متاحف في بلادي

متحف مصطفى فروخ
إعداد: جان دارك أبي ياغي

عالم الفنان الثري بشاعريته وتعبيريته الملتزم قيم شعبه ووطنه

حوّل السيد هاني فروخ قسماً من منزله في المصيطبة الى متحف يضم أعمال والده الرسام الرائد مصطفى فروخ. وزيارة البيت المتحف تتيح لنا اكتشاف عالم هذا الرسام المبدع المكتنز بثراء تعبيري وبتنوّع في المواضيع والمشاهد. وكأن ريشته نذرت نفسها للبنان بجماله وتراثه، فراحت تتحول بين الوجوه والمعالم توثق تعبيراتها وجمالاتها، وفية لواقعية المشهد ولذاتية الفنان في آن. مصطفى فروخ صاحب نهضة فنية وزعيم مذهب في الرسم يقر له بهما أرباب الثقافة في أوروبا ولبنان. وسجله الفني يعكس خلفيته الإجتماعية والثقافية، وواقع زمنه، مثلما يعكس نظرته الى الفن الذي عبّر عنه في مقالة نشرت عام 1951.

 

مثلث فني

في معرض الكلام عن الفنان اللبناني الراحل مصطفى فروخ لا بد من التوقف عند ذلك الطلوع المترادف لتيار انطباعي لبناني تمثّل في المثلث الفني الشاعري الذي كان قوامه مصطفى فروخ، عمر الأنسي وقيصر الجميّل. فهؤلاء الثلاثة هم بمثابة الأركان أو الأعمدة التي تمركزت عليها العمارة الغنائية للمنظر اللبناني، المشغول بقدر هائل من الشاعرية المرهفة، وبالانتباه الى الدور الذي يلعبه النور في توزيع الألوان، وإعادة صوغها. وهم رواد الجيل الذي فتح الأبواب على مصراعيها صوب مغامرة الحداثة التي تبلورت في ما بعد لغات تعبيرية ذات ايقاعات تفسيرية شتى، شارف البعض منها مناحي التجريد الغنائي. وقد تبلور التيار الأساسي لهذا الرعيل الانطباعي من خلال الخروج الى الطبيعة وإنتاج اللوحة خارج المحترف، وبمواد لم تكن قيد التداول سابقاً.

 

البدايات

ولد فروخ العام 1901 في حي البسطا التحتا في بيروت، لكنه ذاق اليتم باكراً إذ توفي والده وهو لم يبلغ بعد السادسة من العمر، فاعتنت به والدته. بـدأ يرسم باكـراً، بل صـار مدهشاً بمـا يصـوّر من وجوه وعصافير وأشجار... لكن إرادة أهله كانت تغاير رغباته في الرسم، فقد أرسلوه الى ˜الكتاب” لكي يتعلم ويحفظ القرآن الكريم، ويتعلم أيضاً الخط والكتابة والأرقـام... مع ذلك فقد كان الطـفل مصطـفى يذهـب الى البحر يومياً، ثم يعود ليرسـم على كراس الكتابـة بعضاً من السفن الشراعية والبواخر التي كانـت تحـتشد في المـرفأ خلال العقد الأول من القـرن العشـرين، حين كان لـبنان جـزءاً من الأمبـراطورية العثمانـية.

 

مغامرة فنية

اصطدم فروخ باكراً بنواحي تحريم التصوير من قبل بعض المشايخ، لكن الشيخ مصطفى الغلاييني شجعه لمتابعة المسيرة في رسم صفحات الوجه والكشف عن الملامح والطبائع ودراسة أسراره التشريحية والجمالية في محترفات عدة. بدأت هذه المسيرة في استوديو" ˜كاترينا جول لند"“ في محلة الزيتونة (1913- 1914) وتطوّرت في محترفـات حبيب سرور-­ الجميزة (1916- 1924)وانطونيو كالكانيا دورو-­ روما (1924- 1925) وأومبرتو كورومالدي ­- روما (1926- 1928) وبول شاباس ­- باريس (1929) .

