متاحف في بلادي

متحف الهجرة اللبنانية في جامعة سيدة اللويزة
إعداد: جان دارك أبي ياغي

تاريخ حافل بالصور والوثائق عن المهاجرين إلى البرازيل وكولومبيا والمكسيك والأرجنتين...
 

مهاجرو الجيل الخامس ما زالوا يحتفلون بعيد الاستقلال ويدمعون كلّما سمعوا فيروز

أن يكون للبنان متحف يروي تاريخ الهجرة اللبنانية، فهذا أبسط الأمور لما لهذا الوطن من سجل حافل مع الهجرة التي لم تتوقف يومًا منذ هجرة أول مواطن لبناني في منتصف القرن الثامن عشر. وأيًا كانت أسباب الهجرة، ظروفها، تواريخها، وأيًا كانت وجهتها، لا يمكننا التغاضي عن وجهها الإيجابي وانعكاسها صورة مشرقة للبناني في الخارج من خلال إنجازاته وإبداعاته.
من أجل الحفاظ على هذا الإرث، بات اليوم للهجرة اللبنانية صرح يحفظ ذاكرتها، بفضل مركز دراسات الانتشار اللبناني في جامعة سيدة اللويزة الذي أخذ على عاتقه مبادرة إحياء ذاكرة الإغتراب والهجرة اللبنانية بكل مكوناتها ومدوناتها وحفظها في متحف يشكّل بما يحويه كتابًا قائمًا بذاته.
للاطلاع على ذاكرة الهجرة الجماعية بكل مراحلها وتشعباتها، كان لا بدّ من زيارة المتحف في جامعة سيدة اللويزة واستكشاف مكنوناته.

 

رؤية مركز دراسات الانتشار اللبناني
تـأسس مركز دراسات الإنتشار اللبناني بمبادرة أكاديمية من جامعة سيدة اللويزة في نيسان العام 2003 كنتيجة لوعي الجامعة أهمية الإنتشار اللبناني ومساهمة المغتربين في أرض أجدادهم وفي البلدان التي اختاروها موطنهم الجديد.
يهدف المركز إلى أن يصبح مركز الأبحاث الأوّل والأرشيف الأهمّ للانتشار اللبناني في العالم. وهو يسعى إلى القيام بالأبحاث، بالتعاون مع مراكز أخرى وباحثين آخرين، عن المغتربين اللبنانيين والمتحدرين من أصل لبناني في جميع أنحاء العالم، كما يؤدي دور المستشار للمنظمات الحكومية وغير الحومية المتصلة بمجال عمله وتتسع لائحة أهداف هذا المركز لتشمل: وضع نظام قاعدة بيانات لجمع المعلومات وتحليلها، إنشاء مكتبة متخصصة بالإنتشار بمختلف اللغات (عربي، ياباني، روسي، إنكليزي، إسباني...)، تضم الكتب، والمجلات، والأقراص المدمجة، وغيرها من المنشورات المكتوبة والإلكترونية، تنظيم المؤتمرات والندوات، تطوير «برنامج تاريخ شفهيّ» وطباعة المذكرات الفردية حول تجارب الإغتراب، المطالبة ببرنامج خاص لشهادة الماجستير في دراسات الإنتشار، مع التركيز على الإنتشار اللبناني ودعمه، إقامة معارض ونشاطات فنية وأدبية... (نظّم المركز أول معرض فني عن الهجرة اللبنانية في العام 2010 في قاعة الدوم-بيروت، كان الهدف منه تبيان رؤية الفنان اللبناني لموضوع الهجرة، وكيفية تجسيدها عبر مواد غير نصية)، وإنشاء شبكة لإرسال واستقبال المعلومات والبيانات المتعلّقة بالمجموعات اللبنانية في لبنان والخارج.

