أسماء لامعة

مثّل حالة فكرية متقدمة في لبنان والعالم العربي
إعداد: تريز منصور

كمال الصليبي باحث ومؤرّخ نهضوي من الطراز النادر

 

مؤرّخ تميّز بدقة العالِم وشغف الباحث الأمين. واحد من كبار الدارسين في مجال التاريخ والمجدّدين في الحياة الفكرية اللبنانية والعربية. رجل عاش حياته في قلب التاريخ بواقعية مفرطة ومن دون ادّعاء ولا ضوضاء.
إنه المؤرخ الكبير الذي قام بأبحاث تاريخية حديثة عن لبنان، العالم العربي، التوراة والإنجيل. إنه الأستاذ الجامعي كمال الصليبي الذي طرح أفكارًا مثيرة للجدل، وكتب نظريات تاريخية أثارت نقاشات معمّقة حول التاريخ والفكر.

 

نشأته وحياته
ولد المؤرخ كمال سليمان الصليبي في 2 أيار من العام 1929 في كركول الدروز - بيروت، وهو ابن عائلة متحدّرة من بحمدون الضيعة في جبل لبنان. والده الطبيب الجراح سليمان الصليبي (عمل مع الجيش المصري في السودان)، أما والدته فهي السيدة سلوى الصليبي ابنة الطبيب إبراهيم الصليبي. وكمال هو الابن الرابع في العائلة التي تضمّ ستة أولاد (خمسة شباب وفتاة).   
نشأ في بحمدون الضيعة، كانت دراسته الابتدائية في المدرسة الإنجيلية في بحمدون التي تديرها عمته وديعة الصليبي، ودراسته الثانوية في مدرسة برمانا العالية. مدير المدرسة السيد ترتل (إنكليزي الأصل) نصح الوالد، بأن يشتري للتلميذ الفاشل في المواد كافة باستثناء الدروس الموسيقية والدينية، البقر والماعز ليهتم بها، فغضب الوالد من الأستاذ لإيمانه بموهبة ابنه وقدرته، فنقله إلى مدرسة «الكلية الثانوية العامة، التي أصبحت في ما بعد الكلية الدولية (International College) والتابعة للجامعة الأميركية في بيروت، ومنها نال الشهادة الثانوية.
بعد ذلك، انتسب إلى الجامعة الأميركية في بيروت، درس فيها التاريخ الأوروبي والعلوم السياسية، فنال إجازة في كل من الاختصاصين، وبرز اهتمامه باللغات السامية، وكان أستاذه في هذا المجال الدكتور أنيس فريحة.  
 غادر كمال الصليبي بيروت والتحق بجامعة لندن، فدرس فيها التاريخ العربي والإسلامي على يد البروفسور برنارد لويس، وأعدّ بإشرافه رسالة الدكتوراه بعنوان «المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في العصور الوسطى»، ونال الدكتوراه على أساسها العام 1953.

 

مرحلة البحث والكتابة
 عاد المؤرخ كمال الصليبي إلى بيروت، والتحق بالجامعة الأميركية، لكن هذه المرة كباحث في برنامج الدراسات العربية، ثم كمدرّس في دائرة التاريخ وعلوم الآثار، بحيث أصبح في ما بعد من أعمدتها (رئيس الدائرة) مع صحبه الكبار أمثال نقولا زيادة وزين زين وسواهما.
بقي كمال الصليبي بعيدًا عن أهواء السياسة ووسائلها المباشرة، وكان تعاطيه إياها محصورًا بإيمانه بمبادىء معيّنة.
في ما خصّ دراسة التاريخ كان يرددّ دائمًا «كل ما يتعلق بدراسة التاريخ ينطلق من منطلق نظري ولا يمكن إثباته في شكل قاطع. وليس هناك حقيقة تاريخية يقينية، إلا إذا دخل عامل علمي حاسم كالفلك أو علم الجيولوجيا أو غيرهما».
 ويروي صديقه المقرّب وتلميذه الدكتور عبد الرحيم أبو حسين أن أول مقال كتبه الصليبي كان عن سلالة قضاة في العهد المملوكي، وقد عرضه على  صديقته قائلاً لها: «لقد أخرجتهم من الظلمة إلى النور»، فأجابته: «لقد أخرجتهم من ظلمة إلى ظلمة أخرى».
ويشير الدكتور أبو حسين إلى أن الدكتور صليبي «كان قريبًا جدًا من طلابه، يجالسهم خارج الصف ويفتح معهم حلقات حوار تاريخية وسياسية،  تخطّت فائدتها بالنسبة إليهم فائدة ما جنوه من الصف».
ويؤكد الدكتور أبو حسين أن الصليبي كان منفتحًا على رأي الآخر، ويذكر أنه هنّأه بفخر عندما نقض بأطروحته إحدى نظرياته، وقال له ولطلابه: «أريدكم أن تنقضوا نظرياتي وتأتوا بنظريات جديدة، وأن تتقبلوا نقض نظرياتكم برحابة صدر، ففي هذا ما يسهم في بناء الإنسان والأوطان».

