قصة قصيرة

مجّانًا أخذتم
إعداد: العميد الركن اميل منذر

هذه الليلة أيضًا سَمعَ صرير باب غرفة نومه ينفتح على مهل؛ فانخلع قلبه خوفًا. وإذ رآها تردّ الباب خلفها وتقترب من سريره بطيئة الخطوة، كما في كلّ مرّة، تكوّم في فراشه، وحبس أنفاسه، وحاول رفع الغطاء فوق رأسه، لكنّ يديه لم تطيعاه.
إنها هي: «حياة»، ابنة الثانية والعشرين ربيعًا. صبيّة حلوة، حنطية البشرة، كستنائية الشعر. لمحَها «هادي» مرّة في المستشفى نائمة على السرير؛ فبدت له بعينيها المغمضتين وأهدابها الطويلة ووجهها الهادئ الصبيح، ملاكًا لا ينقصه إلا الجناحان.
لكن أين هو جمالها! كلّ ليلة كانت تتسلّل إلى غرفته بفستان أبيض طويل بالٍ يشبه الكفن. أما الشعر فأشعث كأنه لم يعرف المشط منذ زمن. وأما الوجه فترابيّ اللون لا تُقرَأ عليه أيّ من تعابير الألم أو الحزن أو الغضب.
كانت في كلّ ليلة تأتيه، وتتسمّر أمام سريره. لكنها لم تقل له كلمة قطّ. كانت فقط تحدّق في عينيه، ثم تخرج مثلما دخلت، وتتركه فريسة الذعر لا يجرؤ على إغماض عينيه وإطفاء النور حتى يدركه الصباح. فبات يكره حلول الظلام، ويرتقبه بخوف مثلما يرتقب المحكوم بالموت موعده مع حبل المشنقة.
إلا أنها هذه المرّة لم تأتِ وحدها. كانت تمسك بيد صبيّ نحيل الجسم، بهيّ الطلعة، أصهب الشعر، لكن حزين النظرات. هذا الصبيّ رفع بصره إلى عيني حياة، وقال لها: «قولي له»؛ فأفلتت يده، وخطت خطوتين نحو السرير. فما كان من هادي إلا أن صرخ، واستيقظ مذعورًا، واستقام جالسًا في سريره يمسح العرق الذي يغسل وجهه بيديه. ولما هدأ روعه، أخذت الدموع تفور من عينيه: «آه! لماذا لا تتركينني أنام!».
* * *
هادي رجل في الخمسين من عمره. كدّ وسهر فأثرى. لم يظلم من الناس أحدًا، لكنه لم يشفق على أحد. غير أن الحياة التي أعطته نعمها، أخذت من صحّته. ذلك أنه في الأشهر الأخيرة بدأ يشعر بوهن وإعياء. استشار الطبيب؛ فأجرى له صوَرًا شعاعية عديدة، وفحوصات مخبرية متنوّعة تبيّن بنتيجتها أنه يعاني التهابًا في الكبد من الدرجة الثالثة.
- ماذا تقول يا دكتور!؟
- إنها الحقيقة بكلّ أسف... هل كنتَ تعاقر الخمرة باستمرار؟
- ليس أكثر من كأسين أو ثلاث في الليلة الواحدة... أنت تعرف ما تكون عليه أجواء السهرات بصحبة الرفاق والأصدقاء.
 ولما لم يعلّق الطبيب بكلمة، نظر هادي إليه، وسأله بين الجدّ والمزاح: هل سأموت قريبًا؟
- لا إن وجدتَ متبرّعًا.
- ماذا؟ ألهذه الدرجة حالي سيّئة!!
- أستطيع أن أغالب الداء بالعقاقير إلى حين. لكن هذه لن تجدي نفعًا على المدى الطويل.
- يا دكتور الإنسان قد يهب ماله وعقاره، لكنه لا يهب كبده. إفعلْ شيئًا أرجوك؛ فأنا- والحمد لله- أملك المال الذي لن ينفعني بشيء إذا ذهبت صحّتي.
