مجلس الشيوخ في لبنان: حل أو مشكلة؟

مجلس الشيوخ في لبنان: حل أو مشكلة؟
إعداد: د. ماري الحايك
أستاذة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

المقدّمة

إنّ إنشاء مجالس الشيوخ في الأنظمة الدستورية قديم العهد[1]. ومجلس الشيوخ هو عبارة عن هيئة سياسية تنتمي إلى السلطة التشريعية، وغالبًا ما يُمثّل مجلس الأعيان في البرلمان. كما تختلف طبيعة تشكيل مجالس الشيوخ بين الدول. وعادة تقل أهمية الصلاحيات التي يتمتع بها عن تلك التي يمنحها الدستور لمجلس النواب.

على الرغم من وجود تيار قائل بعدم جدوى إنشائه لعدة أسباب[2]، فإنّ قيام رابطة مجالس الشيوخ في العالم هو مؤشر لرفض هذا التيار. وحجة الداعمين لوجوده وبقائه تستند إلى أنّه ضرورة ديموقراطية، وعامل أساسي لاستمرار المؤسسات واستقرارها، وإظهار الطابع التكويني للدولة.

في لبنان، أنشئ مجلس الشيوخ الغرفة الثانية في البرلمان، بموجب الدستور اللبناني الصادر في 23 أيار 1926، وتم إلغاؤه بموجب القانون الدستوري الصادر في 17 تشرين الأول 1927، وضُمّ أعضاؤه لمجلس النواب. تبع ذلك اقتراح عدة مشاريع تدعو إلى إعادة إنشائه. بعد اتفاق الطائف، أبصر النور دستوريًا مع صدور القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21 أيلول 1990 بموجب المادة 22.

السؤال الأساسي هو: لماذا إعادة إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان؟ ما مدى حاجة النظام اللبناني لسلطةٍ تشريعية ثانية؟ هل استحداث مجلس الشيوخ في لبنان هو إجراء مؤسساتي يكمّل مؤسسات الدولة الدستورية، كما هو في معظم الدول ذات نظام المجلسَيْن، أم أنّ هناك وضعية خاصة تتعلّق بالكيان اللبناني، وبتركيبته المجتمعية ونظامه السياسي؟ وهل الواقع اللبناني يساعد على إنشاء مجلس للشيوخ؟

انطلاقًا من هذه الإشكالية، سنعالج في القسم الأول أهمية مجلس الشيوخ بشكلٍ عام، والمشاريع المقترحة لهذه الغاية. أما في القسم الثاني، سندرس الغاية من الإنشاء في إطار المجتمع اللبناني الضامن للوحدة والتعددية، مع الإشارة إلى المواقف والحجج المؤيدة والمعارضة له.

استندت هذه الدراسة على نصوص دستورية، قانونية، اتفاقات، مواقف وتحاليل سياسية، إضافة إلى عرض مجموعة أسئلة متعلّقة بالعقبات، وقضايا تشكيله وصلاحياته، وعلاقاته مع بقية المؤسسات، علّها تساعد على صياغة نموذج محتمل للمجلس الجديد.

وتكتسب هذه الدراسة أهمية مزدوجة: على المستوى العلمي كونها تسلّط أضواء وافية على مؤسسة دستورية جديدة في إطار واقع سياسي متمايز، تعددي وطائفي. أما على المستوى العملي، فإنّها قد تسهم في تقديم نموذج يحتذى به، في المجتمعات المشابهة للمجتمع اللبناني.

 

القسم الأول: أهمية مجلس الشيوخ بشكلٍ عام والمشاريع المقترحة في لبنان

إذا كان مجلس الشيوخ الروماني يُعتبر أول مجلس شيوخ في التاريخ[3]، فإنّ الدول الديموقراطية الحديثة اعتمدت النمط نفسه، الذي اتّبعه مجلس الشيوخ الروماني في تأسيسه وعمله. صحيح أنّ أهمية هذا المجلس تختلف بين دولة وأخرى، لكنّ الواقع يشير إلى المحافظة عليه استنادًا إلى عدة مبررات، منها ما يرتبط بمكونات المجتمع كما هو الحال في لبنان. فما هي الحجج التي يستند إليها دعاة الإنشاء والمحافظة على مجلس الشيوخ؟ وما هي المشاريع المقترحة لإعادة إنشائه في لبنان بعد إلغائه؟

أولًا: مبررات الأخذ بمجلس الشيوخ بشكلٍ عام

تاريخيًا، يُعهد إلى مجلس الشيوخ وظيفتان تبرران وجوده: تمثيل الولايات في الدول الاتحادية الفدرالية، مشاركة طبقة اجتماعية في السلطة السياسية، وبالتالي المحافظة على التقاليد من خلال تمثيل الطبقة الأرستقراطية في مجلس خاص بها. هذا بالإضافة إلى وجود عدة اتجاهات ذات بعدَين: دستوري وسياسي.

 

١- البعد الدستوري

إنّ وجود مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس النواب، يفرض نفسه كنمطٍ حديث لتطبيق مبدأ فصل السلطات، وعدم سيطرة سلطة على أخرى. كما أنّ تطور نظام الأكثرية (الحكومة والأكثرية تتجانسان) يفرض وجود مجلس ثانٍ حر معفى من قانون airin ( قانون الأجور الحديدي) الخاص بالنظام الأكثري، والذي ينص على أنّ الأكثرية مهمّتها الأولى دعم الحكومة[4].

كما إنّ وجود هذا المجلس، يحدّ من مخاطر نظام المجلس الواحد، حيث لا يستطيع هذا الأخير أن يعكس طبيعة محيطه المجتمعي، وحيث أنّ تشكيل المؤسسات ووظائفها لا تأخذان بعين الاعتبار الواقع المحلي والوضعية الوطنية.

في الكثير من الحالات، إنّ وجود مجلسَيْن يظهر فاعلية في تطوير العمل التشريعي وتحسينه[5]. فالمشاكل المعقدة والتقنية التي تُطرح، والتوسع السريع في حقل القانون، يبرّران وجود غرفة ثانية، مهمتها توجيه مشاريع القوانين من وجهة نظر جديدة، وإعادة قراءة ثانية للنصوص التي تم إقرارها في الغرفة الأولى.

ومن حيث عملية تطوير النظام، نرى أنّه في نظام المجلسَيْن[6]، تحظى أغلبية مجالس الشيوخ بسلطاتٍ تشريعية، رقابية عادية، إلى جانب المجالس النيابية.

ومن الصلاحيات العادية[7]:

• صلاحية حق المبادرة في الأمور المالية، لضبط التجاوزات داخل المؤسسات الدستورية. وتتمتع بهذه الصلاحية حوالى نصف مجالس الشيوخ (كندا، استراليا).

• صلاحية حق تعديل الدستور، وهي موجودة عند ثلثَي مجالس الشيوخ (النمسا، كمبوديا).

• صلاحية إقرار القوانين والقرارات، وهي من الصلاحيات الأساسية، حيث له الكلمة الفصل في حالات عديدة[8]. أما الصلاحيات الاستثنائية التي تتعدى التشريع العادي فتشمل:

أ- الحفاظ على الدستور: يعتبر مجلس الشيوخ عامل استقرار للنظام الدستوري في البلاد، عبر المشاركة في عملية المراجعة الدستورية في ما يخصّ تعديل الدستور (الذي يتطلب تصويت أكثرية أعضاء مجلس الشيوخ). ويكمن دوره في عملية المراقبة الدستورية سواء من خلال تسمية قسم من القضاة في المجلس الدستوري كما في فرنسا، ألمانيا، النمسا أو من خلال قيامه مباشرة بهذا الدور.

ب- تسمية كادرات الدولة أو تثبيتها: إضافة إلى تسمية القضاة الدستوريين، فالمجلس يؤدي دورًا مهمًا في تعيين كبار المسؤولين في الدولة. هذه العملية تتم عبر التعيين المباشر، أو الموافقة على التعيين بالاشتراك مع سلطة أخرى، كما في الولايات المتحدة الأميركية.

ج- التمتّع بسلطاتٍ قضائية: عادة يشترك مع مجلس النواب في محاكمة كبار المسؤولين في الدولة، حيث يقوم بدور توجيه الاتهام أو الحكم حسب الحالات. وهذه الوظيفة تجعله يحاسب السلطة التنفيذية (في الولايات المتحدة هناك عملية impeachment)، وفي أنظمة أخرى يمثّل المؤسسات القضائية العادية[9].

ويعتبر مجلس الشيوخ ضرورة للنظام البرلماني الديموقراطي، ذلك أنّ وجود مجلس واحد سيعطيه صلاحيات واسعة بمواجهة الحكومة، ما قد يحوّله إلى نظام مجلسي. فوجوده يكرّس التوازن بين البرلمان والحكومة، ويساعد في ضبط إيقاع النظام البرلماني. غير أنّ هناك من يدّعي بعدم قوة هذه الحجة، لأنّه من الصعب على الحكومة مجابهة المجلسَيْن وتلبية مطالبهما. فمجلس الشيوخ الفرنسي على سبيل المثال قد أضعف الحكومة في ظل الجمهورية الثالثة برقابته عليها، إضافة إلى رقابة مجلس النواب. إذًا، يقوم مجلس الشيوخ بمراقبة سياسة الحكومة كما يفعل مجلس النواب، ويسهم في إصلاح العمل البرلماني.

