متاحف في بلادي

متحف جامعة سيدة اللويزة
إعداد: جان دارك أبي ياغي

الحجارة مرايا التراث!

 

كلما قامت مؤسسة علمية بإنشاء متحف تكون قد وضعت مدماكاً في بناء العلوم الإنسانية. وهذا ما قامت به جامعة سيدة اللويزة، إذ أنشأت متحفاً الهدف منه تثقيف الشباب اللبناني والعربي في جميع ميادين العلوم الإنسانية، ما يفسح المجال أمام النشء للتعرّف على التراث والتمسّك بالثقافة، لأن بترول لبنان هو هذا الغنى الحضاري الذي ميّزه عن جميع بلدان العالم.
متحف الحجارة الذي افتتحته الجامعة يضم بأكثريته أوانٍ ظرانية وصوانية وفخارية وحجرية تنم عن إبداع رجل ما قبل التاريخ وما قبيل التاريخ، وسيتوسع بالقريب العاجل إلى متحف أشمل لتعرض فيه قطع من كل الثقافات التي مرّت على الوطن عبر ستة آلاف سنة من الحضارة.
مجلة «الجيش» واكبت افتتاح هذا المتحف الذي تحتضنه الرهبنة المريمية كي يكون مركز إشعاع علمياً لشباب لبنان وغير لبنان.


الكشف عن تراثنا الدفين

إلى جانب دورها الوطني والتربوي والتعليمي، تسعى جامعة سيدة اللويزة (NDU) في ذوق مصبح إلى تعزيز إرثنا الثقافي والكشف عن تراثنا الدفين.
ولهذا، ومنذ بدء تأسيس هذه الجامعة، قرّر رئيسها السابق الأباتي فرنسوا عيد، تخصيص قاعة لمتحف يضم ما يتوافر من كنوز وآثار وروائع فنية قديمة. وها هي أمنيته تتحقق، بالتعاون مع رجل الخير والعطاء، الراحل المرحوم بيار أبو خاطر، الذي ساهم في هذا البناء، ورغب في إطلاق اسم أخيه بول، الذي توفي قبله، بسنوات، على هذا المتحف.
وخلال السنتين الماضيتين، جرى اتصال بواسطة السيدة جاكلين عيد، بين الجامعة وبين الأب كميل افرام، الذي كشف لها عن تراث ضخم ومميّز، تركه فرانك ولور سكيلز وقد توفيا، وهو، أي هذا التراث، شاهد على حضارة عريقة وروح فنية وعلمية جبارة. وكان الأب افرام قد قدّم هذا التراث، ليوضع في الجامعة، وليكون في خدمة الطلاب وأهل الفكر والتاريخ.

 

مَنْ هما فرانك ولور سكيلز؟

سنة 1921، زار انكل سكيلز والد فرانك سكيلز لبنان الخارج من الحرب العالمية، وعاد إلى انكلترا حاملاً صوراً فوتوغرافية عن لبنان والحياة الاجتماعية فيه، عن المباني وطرق بيروت وشوارعها يومذاك وعن المعالم الأثرية المنتشرة في كل ربوعه، مما حرّك فضولية ابنه فرانك شوقاً إلى رؤية ما حمله والده على أرض الواقع. وشاءت العناية أن يأتي فرانك إلى لبنان كضابط مع الجيش البريطاني في الأربعينيات.
ولفرط ما أحب هذا الوطن الجديد، كانت له صولات وجولات في المجتمع البيروتي فتعرّف إلى الآنسة لور صادر، فتاة متعلمة مثقفة فاقترنا سنة 1949.
وقعا في الفترة الأولى من حياتهما الزوجية ضحية خادمة دسّت لهما السم في الطعام فمرضا، لكن فرانك لم يتأثر كثيراً أما لور فدفعت الثمن غالياً إذ حال وضعها الصحي دون الإنجاب.
مع هذا كله، بقي حب لبنان راسخاً في قلبيهما وقرّرا البقاء في ربوعه إلى أن دخل عليهما راهب يسوعي مبتدئ أحبّاه محبة الآباء للأبناء وبادلهما العطف والمحبة والعرفان بالجميل...
وكانت عائلة فرانك والأصحاب والأقارب يأتون من انكلترا وأوروبا عامة ليزوروا لبنان، مما يضطر فرانك وزوجته لمرافقتهم. فاستفاقت في ذهن فرانك الصور الفوتوغرافية التي حملها الوالد وأخذ ينمو معها تباعاً الشغف بالآثار والأحجار وحب التعرّف إلى كل المناطق الأثرية في الشرق خصوصاً كما في أوروبا.
فكان لهما مسح كامل للبنان وسوريا والأردن وتركيا وبعض البلدان الأوروبية. وفي سياق التعرّف إلى ما ترك إنسان العصر الحجري الذي سكن لبنان من أدوات حجرية صوانية، كان لهما اكتشاف موقع كوكبا وعين الحلوة، وقدّما مجموعة منها إلى الجامعة اللبنانية. وجمعا أيضاً حجارة من مناجم عدة أثناء عطلهم السنوية من كافة البلدان التي زاراها فكوّنا منها مجموعة لا بأس بها، إلى جانب متحجرات وسلايدز التقطاها أينما ذهبا وحلاّ.
لقد خدم كل من فرانك ولور سكيلز الثقافة والكنيسة في لبنان بما جمعته أيديهم خلال نصف قرن تماماً من صور ومتحجرات ومواقع الإنسان الأول، إلى كتب سعيا إلى تأمينها من أوروبا لإحدى الرهبانيات المارونية. كما قاما باستقبال العديد من الطلاب والتلامذة واطلعاهم على مجموعاتهم وقدّما لهم العون في مجالات دراستهم وأبحاثهم، لا يدفعهما إلى ذلك إلا رغبتهما في نشر الثقافة وتعميمها.
وفي 28 آذار سنة 2000 توفي فرانك سكيلز عن عمر يناهز الثمانين، وكان قد جمع طوال حياته مع زوجته، علاوة على ما ذكرنا آنفاً، معلومات عن المواقع السياحية والتاريخية وطرق لبنان كافة، فصدر بعد وفاته كتاب عنوانه: Highways and Bgways of Lebanon - Garnet Edition وترجم إلى الفرنسية تحت عنوان: Liban Connu et Méconnu - Guide Détaillé.
وبعد سنتين تقريباً توفيت زوجته لور في آخر شهر كانون الثاني 2002 تاركة هذا المتحف بعهدة الأب كميل افرام كونها ابنة رعيته، وايماناً منها بأنه سوف يحقق رغبتها.
وها هو المتحف في خدمة أبنائنا وعهدة الآباء المريميين الذين أظهروا قدرة هائلة في دفع عجلة الوعي الثقافي المبني على أسس علمية وملموسة.