 

جولة في أرجاء المتحف
إفتتح متحف لبنان والهجرة في كانون الأول من العام 2005 بحضور رسمي واجتماعي وثقافي. وهو بمحتوياته يفتح نافذة على تجربة المغتربين في بلدان المهجر العديدة في الماضي والحاضر. بفضل الصور، والأعمال الفنية والمستندات المختلفة والأغراض الثقافية المتنوعة الموزعة في أرجاء المتحف، يمكن الاطّلاع على التفاصيل الشخصية الخاصة بالمجتمعات والعائلات اللبنانية في بلاد المهجر. كما تعرض أغراض نادرة من أرشيف مركز دراسات الإنتشار اللبناني، وعيّنات من الأرشيف الوطني اللبناني ومن الأرشيف البطريركي.
يضم المتحف مجموعة كبيرة من الصور المعلّقة لمهاجرين لبنانيين إلى القارة الأميركية، بشقّيها الشمالي واللاتيني.. صور للبنانيين على متن بواخر الهجرة مطلع القرن العشرين، صور توثق كيفية إحياء المهاجرين الأعياد الوطنية، إلى صور لوثائق وهويات تؤكد لبنانية المهاجرين إلى البرازيل، كولومبيا، المكسيك، الأرجنتين وأميركا...
ما كان المتحف ليبصر النور لولا تلاقي مبادرتين اثنتين: مبادرة مركز دراسات الإنتشار اللبناني، ومبادرة عدد من السفراء اللبنانيين السابقين والمهاجرين المتحدرين من أصل لبناني في تقديم مجموعاتهم للمتحف.
أول مجموعة عرضت في المتحف عن الهجرة اللبنانية إلى البرازيل تقدمة المستشار الثقافي السابق في سفارة البرازيل والباحث والمسؤول عن العلاقات العامة مع أميركا اللاتينية في المركز، روبيرتو خطلب. وتضم المجموعة صور عدد من اللبنانيين الأوائل في البرازيل، إلى جانب مجموعة من الطوابع البريدية، الكتب والمجلات الصادرة باللغتين العربية والبرتغـــاليـة لأصحابـهـا اللبنانيــين، إلى وثائق ومستندات وبطاقات هوية وجوازات سفر.

وتضيف مجموعة القنصل الفخري في البرازيل المغفور له ألبير نعمة التي وهبتها العائلة للمتحف بُعدًا للهجرة اللبنانية إلى البرازيل، إذ تتضمن إلى صور مناسبات لبنانية في عدة مدن برازيلية، مجموعة من المراسلات الدبلوماسية تعود إلى العام 1949 والنصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، من بينها رسائل موجهة من القنصل الفخري ألبير نعمة إلى رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون. أما الصور المعروضة، فتؤرّخ لاحتفالات المهاجرين اللبنانيين الوطنية (عيد الإستقلال) والإجتماعية، ويجاورها قصاصات الجرائد التي غطّت المناسبات اللبنانية، لتتوج هذه المجموعة بمخطوطة يروي فيها القنصل نعمة رحلته إلى البرازيل.
وتضم مجموعة لودي برايس رئيسة الجمعية الثقافية اللبنانية- البرازيلية، صورًا ومجلات وطوابع وأوراق يانصيب وملصقات... أما مجموعة محسن يمين فعبارة عن صور مهاجرين من إهدن وزغرتا بشكل أساسي.
لوحة الرسام الدكتور رؤوف رفاعي التي قدّمها الى المتحف، تجسّد المغترب اللبناني، وقد أراد الفنان من خلالها أن يبين التضارب في نظرة الغرب لنا، فتارة يرانا كبحاثة، كأطباء مشهورين، كرجال أعمال ناجحين، وطورًا يرانا كمتخلّفين أو كإرهابيين...

 

الهجرة إلى أفريقيا
أما العنوان الثاني في هذا المتحف فهو «هجرة اللبنانيين إلى نيجيريا في القارة الأفريقية»، التي وثقتـها مجموعة المغترب اللبناني إيلي نبهان- المسؤول في مركز دراسات الإنتشار اللبناني الذي لم يستعد جنسيته اللبنانية بعد، هذه المجموعة غنية بالوثائق والصور وقصاصات الجرائد والمواد الثقافية، إلى الأزياء التقليدية التي كان يرتديها اللبنانيون في المناسبات الوطنية منذ أكثر من ستين عامًا. يضاف إلى ذلك قطع زينة من العاج، واللوحات الفنية التي اعتاد المغتربون اللبنانيون على إحضارها معهم من بلدان أفريقيا... فيما يتصدّر حجر المرجان هذه المجموعة، ذلك أن النيجيريين أطلقوا على اللبنانيين اسم «كورا» نسبة إلى حجر المرجان الذي كان يتاجر به المهاجر اللبناني في أفريقيا.