 

٢- البعد السياسي

ينشأ مجلس الشيوخ في إطار تطور المجتمع وليس غريبًا عنه. فقد يكون نتيجة تسوية سياسية (كما في الولايات المتحدة الأميركية)[10]. تقوم التسوية على التوافق بين البنيات السياسية، وتنعكس على المؤسسات الدستورية، بحيث يمثّل مجلس الشيوخ الجماعات التقليدية والمحافظة، بينما يمثّل مجلس النواب الفئات الشعبية، التي تنزع إلى التغيير. ويتميز مجلس الشيوخ عن مجلس النواب في بعض التقنيات: رفع سن الانتخاب للمرشحين، جعل الانتخاب غير مباشر، تقسيم المجتمع على أساس ريفي، مدني، إتني، أقليات...

يسمح مجلس الشيوخ بهيكليته ووظائفه التأقلم مع العالم المعاصر، والتحول نحو الديموقراطية وتثبيت دولة القانون.

من الوظائف الثابتة لنظام المجلسَيْن، السماح بتمثيل مكونات المجتمع كافة، وبالتالي التوصل إلى إقامة نظام سياسي متوازن، ديموقراطي، بمشاركة المكونات في عملية السلطة، ما يوطّد الاندماج والاستقرار في المؤسسات الدستورية.

من حيث التمثيل المتعدد، يكمن دور مجلس الشيوخ، في مشاركة مكونات المجتمع كلها في العملية السياسية، ويضاف إليها تفعيل تمثيلها في المؤسسات الدستورية. فهو يسمح بتمثيل المناطق كلها ومنها مناطق الأطراف في الدولة (المجلس الفيدرالي الروسي)، كما يسمح بتمثيل رجال الاختصاص، من ضمن قطاعات المجتمع والقوى السياسية والمدنية، إضافة إلى تمثيل النخب التقليدية. ويفسح المجال أمام تمثيل منظمات المجتمع المدني (مالاوي)، وتمثيل القيادات التقليدية (تعيينًا أو انتخابًا).

كما يبدو كتقنية حل للتناقضات في المجتمعات وخاصة المتعددة، وكضامنٍ لاستقرار النظام، وذلك بسبب المرونة في تكوين مجالس الشيوخ، ومنطق تكامل النظام عبر تحقيق الاندماج الاجتماعي. نرى أنّ الكونغو وبوروندي اعتمدا مجلس الشيوخ، لتأمين التوازن بين المكونات الإتنية، وجعل مجالسها تضطلع بدور الوسيط بين مختلف الأطراف المتنازعة، لحل مشاكلها سلميًا عبر آليات دستورية.إذًا هو مؤسسة التسوية.

وعندما تكون الحريات في خطر، فإنّ وجود غرفتين أفضل من غرفة واحدة، يقول [11]R.Monory.

انطلاقًا من المقاربة الجديدة، يشكّل هذا النظام شرطًا أساسيًا في ترسيخ الديموقراطية (البرلمانية، والتوافقية)، من خلال مساهمته في تأمين التمثيل الحقيقي لواقع المجتمع بمكوناته المتعددة. إنّ شرط التمثيل والصلاحيات التي يتمتّع بها، يجعلان من هذا النظام الضامن للاستقرار والشرعية للكوادر الدستورية. ومن هنا تظهر أهمية اعتماد هذه التجربة في لبنان.

 

ثانيًا: المشاريع المقترحة لإنشاء مجلس الشيوخ في لبنان

تم اعتماد نظام المجلسَيْن في الحياة الدستورية اللبنانية بحسب المادة 22 من دستور 1926، التي نصّت على أن يتألف مجلس الشيوخ من ستة عشر عضوًا، يُعيّن رئيس الحكومة سبعة فيما يُنتخب التسعة الباقون، وأن تكون مدة عضوية المجلس ست سنوات قابلة للتجديد، أو الانتخاب وفق كل حالة. ويمكن أن يعاد انتخاب من انتهت ولايتهم، أو أن يجدّد تعيينهم على التوالي. ونصّت المادة 98: "تسهيلًا لوضع الدستور موضع الإجراء في الحال، وتأمينًا لتنفيذه بتمامه، يُعطى فخامة المفوض السامي للجمهورية الفرنسية الحق بتعيين مجلس الشيوخ الأول المؤلف وفق أحكام المادتين 22 و96، إلى مدى لا يتجاوز سنة 1928". ما يعني أنّ مجلس الشيوخ عندما أنشئ كان معيّنًا بكامله.

كما نصّت المادة 23، على أن يكون سن الترشح خمسًا وثلاثين سنة على الأقل، ولا يشترط أن يكون مقيمًا في لبنان في موعد انتخابه أو تعيينه. ونصّت مواد أخرى على طريقة اجتماعاته وسير العمل فيه[12].

غير أنّ الأمر لم يطل حتى عُدّل الدستور في 17 ت1 1927 [13], فدُمج مجلس الشيوخ بمجلس النواب وأُنيطت السلطة التشريعية بمجلس النواب، بحسب المادة [14]16 من الدستور. وأبرز الأسباب التي كانت وراء إلغائه، خلافه مع مجلس النواب حول عدد أعضاء الحكومة، توزيع الصلاحيات، انعكاس هذا الخلاف على أعمال السلطة التنفيذية وعرقلة أعمالها، البطء في سنّ القوانين[15]. فهل طُوِيَت صفحة مجلس الشيوخ نهائيًا؟

 

١- المشاريع المقترحة

طُويت قضية مجلس الشيوخ طوال عهد الانتداب. وبعد عشرين سنة كانت مناسبة انتخابات 1947، وما رافقها من حملة على نتائجها، فعادت فكرة إحياء مجلس الشيوخ من جديد، حيث قاد الرئيس ألفرد نقاش تيارًا بهذا الشأن، وتقدّم باقتراح قانون إلى مجلس النواب في العام 1956، يدعو فيه إلى إنشاء مجلس شيوخ مؤلف من 22 عضوًا، ومجلس نواب مؤلف من 66 عضوًا[16].

كما وضع المحامي جبرائيل نحاس مشروعًا شاملًا للإصلاح، يقوم على أسس ثلاثة مقتبسة عن النظام الأميركي: رئيس جمهورية منتخب من هيئة مندوبين تضم خمسمئة شخص، وأتباع نظام المجلسَيْن، وإنشاء محكمة دستورية عليا[17].

أما ميشال شيحا، فقد رفض فكرة المجلس الثاني، متسائلًا عن فائدته ما دام المجلس الأول صامتًا وطيّعًا في يد السلطة التنفيذية، فلا حاجة إلى مجلس للتأمّل طالما أنّ النواب لا يعانون من إجهاد فكري، بل سيكون لنا علتان بدلًا من علة واحدة.

واقترح فايز الحاج شاهين، تأليف مجلس للشيوخ بعددٍ متساوٍ لكلٍ من الطوائف اللبنانية مهما كان حجمها.

أما على الصعيد الرسمي، فقد طُرحت الفكرة على مجلس الوزراء في كانون الثاني 1949، وقرّر أن «يتفادى حل المجلس بإنشاء مجلس شيوخ» [18]كمخرجٍ للأزمة، بيد أنّ الأحداث الداخلية والخارجية أدّت إلى صرف النظر عن الموضوع.

ومع وصول الرئيس كميل شمعون لرئاسة الجمهورية، وإعطاء حكومته الأولى صلاحيات استثنائية، تمثلت بإصدار مراسيم تشريعية، عادت المعارضة إلى الواجهة، لتطمس فكرة مجلس الشيوخ، حين ورودها في المرسوم الاشتراعي رقم 6 تاريخ 14/11/1952. ولم تعد الفكرة للظهور إلا في أواخر الستينيات، رغم بعض الاقتراحات[19].

إنّ الظروف التي مر بها لبنان: حرب 1967، وجود الفلسطنيين، أجواء الانتخابات النيابية 1968، فتح ملف رئاسة الجمهورية، الحلف الثلاثي... دفعت فكرة مجلس الشيوخ إلى الظهور مجددًا، في إطار البحث عن مؤسسة للتمثيل الطائفي، إلى جانب التمثيل الوطني في مجلس النواب، وامتدت خلال الحرب اللبنانية، وانطلق معظمها من مبدأ تمثيل الجماعات الطائفية في مجلس الشيوخ، وفصل التمثيل السياسي عن التمثيل الطائفي[20].

