- En
- Fr
- عربي
متاحف
في قلب الكلية الحربية، مصنع الرجال والقادة، ينبض متحف استثنائي لا يكتفي بعرض الماضي بل يحييه برؤيةٍ ثقافية معاصرة تحاكي ذاكرة الجيش والكلية، ويروي عبر أروقته وجدرانه قصص البطولة والتضحية والانضباط. يقف هذا المتحف شاهدًا حيًّا على مسيرة الجيش اللبناني والكلية، حارسًا لمحطّات مضيئة في مسيرة الوطن، في زواياه يقيم الإرث العسكري، وتلتقي التفاصيل الصغيرة بصور البطولات الكبرى. وهو شهد خلال الفترة الأخيرة، تحديثات لافتة حوّلته من مساحة تقليدية إلى صرحٍ حديث يواكب المعايير المتقدّمة في حفظ المحتويات وعرضها.
في العيد الثمانين للجيش، زارت مجلة ”الجيش“ متحف الكلية الحربية وجالت في أقسامه المستحدثة.
ويكتمل المشهد بمحتوى أرشيفي غنيّ يتضمّن مقالات نُشرت في مجلة «الجيش»، وحلقات وثائقية بثّها «برنامج الجندي» عن الكلية الحربية ومناهج التدريب فيها، فضلًا عن صور نادرة توثّق لحظات من احتفالات تخرّج الدورات عبر العقود، بالإضافة إلى عرض بزّات التلامذة الضباط من الذكور والإناث، بما يروي حكاية الانضباط والتميّز من جيل إلى آخر.
بعد الانتهاء من ترميمه وتجديده، أُعيد افتتاح المتحف بحلّته الجديدة في 3 /4 /2025 في حضور قائد الجيش العماد رودولف هيكل، والسفير الهولندي في لبنان فرانك مولين، إلى جانب قائد الكلية وضباطها والداعمين للمشروع. وهو بات يضمّ اليوم أقسامًا متطورة وحديثة، مع التركيز على دمج التكنولوجيا في عرض الموجودات بهدف توفير تجربة غنية للزوار، من خلال أجهزة لوحية تتيح الاطلاع على معلومات وصور توثّق تاريخ الجيش والكلية.
شملت عملية التحديث إعادة تصميم المساحات الداخلية بما يوفّر عرضًا تفاعليًا ومعاصرًا، يدمج بين الوسائط الرقمية والمقتنيات الأصلية. وتم لهذا الغرض تركيب شاشات ذكية، وأنظمة إضاءة موجَّهة، ومؤثرات سمعية وبصرية تعزّز تفاعل الزائر مع المعروضات. كما استُخدمت مواد إنشائية حديثة تراعي الطابع التاريخي، مع إضفاء لمسات هندسية تعكس القوة والانضباط العسكري.
البُعد الثقافي والتعليمي للمتحف
في لقاء مع قائد الكلية الحربية العميد الركن فادي أبو حيدر، أشار إلى أنّ مشروع تطوير المتحف بحلّته الجديدة، والذي انطلق خلال تولّي العميد الركن جورج صقر قيادة الكلية، كان ليبقى مجرّد فكرة لولا إسهام أفراد وجِهات من لبنان ودول صديقة في تقديم الدعم المالي والخبرات لتحقيقه. وأكّد أنّ أعمال التحديث لم تنتهِ بعد، إذ ستشهد الخطوة التالية تطوير أساليب حفظ الصور الفوتوغرافية رقميًا (DIGITAL).
ونوّه العميد أبو حيدر بالبُعد الثقافي للمتحف، معتبرًا أنّه منصّة تعليمية متكاملة، مفتوحة أمام الباحثين والزائرين، بما توفّره من جولات معرفية تفاعلية تُغني ثقافتهم في ما خصّ دور الجيش ورسالة الكلية في بناء الوطن. وهو أيضًا مقصد لطلاب المدارس والجامعات، وللوفود المدنية المحلية والأجنبية المهتمة بتعزيز الوعي بتاريخ الكلية وتطوّر المؤسسة العسكرية منذ تأسيسها حتى اليوم.
وفي هذا السياق، توقّف قائد الكلية عند عبارة قالها قائد الجيش العماد هيكل في افتتاح المتحف: «من لا تاريخ له، فلا حاضر له ولا مستقبل»، مؤكدًا أنّها تختصر دور المتحف في تثبيت هوية المؤسسة عبر الأجيال. فالمتحف ليس مكانًا لحفظ التاريخ فقط، بل هو فضاءٌ ثقافي يُعيد ربط الإنسان بجذوره، ويجعل من الذاكرة العسكرية جزءًا حيًا من الوجدان الوطني.