 

مجموعة جامعة سيدة اللويزة
المعروض من مجموعة جامعة سيدة اللويزة الخاصة والتي ابتاعتها من مصادر متعددة ومختلفة، هو نموذج عما تحفظه في المستودعات. وتضم إلى بطاقات هوية بعضها من الزمن العثماني، مراسلات بين الدولة اللبنانية وسفراء لبنان في عدد من الدول، مراسلات عائلية، جرائد يومية قديمة صادرة في البرازيل باللغة العربية، من بينها جريدة تحمل اسم «بيروت».
في أحد أعداد هذه الجريدة، (الصادر بتاريخ 7 كانون الأول 1947)، نقرأ افتتاحية العدد بقلم سعيد تقي الدين، والتي يعلن فيها تبرّع الجالية اللبنانية في الفيليبين بمبلغ 20 ألف دولار في سبيل الدفاع عن فلسطين. وفي العدد نفسه نكتشف أقدمية الإنتشار اللبناني في الفيليبين. وليس بعيدًا عن الجريدة، وثيقة أخرى تبرز إرسال المهاجرين أموالا إلى عائلاتهم في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى... «فما أشبه اليوم بالأمس» إذ لا يزال المغترب والمهاجر اللبناني عصب الدورة المالية في وطنه الأم بما يرسله إلى عائلته من أموال يصل مجموعها سنويًا إلى ما يزيد عن الست مليارات دولار.
ومن كولومبيا، مجموعة ضخمة من الكتب الأدبية والمجلات اللبنانية الصادرة باللغة الإسبانية، من ضمنها مجموعة الأديبة والشاعرة من أصل لبناني ميرا ديلمار، إلى مجموعة مؤلفات الأديب المهجري فرناندو داغر شديد، ومجموعة المؤلف الموسيقي فرنكو جاكوبو(يعقوب). والجناح الكولومبي بما يحوي من مؤلفات أدبية وشعرية صادرة باللغة الإسبانية يثبت مدى غزارة الإنتاج الثقافي اللبناني، وإسهامه في إثراء الساحة الثقافية الكولومبية.

 

الصحافة المهجرية
تحتل جرائد الاغتراب اللبناني- الهجرة القديمة مساحة واسعة في المتحف، وهي تقدّم لمحة مفصّلة عن علاقة اللبناني أينما وجد بالكلمة ومهنة البحث عن المتاعب. من هذه الجرائد مثلًا جريدة الاستقلال الصادرة في ريو دي جانيرو- البرازيل (1921)، جريدة الحقيقة (1933) لصاحبها ورئيس تحريرها الدكتور الياس عبدالله الخوري والتي كان يساعده في تحريرها الدكتور نجيب سليمان معضاد، جريدة «الإصلاح» الصادرة في أوليفايرا منياس- البرازيل (1921) لصاحبيها سعيد مطر ونجيب العسراوي، جريدة «الجالية» في ساو باولو (1922) لصاحبها ورئيس تحريرها سامي يواكيم الراسي وجريدة «الوطن» لصاحبها ورئيس تحريرها ابراهيم فرح الصادرة في ساوباولو- البرازيل أيضًا (1919)... وغيرها من الصحف والمجلات المهجرية التي تصدّرت صفحاتها الأولى في حينه أخبار لبنان، ما يؤكّد عمق ارتباط لبنان المغترب بلبنان المقيم.