فاقترح الدكتور أنطوان عازار، في مقالة بمجلة «ماغازين»، منح الجماعات الطائفية شرف تمثيلها في مجلس الشيوخ، لأنّ ذلك أفضل من الوضع الحالي، حيث أنّ المجلس النيابي ليس مجلسًا لتمثيل الطوائف، ولا مجلسًا تمثيليًا وطنيًا، طالما أنّ نظامنا الحزبي ما زال عشائريًا، فينبغي إذًا فصل التمثيل السياسي عن التمثيل الطائفي. واقترح إقامة مجلسَيْن: الأول للتمثيل الوطني، والثاني لتمثيل الطوائف. تبنّى هذه الفكرة العديد من الشخصيات السياسية والقانونية، وبعض ممثلي الأحزاب، من اتجاهات مختلفة[21].

وفي مشروعه الإصلاحي، أعلن النائب عصام نعمان، في العام 1977، أنّ تبديد مخاوف الأقليات يكمن في إنشاء مجلس الشيوخ، على أن يشارك مجلس النواب في تقرير القضايا المصيرية والتشريعية، كتعديل الدستور، وإقرار المعاهدات الدولية، وإعلان الحرب، وحماية المعتقدات الدينية، ووضع قوانين الأحوال الشخصية، والموافقة على الميزانيات التي تقدمها الحكومة. ويقسّم مشروعه لبنان إلى 14 محافظة، تكون بدورها دوائر انتخابية لمقاعد مجلس الشيوخ الـ42 المقترحة. ويعتبر أنّه إذا جرت انتخابات مجلس الشيوخ وفق المحافظات المقترحة، فإنّ النتائج ستعكس بالتأكيد تكافؤ في التمثيل بين مختلف الفئات اللبنانية، وذلك ناجم عن طبيعة تركيب المحافظات – الدوائر، وإذا أُبقي التوزيع الطائفي لمقاعد مجلس الشيوخ، فإنّ التكافؤ أو المناصفة تتكرّس بقانونٍ[22].

أما النائب مانويل يونس، فقد طرح مشروعًا للتسوية السياسية في العام 1979، مبنيًا على نظام الثنائية المجلسية: الأول يقوم على أساس التمثيل الشعبي غير الطائفي، ويُعطى صلاحيات شاملة، والثاني يمثل الطوائف بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين، ويُعطى صلاحيات محددة بالقضايا المصيرية: إعلان الحرب، عقد وتصديق المعاهدات وإلغاؤها، تعديل الدستور، والنظر بقوانين الأحوال الشخصية[23].

ورغم أنّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، قد تقدّم في العام 1977، بمشروعٍ تضمّن المطالبة بمجلسٍ اقتصادي اجتماعي، أو مجلس شيوخ، أو الاثنين معًا، فإنّ اللقاء الإسلامي الذي عقد في 31/9/1983، والذي ضم طوائف السُنّة، الشيعة، الدروز، لم يتطرّق في بيانه الختامي إلى إنشاء مجلس الشيوخ، بل أشار إلى إلغاء الطائفية السياسية في مؤسسات الدولة جميعها[24].

لقد تقدّمت الهيئة العليا للطائفة الدرزية بتاريخ 9/5/1983، بمذكرةٍ حدّدت فيها موقفها من النظام السياسي  الدستوري، وطالبت بإنشاء مجلس للشيوخ، تنحصر سلطته بالقضايا المصيرية، على أن تكون رئاسته للطائفة الدرزية[25].

وفي مؤتمر الحوار الوطني، في جنيف سنة 1983، والذي مهّد للقاءٍ في لوزان 1984، شهدت المواقف الإسلامية والمسيحية تبدّلًا واضحًا، لجهة تبنّي مطلب إنشاء مجلس الشيوخ. فاقترح ممثلا الحزب التقدمي الاشتراكي إنشاء مجلس الشيوخ، ووافق عليه ممثلو الرئيسَيْن عادل عسيران وصائب سلام، على أن لا يكون طائفيًا، بينما رفض ممثلو الرئيس سليمان فرنجية، وحزب الكتائب، والوطنيين الأحرار، هذا الاقتراح[26]. ثم عاد اقتراح إنشاء مجلس الشيوخ، ليظهر في البرنامج الإصلاحي الذي طرحه الرئيس أمين الجميل في مؤتمر لوزان، وورقة العمل التي تقدّم بها رئيس حركة أمل الأستاذ نبيه برّي في حينه إلى هذا المؤتمر، لكنّ الحوار في المؤتمرين لم يحسم هذا الأمر.

وأتى بيان حكومة الاتحاد الوطني برئاسة رشيد كرامي في 31/5/1984، مخرجًا مناسبًا أنذاك، إذ وعد بإنشاء هيئة وطنية تمثّل الاتجاهات كافة لصياغة دستور جديد، ومن صلاحياتها استحداث مؤسسات جديدة، بما في ذلك مجلس الشيوخ[27].

ثم جاء الاتفاق الثلاثي بين القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل، والموقع في دمشق في 28/12/1985، لينصّ على استحداث مجلس الشيوخ، تنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية، ومجلس اقتصادي اجتماعي. ولم يرد مجلس الشيوخ في مشروع القوى المسيحية المناهضة للاتفاق الثلاثي، في 20/3/1986، حيث اكتفى بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

بعد تلك الاقتراحات والمشاريع، أتت وثيقة الوفاق الوطني التي على أساسها عدّل الدستور في 1990، فنصّت المادة 22 منها على استحداث مجلس الشيوخ، وبقي أن يوضع موضع التنفيذ. وهكذا أُجّل الإنشاء إلى أجل غير محدد، حيث رُبط بالمادة 95 التي تنص على آلية إلغاء الطائفية السياسية، عبر تشكيل هيئة وطنية لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغائها، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

 

وفي محادثات روما[28] في آذار2013، بين البطريرك الماروني بطرس الراعي والرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، والتي خُصّصت للبحث في قانون الانتخاب، والخروج من المأزق السياسي الذي كان قائمًا حينها، طرح الرئيس برّي ورقة عمل، واتّفق الأطراف الثلاثة على آلية للحل، من خلال قانون مختلط للانتخاب يقوم على انتخاب 64 نائبًا وفق النظام الأكثري، و64 نائبًا وفق النظام النسبي، وتشكيل مجلس الشيوخ، وتمديد تقني للمجلس النيابي، وحكومة جديدة للإشراف على الانتخابات. وكتبت حينها ورقة بخطّ اليد، تضمنت اقتراحًا بالسير بمجلسٍ نيابي، وآخر للشيوخ وفق المادة 22 من الدستور. وتُشير الورقة إلى ما يأتي:

• لمجلس الشيوخ صلاحيات مستقلة، لا يتشارك فيها مع أحد، مثلًا: الحرب والسلم، الأحوال الشخصية، إعلان حالة الطوارئ، الخطط الإنمائية الشاملة لكل لبنان.

• باقي الصلاحيات لمجلس النواب.

• يتألف مجلس الشيوخ من 80 شيخًا، على سبيل المثال، ينتخبون بموجب القانون الأرثوذكسي الذي أقرّته يومها اللجان النيابية المشتركة. لكن الورقة لم توضع موضع التنفيذ.

وأعادت طاولة الحوار الوطني 2016 البحث مجددًا بمجلس الشيوخ، حيث طلب الرئيس برّي من القوى السياسية المشاركة في الحوار أن تتقدّم بأسماء ممثليها إلى لجنة مجلس الشيوخ، التي يفترض أن تتشكّل[29].


٢- خلفيات المشاريع المقترحة

يمكن ملاحظة ما يأتي:

• لم يتقدم رجال الفكر والاختصاص بمشروعٍ متكامل لمجلس الشيوخ.

• إنّ إنشاء مجلس الشيوخ، لم يكن مطلبًا ملحًا وثابتًا، في برامج الأحزاب والتيارات.

• لم تكن معظم التيارات السياسية، أو الحزبية، أو الطائفية، متفقة بالحد الأدنى على إنشاء مجلس الشيوخ، بل كان في بعض الفترات سببًا للانقسامات، حيث أنّ التباين كان واسعًا حول أهدافه وغاياته، والتقنيات التي يمكن أن تستعمل للوصول إليه.

• لقد تغيرت المواقف ضمن الفريق الواحد في غير حقبة سياسية ومشروع وموقع. بحيث نجد أنّ الظروف التي دفعت إلى رفضه كانت وراء التمسّك به، فيظهر التناقض داخل التيار نفسه وفي إطار المعطيات نفسها.

• إنّ ظاهرة أحزاب اليمين واليسار، أو التيارات المحافظة التقليدية والتقدّمية التغييرية في العالم، لم تكن لتظهر في لبنان بشكلٍ واضح، (مثلًا غير التقليدية كانت ضد، نجدها في لبنان تطالب به، كأحزاب الحركة الوطنية في بعض الفترات، والقوى التقليدية ترفضه. لكن هذا المعيار غير ثابت).

• بدت المطالبة بمجلس الشيوخ سببًا لتأجيج النزاعات، وليس مشروعًا لحل أزمة معيّنة، أو لتلافي قضايا معيّنة، بل طرح كمشروعٍ مضاد للطرف الآخر. فحمل المشروع في ثناياه بذور دفنه قبل ولادته.