تحية وطنية وإنسانية
ارتكز مشروع تحديث متحف الكلية الحربية على مبدأ أساسي: مواكبة التطور التكنولوجي بأسلوبٍ يحفظ روح المؤسسة العسكرية ويجسّد رسالتها التاريخية. هذا ما خلصت إليه الجولة التي قمنا بها برفقة العميد الركن الطيار موسى النداف رئيس قسم الدروس والعمليات في الكلية، والعقيد الركن محمد علوش قائد لفيف اللوجستية والمدافعة، والرائد الياس البلعه مسيِّر أمور قسم التأليل، الذين أشرفوا على عملية تطوير المتحف، من أشغال وتقنيات في المجال التكنولوجي والرقمي، كما واكبوه بحلّته الجديدة وترتيب محتوياته.
تحوّل متحف الكلية الحربية إلى مساحة نابضة بالرموز والمعاني، بعدما شمل التحديث مختلف أقسامه، بدءًا من المدخل حيث وُضع عنده مَعلم تذكاري مهيب نُقشت عليه أسماء شهداء ضباط الجيش بدءًا من أول شهيد، حتى آخر شهيد سقط خلال العدوان الإسرائيلي الأخير. يقف الزائر أمام هذا النصب في حضرة تضحياتٍ لا تُحصى، تتجاوز الرمز لتصبح نداءً وطنيًا وأخلاقيًا، يُذكّره بأن الحرية والسلام والاستقرار لم تكن يومًا منحة، بل حصيلة دماءٍ وأرواحٍ قُدّمت على مذبح الوطن.
وفي مقابل المدخل، الجناح الرئيسي في المتحف: قاعة الشرف. هنا يتصدّر المشهد مكتب يُعرض عليه السجل الذهبي الذي يوقّع عليه رئيس الجمهورية عبارةً عند كل احتفال تخريج يقام في الأول من آب، أو خلال زيارة الوفود الرسمية اللبنانية والعربية والأجنبية للكلية. في هذه القاعة يزهو العلم اللبناني الذي ارتفع لأول مرة بعد الاستقلال في العام 1943 في ثكنة فوج القنّاصة الأول بقيادة المقدم جميل لحود، وإلى جانبه رايات وحدات الجيش وبيارقها. هذه القاعة باتت مخصصة للمحطة الأخيرة في احتفالات التخرّج، إذ تستقبل الشخصيات الرسمية والمدعوين قبل التقاط الصورة التذكارية أمام نصب شهداء ضباط الجيش.
عرض تفاعلي بمواصفات عصرية
تماشيًا مع روح العصر والتحوّل الرقمي الذي يشهده العالم، عَرف متحف الكلية الحربية نقلة نوعية في أسلوب العرض، إذ استُبدلت اللوحات التقليدية المُعلّقة على الجدران والتي تحمل السير الذاتية لرجالات الوطن وقادة المؤسسة العسكرية، بأجهزةٍ لوحية إلكترونية ثابتة (tablets) موزعة بعنايةٍ في جناح الشرف وسائر أجنحة المتحف. هذه الأجهزة التفاعلية تُتيح للزائر الغوص في محتوى غني ومفصّل، يشمل سيرًا ذاتية وصورًا نادرة تعود لرموز الوطن وقادة المؤسسة العسكرية.
فمن خلال هذه التجربة الرقمية، يمكن استكشاف محطات مفصلية من تاريخ الكلية الحربية، والتعرّف إلى أسماء الضباط الذين تركوا بصماتهم في مختلف المراكز، من أولئك الذين تولّوا رئاسة الجمهورية، بدءًا من اللواء فؤاد شهاب وصولًا إلى العماد جوزاف عون، إلى الضباط الذين تسلّموا رئاسة الحكومة أو وزارات في أثناء خدمتهم العسكرية، فضلًا عن سلسلة قادة الجيش منذ اللواء شهاب حتى العماد رودولف هيكل، مرورًا بكل من تولّى قيادة المدرسة والكلية الحربية عبر العقود، إلى وثائق نادرة ونماذج ميدانية معروضة عبر شاشات تفاعلية. وقد تمّ تقديم هذا العرض بأسلوبٍ تعليمي عصري يهدف إلى جذب الزوار وتعزيز تجربتهم المعرفية والتفاعلية.