عندما وقعت لفظة المال في مسمعه، رفع الطبيب بصره إلى محدّثه وقد خطر له خاطر: «إسمعْ. ثمّة بارقة أمل».
- أحقًّا تقول!! هاتِ جبينك لأقبّله.
- لكن ثمّة مشكلة.
- هل تحلّها رزمة من الأوراق النقدية؟
تفرّس الطبيب في وجه هادي مفكّرًا، ثم قال: «قُمْ معي». فقام وتبعه إلى آخِر الرُواق، ثم وقفا في باب غرفة تضطجع «حياة» على السرير الوحيد فيها.
- هي. قال الطبيب همسًا.
- لم أفهم، همس هادي بدوره.
- تعال.
 ومشى هادي إلى جانب الطبيب قبل أن يَلِجَ الأخير مكتبه خلف مريضه ويغلق الباب.
- لم أفهم يا دكتور. مَن هي؟ وكيف عساها تساعدني؟
- إنها مصابة بالداء الخبيث. لن تنجو من الموت بالتأكيد. لكن متى يحين أجَلُها؟ لا أحد يعلم. الأعمار بيد الله.
- تابعْ يا دكتور أرجوك.
- هي فتاة طيّبة. قبل أن تُبتَلى بهذا المرض، وقّعت في هذا المستشفى تصريحًا برغبتها في وهب أعضائها، بعد وفاتها، إلى محتاجيها من الناس.
- بعد وفاتها!! قال هادي وهو يهزّ رأسه... قد أموت قبلها.
- مَن يدري؟ ربّما مُتُّ أنا ونجوتَ أنتَ وهي. ألم تسمع قول الشاعر:
 كم من مريضٍ قد تجاوزَهُ الرَدى فنجا وماتَ طبيبُهُ والعُوَّدُ.
- وذووها؟ هل وافقوا على تقطيع ابنتهم إربًا وإعطاء كلّ صاحب نصيب نصيبًا؟
- لم يعترضوا ما دامت هذه رغبة ابنتهم الوحيدة.
- أتبقى الكبد سليمة في جسم يأكله الداء الخبيث؟
- ما دام الدم غير مصاب، فالضرر محصور في موضع الداء.
- ما لي أتساءل عن كلّ هذا والفتاة حيّة تُرزَق! قال هادي وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة.
- نعم. هذه هي المشكلة الوحيدة التي تعترضنا... على أيّ حال سأوصي بأن يُجروا لك تحليل دم لأرى إن كانت فئة دمك مطابقة لفئة دمها. هكذا قال، ثم كتب بضع كلمات بخطّ الأطبّاء على ورقة دفع بها إلى الرجل: «نبقى على تواصل».
- بإذن الله، قال هادي، وتناول الورقة، ومضى إلى المختبر حيث سحبت الممرّضة قليلًا من دمه، ووضعته في أنبوب. أما هادي فمضى إلى بيته مفكّرًا بقلق وحيرة.
يومان كأنهما سنة أمضاهما في بيته يضرب أخماسًا بأسداس. يخرج إلى الشرفة ضيّق الصدر كمخنوق يطلب نسمة هواء، ثم يدخل كهارب من الموت الذي بدا له منتظرًا أمام الباب. يجلس، ينهض، يمشي، يتوقّف، ويتساءل: من أين جاءني هذا الداء اللعين؟ لماذا أنا؟ كيف السبيل للنجاة من الموت؟ متى سأموت؟ مَن سيحزن عليّ ومَن سيفرح؟ لماذا دلّني الطبيب على تلك الفتاة وهو لا يستطيع أن يفعل من أجلي شيئًا، ولا هي تستطيع؟ يا ألله، أما من نهاية لهذا العذاب؟
أسئلة كثيرة ولا جواب. قرّر الانتقام من هذه الحياة الغادرة بالسخرية منها. قام من مقعده. تناول زجاجة من النبيذ. مسح الغبار عنها بيده. قرأ التاريخ وابتسم. قهقه. فكّر في أنه سيأتي عليها وعلى أخوات لها قبل أن يأتي ما بقي له من أيّام قليلة عليه. فتحها. استدار نحو المرآة. نظر إلى وجهه فرأى أنه كبر في يوم واحد عشرين سنة. وضع فوهة الزجاجة بين شفتيه: «تبًّا لكِ أيتها الحياة». جرع مقدار كأس كبيرة جرعة واحدة. مسح شفتيه. طأطأ رأسه. بكى. فتح النافذة. فكّر للحظة، ثم رمى الزجاجة إلى الحديقة: «لا. لن أموت. سأقهرك أيها الموت اللعين».