• غالبًا ما ترافقت فكرة الطرح مع أزمة وطنية، فقد صُوّر كمستوعبٍ لضبط التناقضات الداخلية والخلافات، من القاعدة إلى رأس الهرم السياسي.

• ترافقت الدعوة في غالب الأحيان، مع الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية، وكبديلٍ لها. إنّ تلازم المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، مع إنشاء مجلس الشيوخ، أمر من شأنه أن يبقي الطائفية السياسية مظهرًا أساسيًا في النظام السياسي، وبالتالي بدلًا من أن يكون هذا المجلس إطارًا دستوريًا لحل بعض المشكلات، أصبح سببًا في تكريس الطائفية، وبالتالي توليد المزيد من الأزمات.

• طرح في بعض الفترات كمشروعٍ لاسترضاء بعض الطوائف، بمعنى إذا كانت الرئاسات الثلاث موزّعة على المذاهب الكبرى، فرئاسته تُعطى لطائفةٍ أخرى.

• إذا كان ما يبرّر إنشاءه في مطلق أي نظام دستوري لجهة التعدد الديني أو الحضاري، فإنّ الأمر في لبنان يختلف رغم التعددية والتنوع الثقافي في لبنان، إلا أنّ المشروع قد طرح من بعض التيارات المحافظة، كتعبيرٍ عن تعدد حضاري وليس ديني[30].

 

القسم الثاني: إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان بين مؤيد ومعارض

قد تكون أسباب الأخذ بهذا النظام، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، تاريخية،... لكن البحث في هذا الموضوع في لبنان يتطلب التجرد من البرمجة الذهنية لمجالس الشيوخ في العالم، والنظر في إطار إدارة التعددية الدينية والثقافية وضمان حقوق الطوائف. إنّ أساس هذه المقاربة لبناني، وإطارها المجتمع اللبناني الضامن للتعايش المشترك بين مجموعاته المتعددة.

ما الفرق بين إجراء تمثيلين ديموقراطيَيْن للشعب نفسه عبر مجلسَيْن؟ ما هي أسباب إعادة إنشاء مجلس تشريعي ثانٍ في لبنان؟ ما هي الحجج التي استند إليها كل من دعاة الثنائية التمثيلية والمعارضين لها؟

أولًا: أسباب الأخذ بمجلس الشيوخ في لبنان

إنّ الشعب، كما يقول الفقيه الدستوري دوغي: "لا يتألف من أفراد فحسب، بل ومن جماعات متميزة عن الأفراد، ولذلك يجب أن يتألف البرلمان من مجلسَيْن: الأول يمثل أفراد الشعب مباشرة، والثاني جماعاته"[31].

جرّب لبنان في تاريخه الدستوري مجلس الشيوخ لحوالى سنة وخمسة أشهر، إلا أنّ هذه التجربة لم تنتج مظاهر ذات أهمية للحكم عليها بالفشل أو النجاح، أو جعلها ركيزة لإعادة الإنشاء أم التخلي عن الفكرة.

إنّ الدعوة لإعادة إنشاء مجلس الشيوخ، وردت في المادة السابعة من قسم الإصلاحات السياسية في وثيقة الوفاق الوطني، وفي المادة 22 من الدستور اللبناني التي نصّت على الشرط الملزم لإنشائه، وصيغة تشكيله وصلاحياته. وهذا ما ورد في المادة: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه العائلات الروحية جميعها وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية".

 

هذه الدعوة تبيّن هدف إنشائه، وهي محرّك لعدة خطوات منها: إلغاء الطائفية السياسية، تمثيل العائلات الروحية والنظر في القضايا المصيرية.

١- إلغاء الطائفية السياسية

إنّ أحد الحلول التي تم اقتراحها للمسألة اللبنانية، هو ثنائية السلطة التشريعية. يعود الهدف من إنشاء مجلس الشيوخ إلى تجاوز نظام الطائفية السياسية، نحو نموذج ديموقراطي أكثر تمثيلًا وفاعلية. وهكذا، من الصعب الحديث عن قيام مجلس شيوخ في لبنان، من دون التطرق إلى موضوع الطائفية.

إنّ استحداث هذا المجلس يرتبط بشرط انتخاب أول مجلس نواب، على أساس وطني لا طائفي. يتبيّن من نص المادة 24 أنّ قانون الانتخاب المطلوب هو خارج القيد الطائفي، ومرحلة ما قبل إنشائه هي انتقالية.

فيكون هذا المجلس بداية طريقًا للحكم المدني وتخطّي الطائفية المجتمعية.

فإنشاء مجلس نواب على أساس قيد غير طائفي، جزء من الخطة الواردة في المادة 95 من الدستور. وبالتالي، إنّ تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي، قابله تثبيت الطائفية في مجلس الشيوخ. إنّ تمثيل العائلات الروحية يكون بمثابة إعادة الطائفية السياسية بوجهٍ آخر. صحيح أنّ نية المشرّع هي إلغاء الطائفية، لكن مع مراعاة لطبيعة النظام السياسي القائم على التعددية.

إنّ إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية المجتمعية، عمليًا هو فصل البنية السياسية للنظام عن البنية المجتمعية. والمتعارف عليه أنّ قاعدة النظام السياسي هي المجتمع، وفي حال الفصل بينهما يصبح النظام غريبًا عن المجتمع. إضافة إلى أنّ الطائفية السياسية تتكامل مع مبدأ التعايش المشترك. وهذا ما سيجسده مجلس الشيوخ.

غير أنّ المادة 22 التي تنصّ على إنشاء مجلس الشيوخ، تتعارض بروحيتها مع المادتين 24 و95 من الدستور. هاتان المادتان تتكلمان عن إلغاء الطائفية السياسية، وبالمقابل تتكلم المادة 22 عن إعادة الطائفية السياسية بصياغةٍ ثانية. إنّ مهمة مجلس الشيوخ بعد إلغاء الطائفية، محددة بالحفاظ على التعددية والتعايش المشترك.

يدل الواقع على أنّ العقلية الطائفية المجتمعية موجودة، حتى ولو ألغينا التمثيل الطائفي. عمليًا بإلغائه، قد نصل إلى مجلس نواب ذي أكثرية ديموغرافية من لونٍ معيّن، وهنا ندخل في المجهول.

 

٢- تمثيل العائلات الروحية جميعها

إنّ مجلس الشيوخ يمثّل الشعب كما هو حال مجلس النواب، وتمارَس السيادة الوطنية باسمه. فما هو واقع التمثيل في لبنان؟ بداية، يُقصد بالعائلات الروحية، الطوائف، وهذه تشكيلة يتميز بها لبنان. كان يتم توزيع المقاعد في مجلس الشيوخ سنة 1926 على الطوائف على الشكل الآتي: خمسة موارنة، اثنان أرثوذكس وواحد كاثوليك، ثلاثة سُنّة، ثلاثة شيعة، واحد درزي، ومقعد واحد مخصص للأقليات المتبقية.

لقد نصّ الدستور على إلغاء الطائفية السياسية، لكنّه أوجد صيغة لإبقاء الوجه الحضاري، المتمثّل في وجود الطوائف في الكيان الدستوري والمؤسساتي للدولة. وهنا تكمن أهمية استحداث مجلس الشيوخ. هو ليس مجرد إجراء مؤسساتي، يكمّل مؤسسات الدولة كما في معظم الدول، بل إنّه يسهم في إيجاد نوع آخر من التمثيل. يسمح بتمثيل الطوائف كافة، وبالتالي تبديد هواجسها والحفاظ على حقوقها. كما يؤمّن مشاركة الطوائف كلها في صياغة القرارات الوطنية. وبذلك يمكّن الأقليات، التي لا يمكنها الحصول على تمثيل في مجلس النواب، من الحصول على ذلك الصوت في مجلس الشيوخ. فوجوده يتناسب مع التمثيل الطائفي أكثر من مجلس النواب. مثلًا إنّ إعطاء المسيحيين ما يبتغونه من تمثيل فعلي (توازن الرئاسات بين المسيحيين والمسلمين) يضمن لهم، ولغيرهم حق الفيتو على القرارات الوطنية. إنّه الضمانة لهذه المجموعات، يبدّد مخاوفها، ويطمئنها.

ويطاول التمثيل الحالي للطوائف:

• التمثيل في السلطة التشريعية، بحسب المادة 24: يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفق قوانين الانتخاب المرعية الإجراء.وتوزع المقاعد النيابية وفق القواعد الآتية:

أ- بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.

ب- نسبيًا بين طوائف كل من الفئتين.

ج- نسبيًا بين المناطق.

• التمثيل في السلطة التنفيذية، بحسب المادة 95: تمثيل الطوائف بصورةٍ عادلة في تشكيل الوزارة. إنّ عبارة بصورةٍ عادلة، لغويًا لا تعني بالضرورة مناصفة، ولكن عمليًا هناك مناصفة في توزيع الوزارات.