 

اسم للخلود في متحف للتاريخ

يضم متحف الحجارة الأدوات التي صنعها الإنسان للحاجات اليومية وللضرورات الحياتية والتي تعتبر قطعاً فنية. هذه القطع غالباً ما كانت تسلخ عن إطارها الاجتماعي التاريخي ولم تتم المحافظة عليها، وذلك نظراً لعدم إدراك أهميتها.
والمتحف يحتضن كل هذه القطع المعروفة بالمنقولة - لتمييزها عن البنى الأساسية غير المنقولة، أي الهندسة المعمارية - مع التأكيد على أن الأهم في واجبات المتاحف ليس الحفاظ على تلك القطع، انما أيضاً وخصوصاً دراستها بصورة علمية وإعادة رصفها في إطارها الاجتماعي والتاريخي الطبيعي، مما يؤدي إلى متابعة تطوّر الثقافة التي ابتدعتها فيطّلع عليها المعنيون بالشأن العلمي وغيرهم.

 

مدماك مهم في بنيان الوطن

في مقابلة مع الدكتور ناجي كرم وهو (استاذ في الجامعة اللبنانية - كلية الآداب - قسم الفنون والآثار) المشرف على تنظيم المتحف قال: «إن إنشاء متحف في وطن، يعني وضع مدماك مهم في بنيان هذا الوطن. فالمتحف ليس مركزاً علمياً وحسب، إنما هو أيضاً مرايا لتراث، والتراث ذاكرة وهوية وجذور فمستقبل. وقد أريد لهذا المتحف الذي تم افتتاحه في 9 آذار 5002، أن يكون تربوياً بالدرجة الأولى، لا مجرّد معرض لجماد لا نفع منه صامتاً. ونأمل أن يخرج منه الزائر وقد استزاد علماً حول انسان ما قبل التاريخ والحضارة في لبنان، فيتضح له في دقائق مسار تطوّر الأدوات الصوانية الأولى التي هي في أساس تطوّر التقنيات في العالم. ويستوعب، بدون شرح مطوّل، ماهية صنع الأدوات الحجرية، وكيفية استعمال الشاقوف والفأس والمكشط والمقدح، والمنجل، والجاروش وغيرها... وقد يغلب عليه التأثر إن عرف كيف يشاهد اليد التي كانت وراء صنع هذه الأدوات واستعمالها».

