محطات وتأملات

مجزرة المطوق
إعداد: العميد دانيال الحداد

قبيل موسم هجرة الطيور، يتأهّب الصيادون استعدادًا للنزال، فينهمكون في تعهّد البنادق وتصنيع طلقات الذخائر أو ابتياعها، وتحضير معدّات الصيد المختلفة، من سترات وجربنديات وجعب و«شناكل» وغيرها، كما يتابعون بدقّة أحوال الطقس، ويستقون من أقاربهم وأصدقائهم باستمرار معلومات عن طلائع أسراب الطيور القادمة إلى لبنان، كمًّا ونوعًا.
اتفق في أحد أيام الخريف خلال زيارتي صديقًا لي في منطقة البقاع، أن كان موسم هجرة طائر المطوق في ذروته، وكان الصيادون المحترفون منهم والهواة، يتوزعون مع أطفالهم كخطوط النمل ذهابًا وإيابًا وفي كلّ اتجاه، فأوقفت سيارتي إلى جانب الطريق، أرصد بعض موقعات الحرب الضارية التي دارت بينهم وبين طيور المطوق المسكينة الغبية.
بنادق أوتوماتية من كلّ نوعٍ وطراز تغطي بحمم الخردق الملتهب أديم السماء، فما يكاد سرب الطيور يدخل ساحة الوغى، حتى تستعجله طلقات الموت من كلّ صوب، فيتهاوى معظمه بين ميتٍ وجريح، وكأنّي بالسماء تمطر لحمًا ودمًا وريشًا.
يحاول ما تبقى من السرب وهو قليل، الصعود إلى الأعلى أو الفرار من تلك البقعة الجهنمية، لكن سرعان ما تجتذبه أصوات آلات التسجيل إلى الأسفل، أو يتلقاه صيادون آخرون بالنار في ساحات متوالية لا تنتهي.
أمّا الأطفال، فقد أوكلت إليهم مهمّة تحديد أمكنة الطرائد وجمعها، فتراهم مع سقوط كلّ طريدة، يطلقون الصيحات والزغاريد، اعتزازًا بمهارة آبائهم في مناورات الاستدراج والالتفاف والقنص والقتل، ثم يسارعون إثر ذلك إلى التقاطها، وفي كثير من الأحيان يحظون بطرائد ليست من حقّ آبائهم، بعد أن اختلط الحابل بالنابل بسبب تشابك النيران وتداخل الحدود.
تابعت مشواري إلى منزل صديقي، حيث أمضيت في ضيافته بضعة ساعات، ثم أقفلت عائدًا على الطريق نفسه، فإذا بجموع الصيادين تهمّ بالرحيل، وعلى وجوههم سمات الظفر والطمأنينة، كيف لا، وقد صارت رفوف المطوق أشلاء من اللحم الجامد في متناول أيديهم، وما نجا منها كان من قبيل الترف والإهمال. وإذا سألت البعض عن نصيبه في هذا اليوم، أجابك أحدهم: مئتا حبّة، وآخر: ثلاثمئة حبّة وهكذا دواليك.. وكأن الأرواح في حسابهم، أرقام لا أكثر ولا أقل.
انتهت المعركة بانتصار القويّ المخادع على الضعيف البريء، فيما لا تزال تشهد على ضراوتها، بقايا الريش والدم ودخان البارود وغلافات الذخائر المستخدمة، وسكينة عميقة لا تسري فيها نسمة حياة واحدة.
هذه إحدى فصول مأساة الطيور المهاجرة التي ترحل عن مواطنها الأصلية هربًا من الصقيع، ليقع معظمها ضحية المبيدات الزراعية والاصطدام بناطحات السحاب والأعمدة الشاهقة، ثم فريسة سهلة في قبضة بني البشر.
لقد انقرضت أنواع عديدة منها، والباقي هو حتمًا في طور الانقراض. ويبقى السؤال، هل سيلجأ أهل الصيد حينذاك إلى اصطياد وطاويط الليل والأفاعي والجراذين في الحقول، تكريسًا لهوايتهم الدموية، وهل بعد ذلك سيدفعهم نزقهم إلى صيدٍ من نوع آخر!