• التمثيل في إدارات الدولة، بحسب المادة 95، توزع وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة. إضافة إلى العرف القائم على مراعاة التمثيل الطائفي، في مؤسسات الدولة كلها. كما توزع الرئاسات على الطوائف. وهكذا نصل إلى تعميم لمبدأ التمثيل الطائفي.

هل يأتي مجلس الشيوخ، ليزيد في صحة التمثيل، وذلك استكمالًا للنظام الانتخابي النسبي الذي يتصف بصحّة التمثيل؟

 

٣- النظر في القضايا المصيرية

إنّ صلاحيات مجلس الشيوخ تتعمق وتتوسع، كلما كان موقعه أساسيًا في النظام السياسي، ودوره مرتبطًا بآليات عمل النظام. وفي لبنان، يتناول مجلس الشيوخ القضايا المصيرية الكبرى، ويتطرق إلى المفاصل الأساسية في السياسة اللبنانية، فيشكّل منصّة دستورية مخصصة للمسائل الكيانية. وهكذا ينصرف مجلس النواب للتشريع، بما يعنى بأمور الناس.

لقد أشار البعض، إلى أنّ القضايا الأساسية وردت في المادة 65 من الدستور، والتي هي بحاجة إلى تصويت ثلثَي مجلس الوزراء، منها: تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء، وهكذا يحفظ لمجلس الشيوخ موقعًا مشاركًا في السلطة، ودورًا للطوائف في صنع  القرار.

 

٤- أهداف أخرى

استكمالًا للأهداف التي سبق ذكرها، يشكّل إنشاؤه على المستوى الدستوري، تحقيقًا لأحد بنود الطائف الإصلاحية، وتطبيقًا للمادة 22 من الدستور.

كما أنّ وجوده يدعم مبدأ فصل السلطات، يقول العلامة الدستوري فيديل:"هو ملحق لفصل السلطات في صلب السلطة التشريعية ذاتها"، وليست المنازعات بين المجلسَيْن عيبًا في الثنائية، بل هي الوسيلة التي تتحقق بها مزايا الثنائية بمنع استبداد الأغلبية في المجلس التمثيلي المباشر. يساعد على تمرير التشريعات بأعلى درجات التوافق، وزيادة الرقابة بين المجلسَيْن وعلى السلطة التنفيذية.

أثبتت التجربة الفرنسية، أنّ المجلس الثاني شكّل دائمًا ضمانة للاعتدال والحد من تطرّف المجلس الأول نحو اليمين أو اليسار والحؤول من دون المخاطر التي تُهدّد الحريات العامة بسبب ذلك، والتثبت من نضج التشريعات الإصلاحية التي تحدث تغييرات هامة في بنية المجتمع، ولذلك قيل إنّ المجلس الأول هو مجلس التدبّر والثاني مجلس التبصر. وفي المحصّلة، فإنّ المجلس الثاني يحمي الحكومات الضعيفة من تسلّط الأغلبية في المجلس الأول كما يتصدّى للحكومات القوية التي تستند إلى أغلبية متماسكة. إنّ المجلس الثاني كما يقول الفقيه فيديل: "أبعد من أن يكون كابحًا، إنّه مقوّد"[32].

ومعه يتم توزيع جديد للسلطات في النظام السياسي. فيسمح بتوزيع الصلاحيات، ما يؤدي إلى منع استبداد سلطة على أخرى. يحرر العمل التشريعي من التمثيل الطائفي.

كما يسهم في تفعيل عمل السلطات ولا يسمح بتجميده. يؤمّن التوازن بين السلطة التشريعية والتنفيذية ويخفّف من حدة الصراع بينهما، يساعد على تنظيم العلاقة بينهما، فيكون دوره إيجاد تسوية للمواضيع التي قد تكون موضع خلاف بينهما، يتمتّع بحق الفيتو في ما يخص المسائل الأساسية في الدولة.

يمنع التسرّع كونه يتمتع بالخبرة والنضج، وإمكانية إدخال عناصر كفوءة، يعالج القضايا المصيرية، يؤمّن استقرارًا تشريعيًا. وقد يؤدي إلى تحوّل في الحياة السياسية. ربما قد يشكّل مخرجًا للأزمات في لبنان.

إنّ نظام الغرفتَيْن يرتبط بطبيعة النظام السياسي، وهذا ما يوافق النظام التوافقي في لبنان، وبالتالي لن يتغير وجهه، فتبقى المؤسسات ضامنة للتنوع.

يظهر أنّ مجلس الشيوخ مستلهم من الصيغة التوافقية كما قدّمه أنطوان مسرة، فقد طوّر فيه نظرية الفيدرالية الشخصية[33]، وكما ذكرها غسان سلامة مستوحاة من الاتحادية الهولندية[34].

إنّ مجلس الشيوخ أداة للحد من ديموقراطية الأكثرية. إنّه يجابه معضلات طرحتها تحوّلات المجتمع. ويحقّق التوازن والاستقرار للنظام السياسي، ويخفف من التوترات السياسية. هذا النظام قد يبدو مناسبًا لمعالجة المأزق الطائفي، الذي غالبًا ما يشلّ الحكم في لبنان.

 

ثانيًا: أسباب المعارضة

تتمحور أسئلة المعارضين حول مدى الفاعلية والغاية من إنشاء مجلس الشيوخ. ما الذي يبرر وجوده؟ ما هو وضعه الدستوري؟ وما هو وضعه من ناحية ارتباطه بالنظام السياسي؟

إنّ الكلام عن مجلس شيوخ، يتطلّب ورشة دستورية لوضع آلياته التطبيقية، والنظر في علاقته مع بقية السلطات. إنّ مسألة إعادة الإنشاء، بحدّ ذاتها شأن مصيري كبير، إذ من الصعب التوافق على طريقة انتخابه، تعيينه، أو صلاحياته وحصانته. ومن أسباب معارضة إنشائه ما هو دستوري، ومنها ما هو سياسي.

 

١- الأسباب الدستورية

تعالج الأسباب الدستورية مسائل التشكيل والصلاحيات، كذلك الآليات التي سوف تتوافر لتسوية النزاعات بين المجلسَيْن.

• من ناحية تشكيله

تألف أول مجلس شيوخ في لبنان من ستة عشر عضوًا، يعيّن رئيس الحكومة سبعة منهم بعد استطلاع رأي الوزراء ويُنتخب الباقون، وتكون مدة عضو مجلس الشيوخ ست سنوات. ومع طرح إعادة إنشاء مجلس شيوخ، هل سيعتمد الانتخاب المباشر، أو غير المباشر أو التعيين لتشكيله؟ أو يكون هناك نوع من المزج بين الانتخاب والتعيين[35]؟ ماذا سيكون أساس تكوين مجلس الشيوخ؟ طائفي؟ إقليمي؟ مختلط؟ وماذا بالنسبة لموضوع العدد، العمر، التعليم، الخبرات المهنية للأعضاء؟ وتوزيع المقاعد بين الجماعات؟ ما هي مدة الولاية؟ سن الترشح؟ موضوع الحصانة؟ موضوع حله ومن قبل من؟ وتحت أي ظروف؟ حصة المرأة، أعضاء المجتمع المدني، المغتربون؟ قضية تركيبته الطائفية؟ كم مقعدًا سيُعطى لكل طائفة؟ هل سيحافظ المجلس على نظام الحصص المعمول به حاليًا في مجلس النواب، أم أنّه سيكون لكل دائرة انتخابية عدد متساوٍ من الممثلين؟ تحديد الدوائر الانتخابية؟ هل يمكن ربطه بالحقائق الديموغرافية؟ ألن يؤدي ذلك إلى تفاقم المخاوف بشأن التعايش وتقاسم السلطة؟ هل سيتم انتخاب مجلس النواب قبل انتخاب مجلس الشيوخ، أم أنّ هناك عملية تزامن؟

هل يجوز الجمع بين عضوية مجلس النواب وعضوية مجلس الشيوخ؟ أو الجمع مع الوزراء[36]؟ لأي طائفة ستؤول رئاسة المجلس؟ في الوقت الذي يتم فيه اقتراح مجلس الشيوخ، يظهر أنّ "الدروز والروم الأرثوذكس على حد سواء تنافسوا للحصول على رئاسته". لكن، إذا حصل عليها الدروز، سيكون هناك ثلاثة رئاسات للمسلمين وواحدة فقط للمسيحيين، في حين إذا حصل الأرثوذكس عليها، سيكون النظام متوازنًا[37].

وإذا كانت آلية الوصول إليه مشابهة لآلية الوصول إلى مجلس النواب، فهذا يظهر عدم جدواه وفعالية عمله. ومن المبررات أنّ طرح موضوع انتخابه على أساس القانون الأرثوذكسي غير دستوري، بحيث أنّ كل طائفة تنتخب شيوخها، وهذا ما يتناقض مع هدف إنشائه، ويؤدي إلى الخروج من المناصفة، وفرز اللبنانيين وضرب روحية الميثاق[38].