صبيحة اليوم التالي رنّ جرس هاتفه النقّال. أسرع إليه. ضغط الزرّ الأخضر، وراح قلبه يخفق بشدّة.
- ألو.
- ألا تريد أن تعرف النتيجة؟
- مَن؟ حضرة الدكتور؟
- أجل.
- انتظرْني. أنا آتٍ في الحال.
وصل في دقائق قليلة، ودخل ملهوفًا.
- ها أنذا يا دكتور.
- أما من تحية صباحية يا رجُل!
- صباح الخير. لا تؤاخذني، أرجوك. قال، وبقي واقفًا إزاء المكتب العريض.
- تفضّل بالجلوس.
- ها إني جلست. خيرًا يا دكتور.
- فئة دمك متطابقة تمامًا وفئة دمها.
- وما النفع من ذلك! سأل وأشاح بنظره عاقدًا حاجبيه.
- في حال موت الفتاة، وإن لم يكن ثمّة مَن ينتظر قبلك، فالكبد لك.
- هناك عقبتان إذًا.
- أستطيع أن أساعدك في اجتياز الثانية.
- والأولى؟
- الأولى؟ ما عسانا نستطيع أن نفعل حيالها! تساءل الطبيب وعلى شفتيه ظلّ ابتسامة.
- ألم تقُل إن الفتاة ستموت!
- كلّنا سنموت. لكن هل لأحد أن يعرف متى!
- هي مريضة بالداء الخبيث، ولا أمل في شفائها.
- إلامَ تلمّح يا صديقي؟ قُل بصراحة. هل... تريدني... أن أقتلها؟
- ألا ترتاح بموتها من عذابها!
- ومَن يُريحني أنا من عذاب ضميري!.... لا، لا. أضاف وهو يقف. أنا طبيب لا قاتل.
- أرجوك يا دكتور. لا أريد أن أموت.
- وأنا لا أستطيع أن أقتل الفتاة.... إنها تموت ولكن ببطء. علينا أن ننتظر.
- هل يساعدك مبلغ كبير من المال في إقناع الموت بالاستعجال؟
- هل ترشوني؟
 حينئذٍ مدّ هادي يده إلى جيب سترته الداخليّ، وسحب دفتر شيكات، ثم دفع به ناحية الطبيب.
- ما هذا؟
- ضع الرقم الذي تريد يا دكتور.
- الرقم الذي أريد!! قال وبلع ريقه.
- أيّ رقم تراني مستعدًّا له.
 إرتبك الطبيب، وجمدت عيناه لحظات على الدفتر، ثم سارع إلى نزع ورقة منه بيد مرتجفة، ودسّها في جيبه: «حسنًا، حسنًا. غادر الآن. ودعني أرى ما بإمكاني أن أفعل. هيّا. اخرج بسرعة».
 أعاد هادي دفتر الشيكات إلى جيبه، ومضى، وراح يعلّل النفس بالشفاء. وما انقضى النهار ثم الليل وطلع الصباح، حتى طلبه الطبيب على هاتفه النقّال.
- نعم دكتور.
