وجهة نظر

محاضراً في قاعة العماد نجيم حول دور المصارف في تنشيط الإقتصاد

د. البساط: قيمة الودائع في المصارف اللبنانية ثلاثة أضعاف الدخل القومي وهذه الظاهرة غير موجودة في العالم

"الدور المطلوب من المصارف لتنشيط الإقتصاد اللبناني" كان عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور هشام البساط في قاعة العماد نجيم، بحضور نائب رئيس الأركان للتجهيز العميد الركن نعيم فرح ممثلاً العماد قائد الجيش وعدد كبير من ضباط الإدارة في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام. بداية ألقى عريف الإحتفال العقيد الركن يوسف عطوي رئيس قسم البحوث والدراسات كلمة قال فيها "إن القطاع المصرفي تطوّر لدرجة أنه أصبح مواكباً القطاعات المصرفية العالمية. فهو مركز للإدخار والتسليف وإدارة الأموال ولتقديم الخدمات الشخصية". ثم تناول المحاضر الدكتور هشام البساط في محاضرته أسباب تراجع الأداء الإقتصادي واستمرار ارتفاع الدين العام وتطور دور المصارف في لبنان، والدور المطلوب منها حالياً.

 

أسباب تراجع الأداء الإقتصادي

 قال الدكتور البساط:

 قد يبدو من العنوان أن الموضوع أكاديمي أو تقليدي جرى بحثه أكثر من مرة. لكن الأوضاع الإقتصادية التي يمر بها لبنان تتطلب إعادة نظر شاملة في السياسات الإقتصادية والمالية المتبعة، وذلك بغية إيجاد الحلول اللازمة لتنشيط عجلة الإقتصاد ودفعها الى الأمام. إن استمرار تزايد المديونية العامة وارتفاع الفوائد والركود الإقتصادي المتواصل منذ أكثر من خمس سنوات إضافة الى الأوضاع القلقة في المنطقة العربية، قلّصت من قدرة المصارف على لعب دورها الأساسي في تحريك القطاعات الإقتصادية في لبنان. وعرض المحاضر أسباب تراجع الأداء الإقتصادي كالآتي: ­ تزايد المديونية العامة، نتيجة استمرار العجز البنيوي في الموازنة العامة للدولة والتي أدت الى زيادة المصروفات عن الإيرادات، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت لتعزيز هذه الإيرادات عبر تحسين الجباية وإدخال ضرائب جديدة، لا سيما ضريبة القيمة المضافة التي وصلت إيراداتها في العام الثاني على تطبيقها فقط الى 1.360 مليار ل.ل. (900     مليون دولار) بزيادة 37% عن عام 2002.

 ولقد تم ذلك رغم انخفاض عجز الموازنة نسبياً في العامين الماضيين الأخيرين ليصل الى 37.2% عام 2003، علماً أنه ما زال أكبر من النسبة المستهدفة المحددة من قبل الحكومة في مؤتمر "باريس 2" والبالغة 25%، كما لا يزال يشكل نسبة كبيرة من حجم الإقتصاد حيث يصل الى 15% من الناتج المحلي الإجمالي. إن مؤتمر "باريس2" لم يأت بحل شامل لأزمة المديونية العامة بل سعى لخفض معدلات الفائدة على الدين العام نتيجة استبدال جزء من القروض والسندات المرتفعة الفائدة وتسديدها من القروض التي وفرها “باريس 2” (البالغة 3.4 مليار دولار) بفائدة أقل. وكذلك الأمر بالنسبة للمصارف التي لبت الدعوة لإيداع 10% من ودائعها (بالليرة والدولار) عندما موّلت الخزينة بمبلغ 3.577% مليون دولار بفائدة صفر لمدة سنتين ووفرت على الخزينة ما مجموعه 766 مليون دولار لغاية آب 2005. ­ استمرار ارتفاع الدين العام الصافي، حيث ارتفع عام 2003 بنسبة 5% ليصل الى 32.5 مليار دولار. كما ارتفعت خدمة الدين الى 4.874 مليار ل.ل. عام 2003، بحيث أصبحت تتجاوز الإيرادات الضريبية البالغة 4.501 مليار ل.ل. للعام نفسه. ولم تأت هذه الزيادة من نفقات الإعمار والرواتب والأجور في القطاع العام فقط، بل أيضاً نتيجة الفوائد على الليرة والدولار، خاصة أن السبب الرئيسي للعجز هو كلفة تمويل الدين العام البالغ 32.5 مليار دولار في نهاية عام 2003، منها ما يوازي 15.5 مليار دولار ديناً داخلياً و17 مليار دولار ديناً خارجياً. ­ شجع مصرف لبنان المصارف على استمرار الإيداع لديه، وقام بدفع فوائد عالية أدت الى استقطابه جزءاً متزايداً من موارد القطاع المصرفي ليصل التسليف للقطاع العام الى أعلى مستوى له في نهاية عام 2003، حيث بلغ 53% من مجموع التسليفات. مع العلم أن مساهمة القطاع العام في الناتج القومي لا تزيد عن 22.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