نجد في البدايات ولادة حقيقية لمغامرة تبلورت بظهور سلسلة من لوحات الصور الشخصية التي خلدت ذكرى رجال دين مسلمين راحلين ومعاصرين، كانت أولها لوحة بورترية للحاج حسين بيهم (1833 - 1881)

رسمها فروخ في العام 1928 وأتبعها بلوحات لوجوه مشايخ وأساقفة ورجال النهضة، زينت في العام نفسه صالون فندق الشرق في بيروت (جمال الدين الأفغاني، الإمام محمد عبده، الشيخ عبد الحميد زهراوي، البطريرك غريغوريوس حداد وأمين الريحاني).

 

من روما الى الأندلس فبيروت

في العام 1924، سافر الى روما، ودخل المدرسة الحرة استعداداً لدخول الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة حيث تخرّج في العام 1927. وقد اشترك في عدد من أكبر المعارض الفنية في روما. بعد أن نال دبلوم الفنون في إيطاليا قصد باريس حيث درس على أيدي نفر من كبار الفنانين الفرنسيين. وعرض صوره مراراً في معرض باريس الكبير المعروف بالصالون الذي لا تقبل فيه صور إلا إذا كانت على مستوى رفيع من ابتكار الفكرة وبراعة الصنعة. ولقد تحدثت عن صوره التي عرضت وعن فنه عدد من كبريات الصحف الفنية.

عاد الى بيروت عام 1932، بعد رحلة طويلة في اسبانيا درس في خلالها فن البناء العربي المزخرف في الأندلس، فكان لذلك أثر عميق في فنه في ما بعد وفي اتجاهه إذ أخرج في أثناء إقامته في اسبانيا وبعد عودته منها لوحات رائعة تمثل الفن العربي في الأندلس. وفي بيروت ساهم في الحركة الفنية اللبنانية الطالعة، بل صار جزءاً من الحركة الثقافية العامة في هذا البلد، ولا سيما أن بداية التحولات أطلت مع إطلالة المعارض الفردية والجماعية، وبالتالي مع بدء اهتمام بعض الجامعات والمعاهد بالفن والفنانين. وكان فروخ أول أستاذ يدرّس الفن للراغبين في الجامعة الأميركية.

بعد الاستقلال وقيام الدولة اللبنانية، ترسخ أكثر وجود ونشاط الفنان مصطفى فروخ في وطنه لبنان، فهو الصديق لأقطاب الثقافة وكبار الشعراء، وهو رفيق الدرب لذلك الرعيل من الرواد الإنطباعيين، ومن العديد من الإختباريين الشباب، وهو محاضر عن الفن والثقافة البصرية، ناهيك عن كونه الراصد لتحولات المدينة بيروت والمصوّر لأبرز وجوهها، بل ولمناظر الوطن الخلابة.

 

جولة بين لوحاته

يبدو فروخ من خلال لوحاته التي تشكل نسبة ضئيلة من مجموع نتاجه (ألف وخمسماية لوحة بيعت في لبنان وخارجه) بمثابة الرحالة الباحث عن المشهد أينما وجد، وكان عنده هاجس تسجيل هذا المشهد الذي إن حضر اليوم فربما لن يكون غداً. درس ربما تعلمه فروخ من التاريخ، وهو المطلع عليه، من ثقافة تشكيلية وإنسانية واسعة، تنظر الى الفن التشكيلي نظرة رفيعة، تضعه جنباً الى جنب مع فروع المعرفة الأخرى، فاللوحة بالنسبة إليه وسيلة معروفة تماماً كالكتاب، وهذه النظرة تحدد معظم اختيارات فروخ الفنية، إذ تمنح الفن بعداً تاريخياً بعيداً من الجماليات المشهدية الإنطباعية المباشرة، لتصل الى أفق إنساني أوسع.

