متاحف في بلادي

متحف كيليكيا
إعداد: جان دارك أبي ياغي

كنوز التراث الأرمــــنـي وذاكرته الحية

 

يشهد متحف كيليكيا في انطلياس لثقافة نابضة بالحياة, ولمسيرة شعب لم تستطع المعاناة الكبيرة أن تفصله عن جذوره.
تراث تراكم على امتداد 1700 سنة يختصره المتحف الذي جُدد ورُمّم ليحتضن ذاكرة الشعب الأرمني, ويروي محطات في مسيرته بدأت في أرمينيا وتستمر في لبنان.

 

من أرمينيا الى لبنان

الأحداث المأساوية التي عصفت بالشعب الأرمني بدءاً بمذابح العام 1915, دفعت بكرسي بيت كيليكيا الى هجر مقرّه الرئيسي في مدينة سيس عاصمة مملكة كيليكيا الأرمنية, واللجوء الى لبنان. وفي انطلياس أعيد تأسيس وتنظيم هذا الصرح ليعاود إدارة شؤون الكنائس الأرمنية التي كانت تحت رعايته. فتمّ بناء صروح عدة تباعاً ضمن حرم مركز الكاثوليكوسية. ويعتبر بناء متحف كيليكيا آخر هذه الصروح المعمارية.
انتهت أعمال البناء في كانون الأول 1997, ودُشّن المتحف في 30 آذار 1998, وهو يقع داخل مبنى الإكليريكية الذي يضمّ أيضاً مبنى المكتبة.
لقيـت فكـرة إنشـاء متحـف ضمـن حـرم كاثولـيكوسية انطـلياس اهتـماماً من قبل جميع الكاثوليكوس المتعاقبين, إذ تمنّوا أن يعرّفوا الجمهور العريض على المقتنيات والأدوات التي تمثّل حقبات من تاريخ الصرح آنذاك في مدينة سيس بالرغم من بعض النواقص.
القطع المعروضة في المتحف كانت أنقذت من سيس في العام 1915 ونقلت الى حلب في ظروف مأسـاوية, الى أن وصلت الى انطلياس العام 1930 حيث حُفظت, وتم في ما بعد إغناء المجموعات بالهبات والمشتريات المختلفة.

 

أوقات الزيارات

يفتح المتحف أبوابه من الثلاثاء لغاية السبت من العاشرة صباحاً لغاية الخامسة مساءً, ويوم الأحد من العاشرة صباحاً لغاية الواحدة ظهراً.

 

الذخائر المقدّسة

خصصت صالة في الطابق الأول من المتحف لكنز الذخائر المقدسة والعلب التي تحويها. وبالإمـكان مشاهدة الذخائر الذهبية والفضية للقديسين نقولا وسيلفستر, الى ذخائر أخرى منها قطعة من صليب السيد المسيح, وذخائر للقديسة هيـلينا وللقديسين يوحنا المعمدان, ويوحنا, وبطرس, ويعقوب, وأسطفان... وغيرهم.

هـذه الذخائر المقدسـة معروضة ضمـن أطر مشغولـة بدقة وبأشكال متعددة تعـكس الإبـداع الفـني الأرمنـي.

 

تحف ومصابيح وأوانٍ

مهارة الحرفيين الأرمن تتجلى في العديد من القطع المعروضة والتي حملها الهاربون معهم عام 1915. حرير مطرز, مصابيح وشمعدانات وأوان... تشهد كلها لعظمة كاتدرائية سيس وللذوق الذي تمتع به العاملون في محترفات سيس وأضنة والقسنطينية وحلب وسواها.
وتعتبر نسخة إنجيل “بارتزربرت” تحفة هذه المجموعة, وهي كانت نسخت وزوّقت في هرومكلا (كيليكيا) في العام 1248, ومن ثم تم في العام 1254 تجليدها وتغليفها بقطع وشرائح فضية تمثل أشخاصاً ومشاهد تاريخية دينية.
وتعتـبر هذه الشرائح من أندر وأقدم الأمثلة على فنّ صياغة المجوهرات الأرمنية والتي تتميز بالرهافة والدقة والمنمنمات الجميلة.

 

المطرزات والثوب الكنسي

من تحف كاتدرائية سيس المعروضة في متحف كيليكيا حلّة للقداس من الحرير الأزرق المطرّز بالكامل بزخرفات نباتية. ارتدى هذه الحلة جميع الذين خدموا برتبة كاثوليكوس بيت كيليكيا, وذلك منذ أن تم تقديمها الى الكاثوليكوس كيراكوس في العام 1804.
وثمة علاقة فنية بين المطرزات والمنمنمات المعاصرة لها, وربما كانت المنمنمة هي التي أوحت بتأليف لوحة “الدينونة الأخيرة” التي تمّ تطريزها سنة 1733 على ستار المذبح الكبير, والذي تمّ جلبه (أي الستار) من كنيسة العذراء في بورصا. ومعلوم أن الأرمن برعوا في المنمنمات وجعلوا منها فناً وطنياً.
الملابس الكنسية التي وصلت إلينا كاملة وبحالة جيدة بتزييناتها وزخرفاتها, تُغني بالتأكيد معرفتنا بالخصائص الفريدة للباس الكنسي الأرمني. وقد صنعت كل هذه الملابس والأثواب من قماش البروكار أو من المخمل المطرّز بخيوط ذهبية.
تكمّل مجموعة التزيينات المقدسة السابقة الذكر سلسلة من عُصيّ كهنوتية وأسقفية وهي بأحجام وأشكال مختلفة, وتنتهي برأس على شكل كرة أو على شكل حلزوني أو على شكل رأسي أفعتين متجابهتين. هذه المجموعة التي تضمّ الأشكال البسيطة والغنية على حد سواء, تتميز بعددها وتنوعها وجمال رسوماتها.