 

يا حجل صنين...
للأرشيف المهجري المرئي والمسموع مكانة في المتحف وإن كان غير معروض. فالكومبيوتر سمح بالإطّلاع عليه بالصوت والصورة، من بينها مثلا حفلة أقامتها الجالية اللبنانية في الأرجنتين لمناسبة عيد الإستقلال أحيتها فرقة الأرز الأرجنتينية، أبرزت مدى تعلّق المتحدّرين من أصل لبناني بالجذور اللبنانية. فهؤلاء وعلى الرغم من عدم إتقانهم اللغة العربية، ولا حتى فهمها، «تقوم قيامتهم» عند سماع أغنية «يا حجل صنين» للسيدة فيروز، علمًا أن الهجرة اللبنانية إلى الأرجنتين توقفت بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لا يزال الجيل الخامس المتحدّر من أصل لبناني متعلّقًا بالمناسبات الوطنية، ويدمع عند سماع فيروز.
واللافت أن الأرشيف غير المعروض حاليًا، يضم أيضًا مجموعة أدبية لما يعرف بـ«أدب المهجر» كمجموعة أهم شاعرة في أميركا الجنوبية من أصل لبناني من عائلة الحبش... وإلى هذه، مجموعة موسيقية لمؤلّفين وعازفين من أصل لبناني... إلى أعمال موسيقية بتوقيع أجنبي تؤدّي التحية لعظماء من لبنان، من بينها قطعة موسيقية للمؤلفة وعازفة البيانو الأميركية مينوتا كيسلر التي وضعت موسيقاها على كــلام لجبــران خليل جبران العام 1962 وأدتهــا في حينــه السوبرانــو ليســلي هولمز.

 

متحف وصرح تربوي
أخذت جامعة سيدة اللويزة قرارًا بتخصيص قطعة أرض داخل حرم الجامعة لبناء متحف يكون في الوقت نفسه صرحًا تربويًا مفتوحة أبوابه للمدارس والجامعات والعموم والمهاجرين، على غرار متحف المهاجرين على جزيرة «أليس أيلاند» الأميركية.
أما عن سبب اختيار حرم الجامعة مقرًا للمتحف، فتوضح مديرته الدكتورة غيتا حوراني: «أن الجامعة تقع على خط سياحي في قلب كسروان يبدأ من آثار نهر الكلب مرورًا بمغارة جعيتا وصولًا إلى آثار فقرا التاريخية، وهي بذلك تشكّل محطة أساسية للتوقف عندها وزيارة المتحف للتعرّف على أوجه الهجرة المتعددة».
وعن أهمية المتحف تقول: «تخزين ذاكرة الهجرة اللبنانية عمل صعب، ولكن بفضل التعاون الوثيق والتواصل المستمر بيننا وبين الجمعيات المهجرية والمنظمات العالمية اللبنانية وغير اللبنانية التي تعنى بالإغتراب بشقيه اللبناني والعالمي، كان هذا المتحف. مع العلم أن المتحف مهتم أيضًا بكل ما له علاقة بالشخصيات اللبنانية المشهورة عالميًا، كل في مجال اختصاصه، إذ سيخصص جناح يسلّط الضوء عليهم وعلى دورهم في العالم ولبنان».
وتضيف حوراني: «أهمية هذا المتحف أنه الأول من نوعه في لبنان وأردناه حافظًا ليس فقط لذاكرة الهجرة للبنانيين إنما أيضًا للهجرة باتجاه لبنان من عدد من دول آسيا».
تؤكّد الدكتورة حوراني أن مجموعة الأغراض الخاصة بالانتشار اللبناني تشكّل جوهر رسالة المركز، إذ إنها تقدّم سجلًا تاريخيًا أساسيًا ومصادر قيّمة للباحثين الأكاديميين والمتخصصين في السلالات.
وهي توجّه رسالة إلى الذين يمتلكون مستندات وأغراضًا من شأنها الحفاظ على هذا التاريخ ويرغبون مشاطرتها مع الآخرين، بالتعاون مع المركز إذ إن اختصاصيي الأرشفة فيه سيعتنون بها أو يقومون بتصويرها لحفظها في الأرشيف الإلكتروني وإعادتها لهم.