 

بيروت رئته التي يتنفس منها
غادر الدكتور الصليبي لبنان إلى الأردن في إبان الحرب في سبعينيات القرن الماضي، ثم عاد إلى بيروت ليتابع مسيرته الأكاديمية في الجامعة الأميركية، وكتب على وقع دوي المدافع.
العام 1994 تقاعد من الجامعة الأميركية في بيروت، ولكنه استمر فيها مدرّسًا جامعيًا فخريًا، وكذلك في العديد من جامعات العالم مثل هارفرد وسميث في أميركا ومانشيستر في بريطانيا.
وبطلب من الأمير حسن بن طلال أسّس المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمان - الأردن، وأصبح مديراً له من 1994 وحتى 2004. ويذكر أصدقاؤه، انه في غيابه عن لبنان لسنوات،  كان كفاقد الهوية، على الرغم من انه تنويري ومشرقي وعربي. كانت بيروت رئته التي يتنفس منها ويكتب بالحرية التي تنفتح على النقد، ما يثير الجدال والنقاش اللذين يحتاج إليهما عالمنا العربي.
منذ عودته العام 2004، أصبح مستشاراً لمؤسسة التراث الدرزي، وعاش في لبنان حتى وفاته في الأول من أيلول 2011.


الجدلية الفكرية عند الصليبي
وضع الدكتور كمال الصليبي كتبًا تاريخية بالعربية والإنكليزية، وقام بأبحاث عديدة عن لبنان والعالم العربي، وتاريخ التوراة والإنجيل، وكانت له نظريات، فتحت آفاقًا جديدة أمام المسيحيين العرب، وأثارت جدالاً ونقاشًا مهمين حول جغرافيات تاريخية وشخصيات دينية.
نجح الصليبي من خلال كتاباته وأبحاثه في مجال التاريخ الشرق أوسطي، وخصوصاً في ما يتعلق بلبنان والمنطقة العربية. ومثّل حالة فكرية وثقافية متقدمة في لبنان والعالم العربي، عبر مادة تاريخية أعاد تشكيلها بكامل معالمها وأبعادها. وتمكّن بمنهجية موضوعية علمانية متمرّسة لا تعاني الغربة بين محيطها وبيئتها ومجتمعها، من الإمساك بأشياء وآثار مهمة.
أنجز دراسات مهمة عن الأقليات الدينية وعن هواجسها ومشروعها، وسبق مراكز دراسات بحثية كبرى عالمية تنكّب اليوم على ذلك. كتب بانفتاح معتمدًا على تقنيات لغوية وقرائن وإحداثيات معمّقة، وأسلوبًا سلسًا ورشيقًا.
يقول الدكتور الصليبي في إحدى مقابلاته إنه «لا يكتب من أجل السياسة، فليس من الضروري أن يستفيد أو يتضرر أحد من النتائج التي يتوصل إليها، المعلومات معلومات. وعندما توجد إشارات، يتبعها الباحث وقد تتراءى له الأمور من خلالها بطريقة غير الطريقة التقليدية. عندها عليه أن يقول ما عنده، ويترك للناس حرية القرار والرأي في ما توصّل إليه.

 

في قلب التاريخ
 كمال الصليبي، رجل عاش حياته في قلب التاريخ بواقعية مفرطة ومن دون ادعاء ولا ضوضاء، وبصفاء فكري ومنهجية عالية.
يعتبر كتابه «تاريخ لبنان الحديث» أفضل ما أنجز في هذا النوع التاريخي و«الكتاب النموذج»، الذي يدرّس في الجامعات والمعاهد كمرجع تاريخي وأكاديمي غاية في التحقق والأهمية. وكانت مساهماته مميزة ومثيرة للجدال في آن واحد. فهو أشعل العام 1985 (حين صدر كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»)، نقاشًا استمر حتى الأمس. بعد ذلك  كتب «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل» (1988) و«حروب داوود» (1991) و«عودة الى التوراة» (2009) و«حكايات بني إسرائيل» معيداً النظر في المفهوم التقليدي لتاريخ بني إسرائيل، وبرهن انهم لم يقطنوا فلسطين على الإطلاق، بل أقاموا في السراة وتهامة من بلاد عسير. واستعاد في كتاب صدر له أخيرًا في بيروت صورة الموارنة التاريخية...
أسهم كمال الصليبي كمؤرخ كبير في كتاب جماعي، صدر بإشراف حليم بركات (1988)، عارضًا أصول الطوائف اللبنانية والعربية مظهرًا فيه أن الولاء القبلي أو الانتماء إلى قبيلة أو قبائل متحالفة، حدد انتماء هذه القبائل الطائفي. وهذه القبائل اختارت أن تنضوي ضمن إطار طائفة بعينها، حفاظاً منها على الرابط القبلي الذي كان يجمعها، وتأمينًا لديمومته. وبحسب الصليبي يمكن القول استطراداً ان «الصفاء» العرقي قد يكون خاصية أوضح لدى الأقليات الطائفية في المشرق العربي، اكثر منه لدى الغالبية.     
برحيل المؤرخ كمال الصليبي في الأول من أيلول 2011، تطوى صفحة لبنانية مضيئة في حياتنا العلمية والفكرية والتأريخية. وسيفتقد أهل الفكر والتاريخ والصحافة مؤرخًا كبيرًا ومفكرًا وباحثًا لبنانيًا، لكنه أيضًا عربي نهضوي وتنويري من الطراز النادر.


من أعماله
• المؤرخون الموارنة خلال العصر الوسيط (1959).
• تاريخ لبنان الحديث بالإنكليزية (The Modern History of Lebanon)  نشر في لندن (1965).
• ملتقى طرق حرب أهلية، لبنان (1958-1976-1976).
• بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى: محاكمة إمبراطورية من 534 والى 1976 (1979).
• التوراة جاءت من جزيرة العرب (1985).
• بيت بمنازل كثيرة (1988) .
• تاريخ الأردن الحديث (1993) .
• طائر على سنديانة، (سيرة ذاتية) 2002.