• من ناحية صلاحياته

لقد أعطى دستور 1926 عدة صلاحيات لمجلس الشيوخ (تشريعية، مالية، سياسية، قضائية، الموافقة على المعاهدات الخارجية، الفصل في صحة عضوية أعضائه،...)، فكان الخلاف على هذه الصلاحيات، وتقاسمها مع مجلس النواب سنة 1927، سببًا في إلغائه. اليوم، هناك ضبابية حول تعريف القضايا المصيرية في نص الدستور. اعتبرت بعض الاجتهادات الدستورية أنّ المواد الواردة في المادة 65 من الدستور، هي نفسها القضايا المصيرية.

هل يمكن لمجلس الشيوخ أن يقترح[39]، يعدّل، يقوم بتأجيل، و/أو يستخدم حق النقض لمواجهة أي تشريع؟ أي نوع من الأغلبيات تتطلب هذه العمليات؟ هل هناك مجالات قانونية يكون لمجلس الشيوخ الاختصاص الحصري فيها؟ هل سيتمتع بسلطة الدعوة إلى استفتاء؟ هل يمكن لمجلس النواب نقض سلطة مجلس الشيوخ؟ كيف يمكن إعادة رسم صلاحيات مجلس النواب والسلطة التنفيذية؟ كيف يمكن لمجلس الشيوخ مساعدة أو عرقلة الجهود الرامية إلى تحقيق مزيد من اللامركزية الإدارية، وإلى علمنة قوانين الأحوال الشخصية[40]؟

إذا تمتع مجلس الشيوخ بصلاحياتٍ واسعة، يكون هذا ضربًا لمبدأ فصل السلطات، بحيث لا تستطيع أي سلطة مراقبته، والحد من سلطته.

وإذا كان دوره أقل أهمية من مجلس النواب (دور العناية وإعادة النظر)، أو إذا وضعت القيود على أعضائه ودوره، كمنع أعضائه من الانتماء إلى الأحزاب السياسية، أو القيام بحملاتٍ انتخابية (تايلاند) فيصبح مشابهًا لبقية مجالس الشيوخ.

وبالنسبة إلى موضوع الفراغ الرئاسي، ففي فرنسا تنتقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس الشيوخ فيصبح كأنّه نائب رئيس الجمهورية، هل سيكون الوضع هكذا في لبنان؟

إنّ التجربة السابقة التي عاشها لبنان في صيغة الدستور الأولى لم يكتب لها البقاء، فما هو مصير التجربة الثانية؟ على الرغم من أنّ المادة 22 من الدستور تنص على إعادة الإنشاء غير أنّه طرح في إطار غير دستوري، فلا موضوعية في الطرح بل يظهر كجائزة ترضية تطرح بين الحين والآخر. يتم طرحه بشكلٍ روتيني كلما عرضت للمناقشة مسائل إصلاح المؤسسات وإلغاء الطائفية السياسية. هل إنّ إصلاح المؤسسات هو نهج قصير النظر بالنسبة إلى المشاكل السياسية اللبنانية؟

إنّ نص الطائف نص إنشائي غير ناظم، يقتضي وضع دراسة دستورية وصدور قانون دستوري بغية تحديد صلاحياته وإعادة النظر بصلاحيات مجلس النواب، منعًا لأي تضارب وتشابك بين السلطتين ولتوضيح علاقته مع السلطات الأخرى، كالمجلس الدستوري، والحكومة.

لقد لحظ الدستور حل مجلس النواب ولم يلحظ حل مجلس الشيوخ. إنّ عدم إمكانية حل مجلس الشيوخ يعزز دوره في عدة مجالات، ويعتبر كالضامن الوحيد لاستمرارية التمثيل الوطني.

إنّ وجوده لإيجاد توازن مع مجلس النواب ومنع احتكار مجلس النواب غير كاف. فالخلاف بين المجلسَيْن، ينعكس على السلطة التنفيذية ويعرقل عملها، ويؤدي إلى البطء أكثر فأكثر في سن القوانين.

أيضًا، من المآخذ الرئيسة على ثنائية المجالس، تعارضها مع وحدة الأمة، ووحدانية تمثيلها ومبدأ سيادة الأمة التي لا تتجزأ، ومبادئ الديموقراطية، فمع وجود مجلسَيْن واستنادهما معًا إلى الإرادة الشعبية، قد تتناقض قراراتهما أحيانًا ما يؤدي إلى قيام منازعات بينهما، وما يقتضيه ذلك من وضع أسس الحل لهذه المنازعات، ثم تسببها في بطء العمل التشريعي حتى الشلل أحيانًا[41].

إنّ الاتجاه في أكثرية الدول هو التخفيف من صلاحياته وجعلها استشارية، والسبب هو منطق الأكثرية والحوار السياسي بين مجلس النواب والحكومة[42]. لماذا السير بالاتجاه المعاكس؟

 

٢-الحجج السياسية

إنّ الفكرة التي قادت إلى وضع المادة 22 في دستور الطائف، أتت من دون الغوص في نقاش قانوني، دستوري لإنشاء مجلس الشيوخ. إنّما دار النقاش حول إلغاء الطائفية السياسية، التي تم ربطها بفكرة الإنشاء، في إطار الحفاظ على حقوق طوائف الأقلية، مقابل طوائف الأكثرية.

هكذا، اعتبر معدّو الطائف أنّ إلغاء الطائفية السياسية، مقابل استحداث مجلس الشيوخ، من شأنه إرضاء الطوائف، منطلقين مما يحمله نظام المجلسَيْن من تمثيل حقيقي للمجتمعات المتعددة. فقد رأى هؤلاء في مجلس الشيوخ ضمانة للمشاركة الحقيقية للطوائف، في كل القضايا الكبرى والمصيرية[43]. ولكن عدم تحديد المقصود بالقضايا الكبرى والمصيرية، من شأنه أن يفتح الباب أمام كل قضية قد ترى فيها طائفة ما أهمية لها، في وقت تقارب فيه كل القضايا طائفيًا في لبنان. وهذا ما قد يؤدي إلى نقل صلاحية مناقشة وتقرير كل الأمور إلى مجلس الشيوخ بدلًا من المجلس النيابي، الأمر الذي قد يفرّغ الدور الذي يضطلع به المجلس من قيمته. إنّ ذلك من شأنه أن يضع مجلس الشيوخ في مرتبة أعلى من مرتبة مجلس النواب، وأن يعيد منح الطائفية السياسية وزنها الحقيقي ولكن هذه المرة تحت قبة مجلس جديد.

كذلك في موضوع الطائفية السياسية، إنّ طرح إنشاء مجلس الشيوخ في غير محله. إذا كان الهدف من إنشائه إلغاء الطائفية السياسية، وإنشاء مجلس نواب خارج القيد الطائفي، فهذا يلزمه دراسة دستورية لوضع آلية تطبيقه. كما أنّ هذا الطرح قد لا يرضي البعض الذين يسألون عن الضمانات. من غير الدستوري إنشاء مجلس شيوخ قبل إلغاء الطائفية السياسية. الطائف هو اتفاق المساواة، وإلغاء الطائفية السياسية هو إلغاء المناصفة في مجلس النواب، والتوازن في الحكومة، حتى في الرئاسات الثلاثة، بالتالي تفكيك نظام الحصص. ستؤدي هذه الصياغة المبهمة لتفسيرات متضاربة لطابع الدولة اللبنانية في مرحلة ما بعد المذهبية، وكذلك لدور مجلس الشيوخ.

قد رافقت إلغاء مجلس الشيوخ في العام 1927، سلسلة من التعديلات الدستورية، وفسّر عباس زين[44] ذلك بهدف تقوية موقع رئاسة الجمهورية، وتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي. فهل لإعادة إنشائه أهداف مستترة كتغيير النظام السياسي؟

مجلس الشيوخ مجلس معروف تاريخيًا أنّه للحكماء، وفي لبنان سيكون لممثلي الطوائف. عدا عن موضوع الصراع بين الأحزاب التي تدير اللعبة السياسية، وتحمل راية الطوائف. المفارقة هي أنّ الأحزاب غير الدينية، هي الموافقة على إنشائه.

إذا كان مجلس الشيوخ يضمن تمثيل الجماعات، فهذا يعني انعكاس الخصوصيات. إنّ كيفية استخدام هذا التمثيل لا توفر مكانًا متساويًا أو متوازنًا نسبيًا للفئات المختلفة من الجماعات، ولها مفعول إفساد تمثيل مجلس الشيوخ. إنّ فئات المجتمع جميعها بعيدة عن المشاركة بالنسب ذاتها في انتخابه. إذًا، إنّ البنية الاجتماعية والسياسية لمجلس الشيوخ ستحمل في طياتها خللًا بالتوازن. ألا يجب أن يكون له شرعية تمثيلية وإفادة معترف بها كما هو موجود في الدول الفدرالية؟ وبإنشائه سنكون قد قمنا بنقل مشاكلنا إلى مؤسسة جديدة، وخلق أسوأ مشاكل المحاصصة[45].