- وضّبْ بعض الحاجات الضرورية في حقيبة، وتعال. ستدخل المستشفى في الحال.
- حاضر.
 جاء هادي على جناح السرعة، وأُدخل المستشفى، ووُصل المصل إلى شريانه. وعندما زاره الطبيب في غرفته، سحب الشيك من جيبه وجعل مريضَه ينظر إلى الرقم وهو يتلفّت يمنة ويسرة؛ فهزّ هادي رأسه بالموافقة.
- أرجو ألا يخرب بيتي وبيتك، قال الطبيب بصوت تَعِب، ثم مضى إلى عيادته. ولم يمرّ يوم ويطلع صباح الثاني، حتى استُدعي ذوو حياة؛ فأتوا على عجل. ولما دخلوا غرفة ابنتهم ووجدوا وحيدتهم جثّة هامدة باردة، علا نُواحهم. الأمّ ضمّت ابنتها إلى صدرها وانتحبت: «لم تقولي إنكِ ذاهبة بمثل هذه السرعة يا حبيبتي. لقد رحلتِ ولم تودّعيني يا حُشاشة قلبي». أما الأب فلم يعُد قادرًا على الوقوف. جلس على حافة السرير، وحنى رأسه فوق يدَي ابنته النحيلتَين.
في غرفته كان هادي يسمع البكاء والرثاء. نهض وأقفل الباب. لكنه بقي يسمع فكأنما الصوت كان يصعد من جوفه إلى أذنيه. استدار في سريره. رفع الغطاء فوق رأسه. سدّ أذنيه بكفّيه. لكنه بقي يسمع.
حضر الطبيب إلى غرفة حياة، وقدّم تعازيه إلى الوالدين. قال: ليرحمها الله، ويُسكنها فسيح جنّاته. لقد كانت فتاة صالحة محبّة لعمل الخير. كيف لا وقد أوصت بوهب أعضائها لمحتاجيها! فما أسماه عملًا يخدم الإنسانية ويُرضي الله!
- أجل يا دكتور. لن نضنّ بشيء على أيّ محتاج ما دامت هذه رغبتها، قالت الوالدة وقد غَزُرَ مسيل دموعها.
- أتعرف أحدًا يحتاج إلى أيّ مساعدة يا دكتور؟ سأل الوالد والنشيج يخنق صوته.
- ثمّة رجل في الغرفة المجاورة يحتاج إلى زرع كبد. إنه صاحب يد بيضاء في الإحسان وعمل الخير. مسكين. الموت يقف على قاب قوسَين منه وهو ما يزال في مُقْتَبَل العمر. هو ثريّ، ومستعدّ لدفع أيّ ثمن لمَن يساعده في استعادة صحّته.
- لا يا دكتور، لا. قالت الوالدة. صحيح أننا غير ميسورَين ونأكل خبزنا كفاف يومنا. لكن لا نريد إلا تنفيذ وصيّة ابنتنا. إلهنا- سبحانه- قال: مجّانًا أخذتم، مجّانًا أعطوا.
- تصرّفْ بمعرفتك يا دكتور، قال الوالد، ولْيقدّرْكَ الله على كلّ عمل خير.
- ليبارككما الله، ويجعل روح ابنتكما زنبقة بيضاء في مروج السماء.
هكذا قال الطبيب وانصرف. وراح يُعدّ ما عليه إعداده لنقل الكبد. وبعد أقلّ من نصف ساعة كانت ممرّضتان تدفعان في الممرّ عربة مغطّاة إلى غرفة العمليات، ويتبعهما والدان يجرّان أقدامهما باكيين. وبعد بضع ساعات عادت العربة لتخرج، لكن بحمولة أقلّ، ويتّجه بها أحد الممرّضين إلى برّاد المستشفى. أما هادي فنُقل بكبده الجديدة إلى غرفة العناية المركّزة حيث مكث يومين قبل أن يُعاد إلى غرفته ذات النافذة المطلّة على البحر.