تتلمذ فروخ على يد رائد آخر هو حبيب سرور، قبل أن يتتلمذ في روما على انطونيو كالكانيادورو، وفي الحالين، تعلّم كيف يكون فناناً كلاسيكياً، بل وتعلّم أن الفن هو الكلاسيكية، على الرغم من تنقله بين عواصم الفن التي كانت تضجّ وقتذاك (أي في النصف الأول من القرن العشرين) ، بالمدارس والمذاهب الفنية الجديدة، فإنه بقي مخلصاً للكلاسيكية. الفن بالنسبة لفروخ له دور تاريخي وحضاري، وقد كتب: إن اللوحة وهذه الرقعة البسيطة من القماش، هي في الواقع، وفي نظر العقل والفكر، صورة موجزة للنفس والطبع والخلق، ومرحلة من مراحل الحياة وحالة من حالاتها، مرّت مسرعة فسجلتها ريشة الفنان، وقد تكون أحياناً صورة لتاريخ أمة بأسرها تبقى خالدة على الدهر. يمتاز فن الفنان فروخ، وبحسب نجله السيد هاني فروخ، بقوة الخطوط ونقاء الألوان وبالبراعة في تأليف الموضوعات التاريخية والقومية. وقد كانت له عناية خاصة بدراسة روح الطبيعة ونفسية الناس والتأكيد على إبراز الطابع الشخصي واللون المحلي، وهو من الفنانين الكبار الذين يقبضون على زمام الفن لما له من المعرفة العميقة بالأصول العلمية ومن قوة الرسم وغنى الألوان، خصائص أخذ بعضها عن أستاذه حبيب سرور.

 

 خصوصية لبنانية

رسم فروخ مشهديات كثيرة لمدن غربية عدة، كما رسم شخصيات غربية، لكن بؤرة اهتمامه بقيت لبنانية، أي رسم المشهد الإجتماعي والطبيعي والتاريخي اللبناني، في إدراك منه لطبيعة أن يكون لبنانياً أي أن يكون إبناً لكل لبنان لا لفئة أو طائفة، وهذا وعي بالغ الحساسية في فنه وحياته. والجولة التي قمنا بها على لوحاته، التي خصص جزء من منزل السيد هاني فروخ متحفاً لها، تعطينا فكرة أوسع عن ذلك. نرى لوحات تمثل بيروت من جوانبها كافة، ونرى صيدا، عاليه، برمانا، المتن، بيت مري، الدورة، الذوق، جونيه، عاريا، الضبيه، الفريكة، المريجة، الزعرور وجبل صنين، كسروان، العبادية، شملان، بكفيا، طرابلس، الشويفات، بحمدون، قب الياس، الشقيف، زحلة، البقاع، الحدث، ضهور الشوير، بيت الدين، بعلبك، دير القمر... وهذه ليست إلا عينة والأرجح أننا إذا اطلعنا على نتاج فروخ الهائل سنجد لبنان كله مرسوماً بتلك العين، التي لا تفرّق بين جمال وآخر ومشهد وآخر. وإذا كانت الأمكنة والخيارات الجغرافية ليست كافية للتدليل على إدراك فروخ خصوصيته اللبنانية، فإن ˜بورتريهاته” تعكس ذلك على أفضل نحو. سنجد بورتريهات لشخصيات إسلامية معاصرة وتاريخية، شخصيات درزية، مسيحية، وأرمنية وكردية. تعـكس هذه اللوحـات صلة عميقة لفروخ بالمجتمع اللبـناني ووعياً حاداً بطبيعته كفـنان ينتـمي الى الجميـع ثقافـياً وجمالياً، ولا ينتمي الى فئة أو طبقة اجتماعية محددة. اختيار فروخ رسم عدد من الشخصيات المعروفة هو بدوره نوع من التواصل مع الناس الذين يحبون رؤيـة هذه الشخصيات مرسومـة، ولعلنـا نضعها في إطـار فـكرة فـروخ عن تقريب الفن من الناس وذلك من خلال تصويره مشـهديات يعرفـها هؤلاء جيداً، أي الفـن كمرآة للحياة، فهـو باستمـرار ميـال الى البساطـة والى المشهد البسيط مع منـح المشـهد قـدراً كبيـراً من ذاتية الفنان نفسه. وهذا يبدو واضحاً في لوحاته التي تبدو فيها عين فروخ شديدة الحميمية، تعكس حالته هو.