 ­ أدت معدلات الفوائد العالية الممنوحة على الدين العام الى استمرار الفـوائد العالـية على الحـسابات المدينة للقطاع الخاص، مما دفع المصـارف من جـهة أخرى الى منح فوائد مرتفعة على الودائع لاستقطاب موارد جديدة إضافية وتوظيفها مجدداً في سـنـدات الدين ذات الإيـرادات الـعالية، حيـث زاد حجم الودائـع ليـصل الى ثلاثـة أضعاف النـاتج المحـلي الإجـمالي، وهي نسـبة قلّ مثـيلها في دول العالم. ­ اتبع لبنان سياسة تثبيت سعر صرف الليرة فكل ليرة تضخ في الاقتصاد تشكل ­ نتيجة الربط المحكم لها بالدولار ­ قوة شرائية بالعملة الصعبة، تغذي الطلب الداخلي على السلع والخدمات المستوردة، وتغذي كذلك الطلب الداخلي على السلع والخدمات المحلية وترفع أسعارها. ويولّد هذا المزيج من السياسة المالية التوسعية وسياسة سعر الصرف الثابت تضخماً بنيوياً في الأسعار، ومنها أسعار الفوائد. ­ ركود الإقتصاد المحلي: أدى تعثر بعض المدينين في السنوات الأخيرة الى زيادة مخاطر الإقراض للقطاع الخاص مما دفع المصارف لأن تصبح أقل استعداداً لمنح تسليفات جديدة لهذا القطاع. ولقد تأثرت نتيجة ذلك قطاعات اقتصادية عدة لم تتمكن من التأقلم بالسرعة المطلوبة مع التغيرات في الأوضاع الإقتصادية والمتطلبات المصرفية، خاصة الزراعة وجزء كبير من القطاع الصناعي. ­ تأزم الأوضاع الإقليمية، حيث أدّت الحرب الأخيرة على العراق الى إقفال سوق أساسي للكثير من الصناعات اللبنانية عدة أشهر خلال العام الماضي، إلا أن الوضع تحسّن في الفترة الأخيرة نتيجة تحسن الطلب على المنتجات اللبنانية ومنها الإسمنت والأغذية ومياه الشفة وغيرها. إضافة الى ذلك، تزايدت المنافسة من قبل بلدان عربية خصوصاً دبي التي أصبحت تتمتع بشروط استقطاب أفضل وتسهيلات أكبر.

 