يوم استُبدلت كبده، ما عاد هادي يعرف طعم الراحة. فكلما استسلم للنوم، كان يرى حياة واقفة أمام سريره تحدّق في وجهه؛ فينهض مرتعبًا. قال إنها مرحلة وتنقضي. لكنّ اعتقاده لم يكن صائبًا. فحياة لحقت به إلى البيت الذي عاد إليه بعد ثلاثة أسابيع. كان يراها كلّ ليلة حتى كاد جسمه، بعد شهرين، أن يتلف من الإرهاق والسهر والخوف. وما حيّره هو أن الفتاة أصبحت، في الليالي الأخيرة، تأتيه برفقة الصبيّ الحزين.
استشار إحدى العرّافات؛ فرقَت له، وصنعت له تعويذة علّقها في عنقه. لكنه راح يشعر بها أُنشوطة حبل تشدّ على خِناقه. ولما لم يعُد له على التحمُّل قدرة وعلى الصبر طاقة، قصد المستشفى ليشكو إلى الطبيب صديقه ما به.
عبَر الممرّ، ثم طرق الباب، فلم يُفتح له. سأل عن الطبيب؛ فقيل له إنه غير موجود. طلبه على هاتفه الجوّال؛ فإذا هو مقفَل. عندئذٍ عاد أدراجه. وفيما هو يجتاز بين الغرف، لمحَ في إحداها طفلًا في أوائل العقد الثاني من العمر مضطجعًا على أحد الأسرّة. آه!! إنه هو بلون شعره، وشكل وجهه. لا، لا يمكن أن يكون مخطئًا. لقد رآه أكثر من عشرين مرّة بصحبة حياة. وفي كلّ مرّة كان ينظر إليها بعينين حزينتين ويقول لها: قولي له.
ماذا يريدها أن تقول؟ سأل نفسه وهو يقف في الباب. ولما استدارت أمّ الصبيّ التي كانت جالسة على حافة سريره تسرّح شعره بأصابعها ورأت الرجل، بادرها بالقول: صباح الخير.
- صباح الخير.
- ليمُنَّ الله عليه بالشفاء.
- بُوْرِكْتَ، قالت، وفارت الدموع من عينيها.
- قد أستطيع تحمُّل أيّ شيء إلا رؤية طفل في سرير المرض.
- ليحفظ الله أولادك.
- لا أولاد لي يا أختي، أجاب، وخطا إلى الداخل؛ فجاءت له المرأة بكرسيّ جلس عليه.
- ما يشكو؟ سأل.
- إنه بحاجة إلى إجراء عملية جراحية مُكلفة خارج البلاد، ولا قدرة... وتوقّفت عن الكلام لأن الدموع خنقت صوتها.
- كم كلفتها يا أختي؟
- ثمانون ألف دولار.
- كم لديكِ منها؟
- خمسة عشر ألفًا. ليبارك الله المحسنين وفَعَلَة الخير.
عندئذٍ طأطأ هادي رأسه وأغمض عينيه. آه!! الآن هو يعرف ما يريده الصبيّ منه، بل ما تريده حياة من أجل الصبيّ. لم تكن هي تريد شيئًا لنفسها، بل لهذا الولد الذي يصارع الموت بساعدَين طريين.
- سيّدي. هل هناك ما يسوءك؟ سألت المرأة.
- لقد شُفيتُ الآن من علّتي. قبل هذه الساعة كنت مريضًا. أما الآن فقد شُفيت.
- لم أفهم.
- أتقبلين بأن أدفع كلفة العملية لابنك يا أختي؟
- ماذا!!! كلّها!!
- أجل.
- لا يا سيّدي، لا. هذا مبلغ كبير جدًّا.
- إنه لا يكفي من غير شكّ لشراء مغفرة خطاياي الكثيرة.