 

المخطوطات

كان إنجيل “بارتزربرت” الذي يعود للعام 1248 وكتاب السيامة الذي يعود للقرن الرابع عشر, من بين المخطوطات النادرة التي جُلبت من سيس في العام 1915.
وقد تم تكوين مجموعة من أكثر من مئتي مخطوطة ضمنها عدد من المخطوطات المزوّقة الموجودة في المتحف.
تقسم المخطوطات الى أربع مجموعات معروضة بالتتابع في قاعة الطابق الثاني, وهي تتيح تتبع فنّ الكتابة الأرمنية من خلال نمـاذج تعود للقرنين التاسع والعاشر.
أما الغـلافات الخارجية فتتـميز بالإتقـان ويشـكل بعضها نموذجاً للتقنيات المستعملة قديماً في طبع الرسوم على القماش.

 

المسكوكات والقطع الأثرية

شجعت الهبات المتعددة المسؤولين على إنشاء أقسام متخصصة ضمن مبنى المتحف, ومنها قسم المسكوكات.
تُعرض نماذج من المسكوكات الفضية والنحاسية التي سُكّت في مملكة كيليكيا الأرمنية الى جانب أخرى رومانية, بيزنطية وعربية.

وتحتل القطع الأثرية بعض الواجهات الزجاجية وهي تعود أصلاً لمجموعات فردية وتنقسم الى قسمين:
تبرز معروضات القسم الأول: حضارة أرمينيا القديمة وفنها بدءاً بأدوات وتماثيل صغيرة بأشكال حيوانية وإنسانية تعود للعصر الحجري الحديث, مروراً بالعصر البرونزي وصولاً الى العصر الحديدي. ونشاهد مجموعة غنية من الأساور, والحلق, والدبابيس والمشاكب الى جانب المسامير والفؤوس, بالإضافة الى موجودات تُنسب الى حضارة أورارطو, وهي غنية بأشكالها المتنوعة كالسهام والأساور ومقابض الدروع. وأخيراً ضمن هذا القسم, إناء فخاري مزيّن بتزيينات هندسية وبرأس حيواني يمكن أن يعود للقرن التاسع ق. م.
وتشمل معروضات القسم الثاني منطقة الساحل اللبناني منذ العصر الحجري الى الفترة البيزنطية, وهناك كأس من الزجاج الفينيقي تتميز برونقها محفوظة بشكل جيد.

 

السجاد والأثاث

قبل الصعود الى الطابق الثالث والأخير من المتحف يستطيع الزائر مشاهدة مجموعة من السجاد والجدرانيــات التي تعود الى فترة تمتد من نهاية القرن الثامن عشر الى الربع الأول للقرن العشرين. ونرى أيضاً معروضات فنية بسيطة من الفترة نفسها, وهي عبارة عن ألبسة نسائية وبعض اللوازم المخصصة للأطفال والغلمان.
وفي القاعة نفسها أيضاً وثيقة هامة, هي عبارة عن خريطة كبيرة لأرمينيا مرسومة بالحبر على القماش.

 

الفنون التشكيلية

يحتـوي الطابـق الثالث على مجموعة تمثّل الفن الحديث من منحوتات ولوحات فنية تبرز إبداع الفنانين والنحاتين الأرمن منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.
جرى ترتيب أعمال الفنانين ضمن مجموعات بحسب البلدان التي عاشوا وعملوا فيها. ويتمثل لبنان بشكل بارز الى جانب أرمينيا, وفرنسا, ومصر وإيران وغيرها من البلدان..

 

المؤلفات المطبوعة

بالرغم من ظهور الكتب الأرمنية المطبوعة منذ العام 1511, استمر الأرمن لمدة قرنين بنسخ وتزويق المخطوطات حتى القرن الثامن عشر وذلك وفاءً لتقليد وعادة قديمتين.
مهّـدت بعض المؤلفـات المعروفـة لانطـلاق أهم مركـز للطباعـة الأرمنـية في أوروبا الى أن اضطلـعت القسطنـطينية بهذا الدور في القـرن الثامن عشر وفرضـت نفسها كأهـم مركز للطبـاعة الأرمنـية.
تُبرز هذه المؤلفات أعمال محترفات الطباعة الأولى في البندقية, امستردام ومرسيليا, كما عكست مدى تنوّع اهتمامات النشر آنذاك وتوجهها شيئاً فشيئاً نحو طباعة الكتب العلمية, التي مهّدت بدورها للإنجازات الكبيرة في كتب المعرفة والأدب خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
تكمن أهمية مجموعة الكتب في كاثوليكوسية انطلياس في أنها تقدم للعموم مثالين عن أولى المطبوعات الأرمنية التي قام هاغوب مغابارد بإنجازها في البندقية وهي:
­ التقويم الميسّر في العام 1512.
­ كتاب الأناشيد في العام 1513.
وإذا لاحظنا التطوّر التقني البارز في طباعة هذين المؤلفين, يمكننا أن نصل الى مطبوعة الكتاب المقدس لأوسكان, وهي أول طبعة للكتاب المقدس باللغة الأرمنية في امستردام في العام 1666, حتى نصل الى ما يمثل ازدهاراً في الفن الطباعي ألا وهو: تعليق القديس غريغوريوس الناريكي (القسطنطينية 1745) والذي يعتبر تحفة في الطباعة.

 

تصوير: المجند حسن عسيلي