 

 التقنيات المائية

إذا كانت التقنية التي مارسها مصطفى ورعيله، قد كرست لوحة ˜"الأكواريل”" وبمادة الألوان المائية الشفافة الأكواريلية، فإننا يجب أن نعرف شيئاً مبسطاً عن هذه المادة المهمة. فهي ألوان تذاب في الماء وحده، وهي تحتـوي على عنصرها اللاصـق

(Fixatif) إما مسـتمداً من العسل أو من زلال البيض، ولكـنه في الغالب مستحضر كيماوي، يساعد على بلورة تعشيق اللون على الورقة (الكونسونية)

وبمـا أن هـذه الألوان المائية ذات كثافة مخفـفة، فهذا يعني بأن درجة الإضاءة فيها ستـكون أقـوى من الألوان (الغواشية) السميكة أو الأكريليكية الأكثر كثافة. ركـز فـروخ على إبراز الجوانب الشاعرية في المنظر بالذات، لذلك سعى الى إبراز حالات الإنطلاق النوراني من اللـون الى عين المتلقي. وهنا نجد أن اللون عنـد مصطـفى فروخ هو كينونة أكثر ما هو انفعال لوني. ولهذا السبب فإن انطباعية فروخ ستبدو أكـثر عقلانية، وأكثر ميلاً صوب الكلاسيكية المتينة، والسبـب أن الفنان هو رسام متـمكن من صنعة الرسـم، وأنه ذهب الى اللون عبر الدقـة التأليـفية، ولم يقتـبس هـذه الدقـة من خـلال استشـاطات اللـون وتصادماتـه. وهناك سبب وجيه آخر يمكن أن نرجع إليه البعد العقلاني في لوحة فروخ، فهو فنان اعتقد وآمن برسالة الفنان في المجتمع، أي أنه أراد أن يرسخ المهمة الإجتماعية للفن.

 

المرأة في لوحات فروخ

كرّس هذا الفـنان قسـماً مهـماً من انتاجه الفني للمرأة في مختلف حالاتها ووجوهها حتى المقدسة منها، فسمح له انفتاحه الثقافي والديني أن يرسم صوراً للقديسة تريزا وللسيدة العذراء، كما رسم أمه ˜"أنيسة"“ في لحظة قداسة و"˜صلاة الظهر"“، فبرهـن بذلك شمولية وكونية فكـره في زمن الإنغلاق والإنعزال والتشدد.

وإن كان الانفتـاح وقبول الآخر من سماته العريـقة، فلم يكن ذلك على حسـاب قيم ومعتقدات شعبه ومحيطه الشرقي، وإذا به يعمل بـكد من أجل خلـق جمعية متكامـلة تطـمح الى تكريـس ما هو أساسي في المجتمع الشرقي، وإضافة ما هو ملائم ومفيد، من أجل بلوغ آفاق جديدة ونيّرة. ولعل هدفه الأساسي في موضوع التجدد والإنفتاح كان الوصول الى حال قبول الآخر وإنعاش التسامح عند الإنسان وعند المرأة بالذات، وإتاحة ˜"الإختيار الحر"“ واحترام الآخر، ولذلك عندما رسم فروخ كلاً من البدوية والقروية، ومعلمة الدين، وسيدة القصر، وجارية الحريم، وربة المنزل والمرأة البيروتية (محجبة كانت أم متحررة) ، والجارة "˜حسنا"“ التي ترق الخبز والصبية التي تحمل الجرّة وتنظر نحو المستقبل، إنما صوّرهن جميعاً بكل وفاء لقيمهن وأصالتهن بغية تدوين وإبراز وتكريس ما هو عريـق ونبـيل في الطابع المحلي. فرغـم ثقافته الغربية، بقي متمسكاً بهويته اللبنانية العربية، وبـ "˜الثقافة الوطنية"“ التي عمل من أجل ترسيخها طوال حياته. تجدر الإشارة، الى أن اسـم الفنان مصطـفى ـفروخ دخـل قاموس الفن العالمي عام 1950، بعد أن عرضت له صورة في معرض نيويورك الدولي عام 1940، وهو حائز على الجائزة الأولى لرئيس الجمهورية اللبنانية عام 1955، ويحمل وسام الإستحقاق اللبناني ووسام الأرز الوطني من رتبة فارس ومن رتبة ضابط. توفي في السادس عشر من شباط عام 1957، بعد مرض عضال.

 الصور:

 مجموعة السيد هاني فروخ المجند خليل بو ناصيف