 

تركيبة المتحف

أثناء تجوالنا في أرجاء المتحف، شرح لنا الدكتور ناجي كرم كيفية تركيبة المتحف الذي يقسم إلى ثلاث مجموعات:
- المجموعة الأولى: من صنع الانسان.
- المجموعة الثانية: الأحجار الكريمة الطبيعية.
- المجموعة الثالثة: الأسماك المتحجرة.
تعود المجموعة الأولى إلى عدة عصور بدءاً بالعصر الحجري الأقدم (3000000-600000 ق.م) حيث ثقافة الحصى، والحصى أو النواة في الأداة.
ثم ننتقل إلى العصر الحجري القديم (600000-100000 ق.م).
في العصر الباليوليتي الوسيط (100000-30000 ق.م) أصبحت الشظية هي الأداة وقد اتخذت شكل المثلث أو «المروّس». أما في العصر الباليوليتي الحديث (30000-18000 ق.م) فالشظية ظلت الأداة ونصل إلى العصر النيوليتي أو الحجري المصقول (12000-4000 ق.م) الذي تميّز بتحوّلين أساسيين، مرتبط كل منهما بالآخر:
- تحضّر الإنسان واستقراره.
- اكتشاف الزراعة.
قبل النيوليتي كان الإنسان يعيش حياة البداوة، يبحث عن طعامه متنقلاً من مكان إلى آخر، يتصيّد ويقتات من النباتات وقطف الثمار. مع اكتشاف الزراعة استقر الإنسان وتحضّر. ولأول مرة في تاريخه، بدأ يؤثر في الطبيعة، فيحرث الأرض وينتج جزءاً من غذائه بزراعة الحبوب.
أما الأدوات التي استعملها الإنسان على مرّ هذه العصور فتشكّل محترفاً لهذه الأدوات الصوانية، فنجد على سبيل المثال: أداة للحفّ، رأس السهم، حاروش، مسننات منجل، عناصر منشار، اسفين أو قاطع، سكين، فأس...

 

أحجار ومتحجرات

المجموعة الثانية، وهي الأحجار الطبيعية، تعد أكثر من سبعين نوعاً بأحجام مختلفة وألوان زاهية وفريدة. وتعود غالبية هذه الأحجار إلى بلدان أوروبية وجزء منها إلى لبنان. ومن بين هذه المجموعة نجد: Chalcanthite, Azurite, Améthyste, Agate, Géode, Eméraude, Calcédoine, Calcite, Rubis, Quartz, Pyrite, Lapis-Lazuli, Topaze.
مجموعة المتحجرات، وهي المجموعة الأخيرة، تقسم إلى قسمين:
القسم الأول مصدره منجم في منطقة حاقل في جرود جبيل ويعود إلى حوالى 130 مليون سنة. ويوجد في هذا القسم أنواع عدة من الأسماك المتحجرة العادية ومن النوعية الرديئة، حيث لا توجد منها قطع كاملة وحتى لو تم إلصاقها فهي لا تمثّل أهمية كبيرة ولا تصلح للعرض في المتحف.
في القسم الثاني أكثر من 160 صدفة متحجرة معظمها مجهولة المصادر ومختلفة الأصناف والنوعية.
في ختام الجولة، تمنى الدكتور ناجي كرم أن ينهي الزائر جولته وقد تعرّف علمياً على متحجرات وجمالات من الطبيعة ما كان ليرى فيها إلا بريقاً واهياً، فيما هي كائنات لها أسماؤها وألقابها وحكاياتها.

 

ماذا لو نطقت هذه الحجارة؟

بعد أن قمنا بجولة في أرجاء متحف الحجارة، التقينا مدير العلاقات العامة في جامعة سيدة اللويزة الدكتور سهيل مطر الذي نوّه بداية بمن نظم المتحف ورتّب الحجارة وتفنن في تصميمها، وكل هذا بفضل الجهود التي قام بها الدكتور ناجي كرم وفريق من طلاب الجامعة اللبنانية، الذين عملوا لشهور، مع السيد شارل ابي نادر من جامعة سيدة اللويزة، على إحصاء الحجارة وتنظيمها. وتساءل: «الحجارة، نراها، بأعيننا، ماذا لو نطقت هذه الحجارة، وكانت لنا آذان تسمع؟ ماذا لو نطق حجر آت من كوكبا، منذ آلاف السنوات، أومن حاقل، أو من بعلبك؟...».
وأضاف: «الحجر ربما يكون حجراً وربما يكون صفحة من كتاب وربما نقرأ فيه ما لا تقدّمه لنا كتب التاريخ. فأنا لا أرى في بعلبك مثلاً حجارة بقدر ما أرى تاريخاً. من هنا، نطمح بأن يكون المتحف مفتوحاً لزيارات من خارج الجامعة، وأن يكون هذا الموضوع أحد العناصر الأساسية في روزنامة وزارة السياحة، وأن يصبح مقصوداً من السياح الأجانب كما من أبناء المجتمع اللبناني. وبذلك، نحقق فكرة أساسية وهي أن يكون المتحف في خدمة المجتمع وليس فقط في خدمة طلابنا، وفي خدمة هذا التفاعل ما بين الجامعة والمجتـمع. ويبـقى الحجر الشاهد الحيادي الموضوعي البريء». وأشار في الختام إلى أن الجامعة بصدد وضع روزنامة مواعـيد محـددة لطـلاب المـدارس والجامعـات لزيارة هذا المتحف.

تصوير: المجند بشير عطوي