ويزيّن هذه القاعة تمثال من الحجر يرمز إلى محارب روماني يرتدي بزّة عسكرية رسمية مقلّدة بالأوسمة، يحاكي في تصميمه التماثيل الرومانية القديمة للقادة العسكريين، وقد تم ترميمه من قبل فوج الأشغال المستقل بالتنسيق مع المديرية العامة للآثار.
ذاكرة الكلية
في الجناح الثاني من المتحف، تنفتح الذاكرة على آفاق أرحب وتغوص بشكلٍ أعمق في تاريخ الكلية، إذ يوفّر اللوح الذكي للزائرين فرصة استكشاف نشأة الكلية الحربية منذ تأسيسها، والتعرّف إلى مراحل تطوّر بيرقها، والاطلاع على أبرز اتفاقيات التعاون التي أبرمتها مع الجامعة اللبنانية وعدد من الجامعات الخاصة.
في هذا الفضاء التفاعلي، تلمع أسماء تركت بصمتها في تاريخ الجيش، وتتوالى أسماء الدورات المتخرّجة من الكلية على مدى قرن، منذ 1923 حتى 2024، إلى جانب لائحة بأسماء طليعي كل دورة منذ العام 1944. كما يُعرض للزوّار نص الوثيقة التاريخية التي وقّعها عدد من الضباط اللبنانيين الرافضين الانصياع لأوامر سلطات الانتداب، في موقف وطني جسور لا يُنسى.
ويكتمل المشهد بمحتوى أرشيفي غنيّ يتضمّن مقالات نُشرت في مجلة «الجيش»، وحلقات وثائقية بثّها «برنامج الجندي» عن الكلية الحربية ومناهج التدريب فيها، فضلًا عن صور نادرة توثّق لحظات من احتفالات تخرّج الدورات عبر العقود، بالإضافة إلى عرض بزّات التلامذة الضباط من الذكور والإناث، بما يروي حكاية الانضباط والتميّز من جيل إلى آخر.
جناح الأسلحة
من التكنولوجيا الحديثة إلى عبق الماضي، يصطحب الجناح الثالث الزائر في رحلةٍ عبر تاريخ الأسلحة في الجيش اللبناني، من النماذج القديمة التي استُخدمت في مراحل مختلفة من تاريخه، إلى الأسلحة الحديثة التي تعتمدها اليوم مختلف قطع الجيش (مشاة، ومدرعات، ومدفعية، وسلاح جو...). وقد عُرضت هذه النماذج بطريقةٍ مبتكرة تختلف عمّا كانت عليه في السابق. أما القسم الأكبر منها فمتوافر على شكل صور رقمية (DIGITAL) ومن بينها:
• مسدسات فرنسية وبلجيكية وإيطالية من عيارات مختلفة تعود إلى العام 1961.
• بنادق بلجيكية ومصرية وإيطالية قديمة يعود بعضها إلى العام 1907.
• مدفـع عيـار 25 ملـم فـرنسـي الصنـع.
ومن الرموز البارزة في المتحف، شعلة الأجيال التي لا تنطفئ، والتي تشير إلى استمرارية العطاء العسكري وتوارث القيم بين دفعات الضباط جيلاً بعد جيل. وإلى جانبها، تُعرض خوذ عسكرية تعود إلى جيوش أجنبية كبرى مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، والاتحاد السوفياتي سابقًا، وإيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا… وكلّها تجسّد ملامح من التاريخ العسكري العالمي.
كما تُعرض مجموعة من الميداليات والكؤوس التي أحرزتها الكلية الحربية خلال مشاركاتها في مباريات رياضية وعسكرية، سواء داخل الجيش أو مع الجامعات. ولعلّ أهم المحطات المعروضة، تلك التي توثّق معارك مفصلية خاضها الجيش اللبناني، ومنها معركة نهر البارد (2007)، معركة عبرا (2013)، أحداث طرابلس (2013)، معركة عرسال (2014)، ومعركة فجر الجرود (2017). وقد اختُزلت كل معركة بصورة واحدة تعبّر عن روح القتال والتضحية، وتُظهر البعد الإنساني للمواجهة.