والأهم أنّ البلد منهك سياسيًا، طائفيًا واقتصاديًا، وإنشاء المجلس يحمل عبء كلفة وإهدار الوقت والإنتاج.

بالنسبة للمواقف السياسية[46]، نشير إلى أنّ الأحزاب السياسية غير متفقة في موضوع طرحه وإنشائه. فهي تتفاوت بين الموافقة المبدئية على تطبيق اتفاق الطائف كاملًا، ورفض الهروب إلى الأمام بدل معالجة المشاكل السياسية والحالية.

ويرى بعض المسؤولين السياسيين أنّه لا حاجة إلى إنشاء المجلس كما في بقية الدول، فمهمته الحفاظ على التعددية والتعايش المشترك، وإذا كان من أجل وجود آلية المراقبة فهي موجودة، فالمجلس الدستوري يقوم بمراقبة دستورية القوانين، والرئيس يسهر على حفظ الدستور، إضافة إلى رقابة الشعب والرأي العام.

وبعضهم يرى أنّه لا شيء يبرر إنشاء مجلس الشيوخ في نظام كنظامنا، إنّه يشكّل عملية تأخير في التشريع، من دون أي مساهمة إيجابية.

ومنهم من يقول: "إنّ المتحاورين يضعون العربة أمام الحصان عند مناقشة تأسيس مجلس الشيوخ".

والبعض الآخر يرحّب بـتطبيق اتفاق الطائف بشكلٍ كامل ومنه بند تأسيس مجلس الشيوخ اللبناني.

ومنهم من يسأل عن إمكانية إنشاء مجلس حكم جديد في بلد مفكّك سياسيًا وطائفيًا[47].

يظهر أنّ التوقيت لم يَحِن بعد، فلا توافق في المواقف السياسية، ولا المجتمع على استعداد لإعطاء الشرعية لمؤسسة جديدة.

 

الخاتمة

تعتبر قضية إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان، من القضايا الحساسة المختلف عليها بين التيارات الحزبية والسياسية. ومهما كانت الأسباب والظروف والخلفيات التي أدت إلى إعادة طرح إنشاء مجلس الشيوخ، فهناك مادة دستورية تنتظر التنفيذ، جاءت تجسيدًا لعدة مشاريع، فبينت هدف الإنشاء، والأسباب الداعية له، وكانت حسناته أكثر من سيئاته. وكأي موضوع آخر كان هناك من يعارض.

انطلاقًا من أنّ دور مجلس الشيوخ يرتبط بشكلٍ مباشر بوظيفة النظام السياسي، فإنّ قيام هذا المجلس يرتكز على ثوابت النظام السياسي اللبناني، وأبرزها مسألة التعايش المشترك بين الطوائف، وحفاظ كل منها على حق المشاركة في السلطة عبر ممثليها. فيكون مجلس الشيوخ الإطار المنظّم والواضح، لتدافع كل طائفة عن حقوقها في صلب النظام. وهنا تظهر أهمية الترابط بين النظام السياسي والتركيبة المجتمعية، وضرورة انعكاس هذه التركيبة في مجلس الشيوخ.

كما أنّ توافق معظم التيارات على إنشاء مجلس الشيوخ أمر ضروري. فمجلس الشيوخ سيكون ضرورة تسوية بين الطوائف. يتم القبول به من قبل المجتمع كما السلطة. وقبل إلغاء الطائفية السياسية، لا بد من تأمين الإطار الدستوري والمؤسساتي لهذه الطوائف، بشكلٍ يحقق لها الدفاع والمحافظة على ما تعتبره حقًا من حقوقها التاريخية.

الهدف من إنشاء مجلس الشيوخ ليس تغيير النظام السياسي إنّما إصلاحه، وذلك عبر:

• تأمين صحة التمثيل، التي تؤدي إلى تغييرات بالتوازنات، في لعبة المشاركة في السلطة.

• تكريس الفيتو الطائفي داخل مؤسسة دستورية، حيث لا يمكن إقرار قانون تعارضه إحدى الطوائف. فتكون هذه المؤسسة الإطار لإيجاد قنوات للفصل بين السلطات السياسية والهيئات الدينية.

• تصحيح العمل في النظام البرلماني عبر تصحيح التمثيل، وخلل التوازن بين السلطتَيْن التشريعية والتنفيذية، ونزع النقاش الطائفي من مجلس النواب.

• حوار دائم بين الطوائف داخل مجلس الشيوخ.

من الأمور المهمة وضع أسس علمية لقيامه، وذلك عبر:

• وضع دراسة دستورية، لإيجاد آلية التمثيل في مجلس الشيوخ، كي لا يتحوّل إلى نسخة مكررة عن مجلس النواب.

• توصيف الصلاحيات التي ينبغي أن تكون دقيقة، حتى لا تؤدي إلى نزاع بينه وبين بقية المؤسسات الدستورية.

• تفعيل دوره في: المعارضة، التأثير، التعديل، التأخير، مساعدة الأكثرية، الاستشارة.

بالتالي لا يجب على المؤسسات الدستورية أن تعرقل إنشاءه، وفي حال التعارض الرجوع إلى الأمة.

إنّ إنشاء مجلس الشيوخ هذا، لا يكمّل مؤسسات الدولة، إنّما له وضعية تختص بالكيان اللبناني وتركيبته الاجتماعية. وإذا كانت السياسة تجمع التناقضات، فهذا حال مجلس الشيوخ الذي سيؤسس لدولةٍ مدنية مؤلفة من الطوائف، فيؤمّن التوازن الطائفي في الحياة السياسية، ويبقي صيغة التعايش بين الطوائف. هكذا يؤمّن استقرار المؤسسات، ويحافظ على تميّز لبنان بتعايش طوائفه، وقيمتة الإنسانية، ويقدّم نموذجًا لشعوب العالم عن إمكانية التعايش الحضار.

 

المراجع

- أوليفيه دوهاميل، إيف ميني، المعجم الدستوري، ترجمة منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1996.

- أحمد الزين، " مجلس الشيوخ الأول أنتج تعيين النواب، فماذا سينتج عن الثاني"، السفير، 4/3/2002.

- بول مرقص، "فكرة تفعيل مجلس الشيوخ أمر إيجابي للبنان"، الأفكار، 12 آب2016.

- جوزف مغيزل، تجربة مجلس الشيوخ في لبنان، "النهار" 18/3/1984.

- خليل حسين، ثنائية التمثيل المجلسي والتجربة اللبنانية، الحياة النيابية، المجلد 14، أذار1995.

- عباس زين، مجلس الشيوخ، لماذا ألغي ولماذا استحداثه مؤجّلًا؟ الحياة النيابية، المجلد 66، أذار2008.

- ماجد ماجد، "نظام المجلسَيْن في لبنان بين النص الدستوري والواقع التاريخي"، اللواء، 2 تموز2018.

- Ascale Delfosse, Jean pierre Dupart, “Des senats”, Revue internationale de politique compare, vol 6, n 1.

- Francis Hamon, Michel Troper, Droit constitutionnel, LGDJ, 2005.

- Leon Duguit, Traite de droit constitutionnel, Paris, éd Fentemening, 1921–22, T2, p560.

- Pouvoirs, n 159, Le Senat pour quoi faire?

- “Situation du Bicamerisme dans le monde”, Palais du Luxembourg, Paris 2000.

