تتوالى صور الأيتام وظلالهم مع أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووصولهم إلى لبنان والمنطقة التي أتوا منها. كما نرى على الحائط صورًا تروي قصة إنشاء الميتم في جبيل وحياة الأولاد اليومية.
وفي الصدر سجادة حاكها أيتام غزير في العام 1925 وأهدوها إلى عصبة New East Relief التي أسست ميتم جبيل، وأغراض استعملها الأيتام من كتب وأناجيل وأدوات حرفية وميداليات وهويات وحاجات أخرى، إلى لائحة بأسماء 1560 شخصًا عاشوا في ميتم جبيل (بين 1920 و1925)، وصور المجاعة التي عاشها اللبنانيون بسبب الحرب. وهكذا جمعت المعاناة شعبين، إذ مات اللبنانيون من الجوع والأرمن بالذبح.

 

النهضة
تروي القاعة الثالثة قصص النهضة الأرمنية وتجاوز المذبحة، حيث تحوّلت الخيم إلى بيوت، ثم شيّدت الكنائس، وظهرت تجمعات حملت أسماء المناطق التي أتوا منها مثل، «شارع مراش» و«كارتييه سويس» (quartier swisse) و«نيو تراد» في برج حمود... وفي الوسط مجسم زجاجي يحتوي على أدوات ترمز إلى المهن التي عملوا فيها وطوّروها، ما جعلهم منتجين ومساهمين في بناء المجتمع اللبناني.

 

المطالبة بالعدالة
للوصول إلى قسم المطالبة بالعدالة وهي الغرفة الرابعة والأخيرة، لا بد من المرور في ممشى البطاركة الذين واكبوا الشعب الأرمني منذ البداية في أيامه الصعبة ومسيرته المأسوية. وهنا صورة ضخمة في الذكرى الخمسين للمجازر الأرمنية تظهر تجمعًا كبيرًا يملأ الملعب البلدي في جونيه (تعود للعام 1965). وصورة أخرى تجسد التظاهرة الكبرى التي جرت هذه السنة في الذكرى المئوية. وعلى حائط جانبي صور عن النصب التذكارية في العالم من أميركا وأوروبا وأوستراليا وأرمينيا وغيرها. وينتهي المشوار بغرفة ماري جايكبسون حيث طاولتها وكرسيها وميدالياتها وأدواتها وصورة كبيرة تجمعها بالأولاد، ومنها استوحي اسم «عش العصافير».

 

الشاهد الحي
يضم المتحف وثائقيات عن المجازر الأرمنية، ومنها وثائقي يتضمن شهادات حية لرؤساء جمهورية ورجال دين من مختلف أنحاء العالم يعترفون بحقيقة الإبادة. وهو مجهز بشاشات على اللمس وسماعات وتسهيلات للمعوقين.
هذا المتحف شاهد حي لمليون ونصف مليون من الشهداء الذين استشهدوا بسبب المجازر التي ارتكبها العثمانيون، وهو شاهد حي لآلاف اليتامى الذين تلقوا الرعاية والتربية في لبنان من قبل المنظمات الإنسانية الأميركية والسويسرية والدانمركية، وهو أيضًا شهادة ناطقة لدور لبنان الأساسي في نهضة الشعب الأرمني، كما جاء في كلمة بطريرك الأرمن الاورثوذكس آرام الأول خلال افتتاحه المتحف في إطار نشاطات مئوية الإبادة الأرمنية...