ومن غير أن يضيف كلمة، أخرج هادي دفتر الشيكات، وناول المرأة ورقة منه مكتوبًا عليها ثمانون ألف دولار. فلمّا قرأت الرقم، لم تصدّق عينيها، ثم قالت: لكن بحوزتي خمسة عشر ألفًا.
- ستحتاجينها لمرافقة ابنك وملازمته ريثما يتماثل للشفاء.
عندئذٍ أكبّت المرأة على يد الرجل تريد تقبيلها. فلما سحبها، ارتمت على ركبتيها أمام قدميه. لكنه أنهضها؛ فجلست وانفجرت بالبكاء. ثم كان أنه ودّعها متمنّيًا لابنها الإبلال من علّته، وترك لها رقم هاتفه على قصاصة من ورق: «إذا احتجتِ شيئًا، فلا تتردّدي في الاتّصال بي». ثم خرج، وقصد قسم الإدارة. وهناك وقّع تصريحًا يعلن فيه رغبته في وهب أعضائه بعد موته. ثم ركب سيّارته وقصد المدافن في ضاحية المدينة، وجثا على ركبتيه أمام ضريح حياة، ووضع على الرخامة البيضاء وردة بلونها: «سامحيني يا ابنتي. اغفري لي يا صغيرتي. كنتِ تستحقّين الحياة وأنا أستحقّ الموت. أنا الذي أستحقّ الموت لا أنتِ، لا أنتِ، لا أنتِ». هكذا راح يردّد ضاربًا رخام الضريح بقبضته، ويبكي.
بعدما هدأ، قصد مخفر الشرطة، واعترف بفعلته؛ فأُودع السجن وهو لا يعلم أن الطبيب يقبع في زنزانة إلى جواره، ويخضع للتحقيق. ذلك أنه صباح اليوم الذي ماتت فيه حياة، رأته إحدى الممرّضات المناوبات يخرج من غرفة المغدورة مبغوتًا. ارتابت وسألته إذا ما كان يحتاج إلى شيء؛ فأجاب أن لا، ومضى مستعجلًا. ولما دخلت، وجدت الفتاة ميتة.
تردّدت الممرّضة كثيرًا قبل أن تخبر رئيسها. وهذا تردّد قبل أن يروي شهادة الممرّضة لمدير المستشفى. وصبيحة اليوم الثاني حضر رجلان من قوى الأمــن واقتــادا الطبيــب.
في سجنه الضيّق أحسّ هادي أنه حرّ لأوّل مرّة منذ أكثر من شهرين. فيما مضى كان مكبّلًا بقيود الخطيئة. أما الآن فهو طليق وإن كان في السجن. كان في حرب لا تهدأ مع ذاته. أما اليوم فالسلام يسكن روحه.
هذه الليلة نام ملء أجفانه من غير خوف. ولما استولى عليه الكَرى، رأى حياة أمامه، لكن بفستان أبيض كأنها العروس ساعة زفافها. وجهها لم يكن بلون التراب، لكن نضرًا بلون وردة نيسان. وشعرها كان مسرّحًا منسدلًا على جيدها الرخاميّ كما رآه مرّة في المستشفى.
وهذه الليلة أيضًا لم تأتِ حياة وحدها. الصبيّ كان معها ممسكًا بيدها. لم يكن حزينًا، لكن يبتسم من فرح وامتنان. هذه المرّة لم يقُل لها: قولي له. عيناه قالتا: شكرًا. وحياة كانت أيضًا تبتسم. لقد سامحته عندما ساعد الصبيّ. ومثلما دخلا، خرجا. لكن لا. هذه المرّة لوّحا له بيدَيهما، ثم غادرا. أما هادي فلم يستيقظ من نومه إلا بعدما أرسلت الشمس إليه أشعّتها عبر قضبان الحديد.
هذه القصّة مهداة تحيّةَ إكبار إلى كلّ الشجعان الذين أوصوا وسيوصون بوهب أعضائهم بعد موتهم لمحتاجيها من الناس.