 
  • [1أول مجلس شيوخ، السيناتوس، كان أعلى هيئة تشريعية في الإمبراطورية الرومانية، يتألف من 300 عضو من الطبقة الأرستقراطية، وكان يقتصر على الرجال فقط.
  • [2ألغت السويد والنروج والدانمارك وفنلندا نظام الثنائية المجلسية، وكذلك اليونان والبرتغال.
  • [3نسخة على موقع واي باك مشين، 4 أذار2016،senate
  • [4www.senat.fr/senats du monde/perspectives.s
  • [5Francis Hamon, Michel Troper, Droit constitutionnel, LGDJ, 2005. p.124.4
  • [6عام 2012، أدرج الاتحاد البرلماني الدولي 193 برلمانًا، يتألف 115 منهم من مجلس واحد و78 من مجلسَيْن.www.iup.org.
  • [7.www.senat.fr/op.cit
  • [8في الدول الفدرالية، كألمانيا، بلجيكا، وذلك في ما خص المقاطعات وصلاحياتها.
  • [9المادة 59 من دستور الأرجنتين: يتولى مجلس الشيوخ مسؤولية إجراء محاكمات علنية للأشخاص المتهمين من قبل مجلس النواب. وعندما يكون الشخص المتهم رئيس البلاد يترأس مجلس الشيوخ رئاسة المحكمة العليا.
  • [10Hanspeter Kriesi, Le systeme politique Suisse, economica, 1995, p. 53.3
  • [11Jean Giquel, Droit constitutionnel et institutions politiques, Montchrestien, Paris, 1999, p.117.7
  • [12أنور الخطيب، الأصول البرلمانية في لبنان وسائر البلدان العربية، دار العلم للملايين، بيروت،1961، ص44.
  • [13جوزف مغيزل، كتابات جوزيف مغيزل، دار النهار، ج2، 1997، ص73.
  • [14في أيلول 1927، أرسلت الحكومة إلى المجلسين مشروعًا بمرسوم يحمل الرقم 284، طلبت إعادة النظر في الدستور، لجهة إلغاء مجلس الشيوخ وتوحيد الهيئتين اللتين يتألّف منهما البرلمان في هيئة واحدة هي مجلس النوّاب.
  • [15جوزف مغيزل، تجربة مجلس الشيوخ في لبنان، "النهار"، 18/3/1984.
  • [16محمد المجذوب، دراسات في السياسة والأحزاب، دون د.ن، ص160.
  • [17جبرائيل منسى، التصميم الإنشائي للاقتصاد اللبناني وإصلاح الدولة، جمعية الاقتصاد السياسي اللبناني، 1948، ص424 .
  • [18غندور ضاهر، النظم الانتخابية، المركز الوطني للمعلومات والدراسات، ط 1، 1992، ص483.
  • [19اقترح النائب منير أبو فاضل إنشاء مجلس الشيوخ سنة 1963 والذي يضم 36 عضوًا يمثّلوا الفئات جميعها مناصفة، السفير، بيروت، 29/11/1977.
  • [20أنطوان عازار، مجلة magazine 10/10/1968، راجع ندوات النهار 1972، 1973.
  • [21غندور ضاهر، المرجع السابق، ص 484.
  • [22عصام نعمان، إلى أين يسير لبنان؟ دار الطليعة، بيروت، 1979، ص 134-135.
  • [23النهار، 23/2/1979.
  • [24يوسف قزما الخوري، مشاريع الإصلاح والتسوية في لبنان 1927-1989، ج1، بيروت، دار الحمراء، 1989، ص307، 438.
  • [25المرجع نفسه، ص 307.
  • [26المرجع نفسه، ص 458.
  • [27المرجع نفسه، ص 508، 509.
  • [28ماجد ماجد، "نظام المجلسين في لبنان بين النص الدستوري والواقع التاريخي"، اللواء، 2 تموز 2018.
  • [29بول مرقص، "فكرة تفعيل مجلس الشيوخ أمر إيجابي للبنان"، الأفكار، 12 آب 2016.
  • [30خليل حسين، ثنائية التمثيل المجلسي والتجربة اللبنانية، الحياة النيابية، المجلد الرابع عشر، أذار، 1995، ص 60.
  • [31Leon Duguit, Traite de droit constitutionnel, Paris, éd Fentemening, 1921–22, T2, p560.g
  • [32ماجد ماجد، اللواء، المرجع السابق.
  • [33أنطوان مسرة، الميثاق في لبنان، رسالة للعالمية وقيود، المكتبة الشرقية، بيروت، 1998.
  • [34غسان سلامة، لبنان: آمال ووقائع، الديار، في 9/1/1990.
  • [35.http://www.ipu.org (الاتحاد البرلماني الدولي حول موضوع الإحصاءات).
  • [36اشترط دستور 1926 عدم الجمع بين عضوية مجلس الشيوخ وعضوية مجلس النواب (المادة 29) إلّا أنّه سمح الجمع بين عضوية أي من مجلسَي البرلمان والوزارة. (المادة 28).
  • [37مقابلة أجراها الياس مهنا مع محمد شطح23 ت2 في بيت الوسط، بيروت، 2011.
  • [38جانين صلاح، إدمون رزق يفند طرح مجلس الشيوخ ويحسمه، جنوبية، 5 آب 2016.
  • [39لم يكن يحق له اقتراح القوانين.
  • [40الياس مهنا، إنشاء مجلس شيوخ لبناني: الثنائية البرلمانية والجمهورية الثالثة، جامعة براون، CDDRL، عدد 125، آب 2012.
  • http://cddrl.stanford.edu.      u
  • [41ماجد ماجد، المرجع السابق.
  • [42]Jean Giquel, Droit constitutionnel et institutions politiques, Montchrestien, Paris, 1999, p.117.7
  • [43صلاح الدنف، وثيقة الوفاق الوطني لعام 1989، جذور وحاضر وأفاق، بيروت، 2003، ص79.
  • [44عباس زين، مجلس الشيوخ، لماذا ألغي ولماذا استحداثه مؤجّلًا؟ الحياة النيابية، المجلد السادس والستون، أذار 2008.
  • [45بيار عطاالله، "شطح: مجلس شيوخ يعالج هواجس الجماعات"، النهار، 3 أكتوبر 2011.
  • [46]عبد الرحمن عرابي، "مجلس الشيوخ اللبناني: بدعة طائفية لإلغاء الطائفية"، العربي الجديد، بيروت،5  أب 2016.
  • [47] https://www.alaraby.co.uk, 5/8/2016.6

The Senate in Lebanon ... a solution or a problem?
In 1926, the constitution has adopted the concept of bicameralism: the Chamber of deputies and the senate that constituted of 16 members. Sectarian distribution was officially attributed to the senate as per (art. 96). However, among the amendments of the constitution in 1926, was the suppression of the senate and the transfer of its members into the chamber of deputies. Before the Taef accord in 1990, several projects for the creation of another chamber were proposed, without even knowing if the Lebanese political regime needed such a senate or not. The "  Document of National Accord"  stipulated the establishment of the senate in the frame of decommunitarization and relates its creation to the abolishment of sectarianism: deputies would not be elected on a sectarian base. Contrary, all religious communities would be represented in the senate. Therefore, the 7th point in the national accord document stipulates: " With the election of the first Chamber of Deputies on a national, not sectarian, basis, a Senate shall be formed and all the spiritual families shall be represented in it. The Senate’s powers shall be confined to crucial issues"  .
There is a list listing the reasons for the creation of the senate, mainly: ensuring a better representation and the participation of all the components of the nation in the practice of power, the authorization of a process of democratization, a modern way to apply the principle of separation of powers and the state of Right, ensuring the development of legislative production, having the mission of an institutional and political stabilizer as well as mediator during political conflicts in between institutions.
In conclusion, bicameralism in Lebanon might be justified with its new constitutional and political functions. Its creation requires a new approach, all the while keeping the particularity and specificity of Lebanon that constitutes a cultural resource in this world. The Senate in Lebanon does not represent an additional constitutional institution. However, its uniqueness is related to the necessary requirement for a parliamentary democracy. It is a form that democratic political systems adopt in deeply divided society and perfectly adapts to complex societies.

Le Sénat au Liban.. une solution ou un problème?
La constitution de 1926 avait adopté le bicaméralisme: la Chambre des Députés et le Sénat qui était formé de seize membres.
La règle coutumière de la répartition confessionnelle des mandats parlementaires était formellement rappelée en ce qui concerne le Sénat (art. 96). Cependant, parmi les amendements apportés par la constitution de 1926, figurait en premier lieu la suppression du Sénat et l’insertion de ses membres dans la Chambre des Députés.
Avant 1990, date de l’accord de Taëf, et dans de différentes circonstances, plusieurs projets concernant l’édification d’une deuxième Chambre ont été proposés sans savoir si le régime politique libanais a besoin d’un tel Sénat ou pas.
Le document d’"      Entente Nationale "    situe la création du Sénat dans le cadre d’un vaste chantier de décommunautarisation et subordonne sa création à l’abolition préalable du confessionnalisme: les députés ne seraient plus élus sur une base confessionnelle. En revanche, toutes les communautés religieuses seraient représentées au Sénat. Ainsi, le point sept du document d’" entente nationale" stipule: " avec l’avènement de la Première Chambre des Députés élue sur une base nationale non communautaire, un Sénat sera créé pour représenter toutes les familles spirituelles et dont les attributions seront restreintes aux questions qui engagent le destin du pays"  .
Ainsi, une liste énumère les causes de la création du Sénat, à savoir: l’assurance d’une meilleure représentation et de la participation des composantes de la nation au pouvoir, l’autorisation d’un processus de démocratisation, un processus d’appropriation du système parlementaire respectueux de la contingence nationale, une modalité moderne de l’application du principe de la séparation des pouvoirs et de l’Etat de droit, l’assurance d’une fonction d’amélioration de la production législative, une mission de stabilisateur institutionnel et politique.
Ainsi, qu’une mission de médiation des conflits politiques entre les institutions. Il dispose d’un droit de veto pour tout ce qui menace l’image du Liban de "  vivre ensemble"  .
En conclusion, l’existence du bicamérisme au Liban peut être justifié par ses nouvelles fonctionnalités constitutionnelles et politiques. Sa création nécessite une nouvelle approche, tout en gardant la particularité et la spécificité du Liban qui représente une richesse culturelle dans ce monde. Le Sénat au Liban ne représente pas une institution constitutionnelle supplémentaire, mais, sa particularité est liée à la condition nécessaire d’une démocratie parlementaire et consociative, à la représentation de la structure sociale libanaise. En effet, c’est une forme que prennent les systèmes politiques démocratiques dans les sociétés profondément divisées, et s’adapte parfaitement aux sociétés complexes.