وعند زاويتَي المتحف، تنتصب شاشتان كبيرتان تُضفيان بعدًا بصريًا تفاعليًا على التجربة المتحفية. الأولى تعرض مجموعة من الأفلام الوثائقية الخاصة بالكلية الحربية، مترجمة إلى لغات أجنبية لتصل رسالتها إلى جمهور متنوّع. أما الثانية، فتوثّق أبرز نشاطات الكلية ومهماتها، سواء على الصعيد العسكري أو الأكاديمي، فتمنح الزائر نظرة شاملة إلى الدينامية التي تتحرّك بها هذه المؤسسة العريقة.
من التطوّع إلى التخرّج
يحتوي المتحف على جناحٍ مميّز يُجسّد رحلة التلميذ الضابط داخل الكلية الحربية خلال السنوات الدراسية الثلاث من إعداده العسكري، في عرضٍ رمزي متسلسل يحاكي مراحل تطوّره الجسدي والذهني. إذ يتمثَّل بتلميذ ضابط في السنة الأولى مرتديًا البزة العسكرية القديمة، وتلميذ في السنة الثانية بالبزة الجديدة، وصولًا إلى البزة الرسمية في السنة الثالثة. أما المشهد الأخير فيجسّد الضابط مرتديًا البزة الزرقاء للدلالة على السلاح الذي سيُمضي فيه خدمته العسكرية.
الذاكرة في خدمة الحداثة
تماشيًا مع التوجّه نحو الحداثة والابتكار، عمل القيّمون على متحف الكلية الحربية على تقليص حجم النصوص التقليدية التي كانت تملأ الجدران، واعتماد أسلوب رقمي تفاعلي يسهّل الوصول إلى المعلومات. فمن خلال ركن مخصّص، يمكن للزائر تصفّح قاعدة بيانات إلكترونية متكاملة تعرض أسماء الدورات التي تخرّجت حتى اليوم، والتي تَجاوز عددها 150 دورة، منها 84 دورة للتلامذة الضباط، إلى جانب دورات ضباط اختصاص والتأهيلية ودورات آمر سرية.
ويتيح هذا العرض الإلكتروني الاطلاع على أسماء رؤساء الجمهورية الذين ترأسوا احتفالات التخريج، إلى جانب أسماء الضباط وصورهم، في عرض إلكتروني منظّم يعكس الاهتمام بالتفاصيل وسهولة التصفح. أما المعلومات المثبتة على الجدران، فقد اقتصرت على اسم كل دورة واسم طليعها، في انسجام مع التوجه العام نحو تبسيط الشكل وإغناء المضمون عبر الوسائط الرقمية.
وفي هذا السياق، شكّلت «قاعة الأعلام» مساحة رمزية تعبّر عن وحدة المؤسسة العسكرية وتنوّع وحداتها وقطعها.
الروح العسكرية برؤية مدنية
ارتكزت فكرة تجديد المتحف على جعله متماهيًا مع روح العصر، يحاكي التطوّر التكنولوجي ويواكب التحوّلات الرقمية في أساليب العرض والتوثيق. وقد جاءت خطة تطويره ثمرة رؤية معمارية متطورة وضعها المهندس الدكتور شكري مكرزل من جامعة الروح القدس - الكسليك، وتم تنسيق العناصر المعمارية بأسلوبٍ يراعي البُعدين المعرفي والجمالي. فالإضاءة الذكية تناغمت مع تقسيمات هندسية هادئة، بألوانٍ تعبّر عن الطابع العسكري مع لمسات مدنية راقية، فيما أُضيفت غرف جديدة تمّت مراعاة نظام التهوئة، والتدفئة، والتبريد فيها، لضمان راحة الزوّار وجودة العرض.
تمثل إعادة افتتاح متحف الكلية الحربية بحلّته الجديدة لحظة مفصلية، فهي ليست مجرّد احتفال بمتحفٍ مُعاد ترميمه، بل استعادة ذاكرة وطنية من خلال التصميم التفاعلي والوقوف عند أمجاد الماضي والمضي نحو المستقبل، مع الحفاظ على الهوية الوطنية التي تبدأ بقصص البطولة، ونقلها إلى الأجيال الجديدة.
خلفية تاريخية عامة
افتتح رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجيه متحف الكلية بتاريخ 20 حزيران 1972 لمناسبة الاحتفال بذكرى «يوبيل المدرسة الذهبي»، ثم أُعيد افتتاحه بعد ترميمه بتاريخ 28 تموز 2017 «برعاية العماد جوزاف عون قائد الجيش» كما دُوِّن على لوحة تذكارية محفوظة داخل المتحف.