تطوّر دور المصارف في لبنان

عن تطوّر دور المصارف اللبنانية قال البساط: قامت المصارف بخطوات مهمة وسريعة لملء الفجوة التي تعرضت لها الخدمات المصرفية خلال سنوات الحرب التي عزلت القطاع المصرفي عن العالم الخارجي، وبالتالي عن التطورات الكبرى التي حصلت في تلك الفترة في المجالات المصرفية والمالية والتكنولوجية. ولقد جاءت هذه الخطوات في مجالات عدة لتأمين جهوزية المصارف لتقديم الخدمات المصرفية على المستويات والمعايير الدولية المعروفة، وكان أهمها: زيادة الإنتشار الجغرافي في لبنان عبر فتح الفروع الجديدة، فعدد المصارف كان يبلغ 73 مصرفاً في العام 1992، في حين وصل الى 60 في العام 2003، أما عدد الفروع في العام 1992 فكان 512، وبلغ 814 فرعاً في العام 2003. كما قامت المصارف بتعزيز أموالها الخاصة التي ارتفعت أكثر من 25 ضعفاً: من 143 مليون دولار عام 1992 الى 3.635 مليون دولار في 31/10/2003. كذلك زاد حجم القطاع المصرفي عبر استقطاب الودائع المحلية والإقليمية التي استفادت من الفوائد العالية من السندات، حيث ارتفع حجم الودائع في لبنان من 6.5 مليار دولار الى 47.2 مليار دولار خلال الفترة نفسها. إضافة الى ذلك، قامت المصارف بمكننة القطاع المصرفي خلال فترة قصيرة نسبياً لم تتجاوز العشر سنوات. وقامت بتطوير الخدمات الذاتية التي توفر لعملائها خدمات بطاقات الإئتمان من خلال أجهزة الصرف الآلي (731جهاز) والبنك الناطق والخدمة المصرفية عبر الإنترنت وعبر الهاتف الخلوي. أما على صعيد القروض، فقد حققت المصارف إنجازات عديدة أهمها: ­ قروض التجزئة، مع إطالة أجل القروض على أنواعها. مثال على ذلك، عند بدء إطلاق القروض السكنية في منتصف التسعينات، كانت مدة استحقاقها لا تتجاوز 7 سنوات. أما اليوم، فإنها تصل الى 12 سنة وحتى 20 سنة بالنسبة لقروض المؤسسة العامة للإسكان. ­ سعت المصارف الى الحصول على موارد طويلة الأجل من مؤسسات مالية إقليمية (صناديق التنمية العربية) ودولية     BEI,IFC  بفوائد متدنية نسبياً، منحت في المقابل للقطاع الخاص بشروط ميسرة وأفضل من التسليفات التجارية البحتة. كما قامت بتقديم بعض القروض المشتركة، خصوصاً خلال فترة الإعمار والمشاريع الكبرى في النصف الأول من التسعينات. ­ إضافة الى ذلك،قامت بعض المصارف بإصدار سندات دين دولية لآجال متوسطة وبالعملات الأجنبية (بين 3 و10 سنوات) .

 

دور الدولة

ساهمت الدولة في السنوات الأخيرة في دعم هذا الدور للمصارف عبر توفير آليات عدة لتنشيط الإقراض وتوسيع قاعدة المستفيدين من القروض المصرفية، وتتمثل هذه الآليات يما يلي: ­ القروض المدعومة من مصرف لبنان، وهي التي تمنح للمشاريع الصناعية والسياحية وتستفيد من دعم جزء من الفائدة للتخفيف من عبء خدمة الدين على المقترضين، حيث بلغت قيمتها 842 مليون دولار كما في 31/3/2003 . ­ القروض المقدمة بالإشتراك مع المؤسسة العامة للإسكان والمخصصة لتلبية حاجات السكن لذوي الدخل المتوسط والصغير، مع إعفائهم من تسديد الفوائد حتى الإنتهاء من تسديد أصل الدين. ­ القروض المكفولة من شركة كفالات بقيمة 180 مليون دولار المقدمة للمؤسسات المتوسطة والصغيرة والتي لم تكن في السابق قادرة على الحصول على قروض مصرفية. ­ إضافة الى ذلك، تتمتع القروض الممنوحة حسب هذه الآليات بإعفاء من الاحتياطي الإلزامي بالليرة اللبنانية المفروض على المصارف بقيمة 1.15 مليار دولار.

 

الدور المطلوب من المصارف

حول الدور المطلوب أن تلعبه المصارف قال:

 هناك ضرورة للعمل على زيادة حصة القطاع الخاص من مجمل التسليفات، إذا لا يجوز أن يكون اقتراض الدولة من القطاع المصرفي على حساب القطاع الخاص، فنمو هذا القطاع هو في مصلحة لبنان لأنه الوسيلة الأساسية للخروج من أزمة الدين العام. وهذا يتطلب عدة خطوات، أهمها:

- ­ خفـض الفـوائد على الديون المشـكوك فيها تسـهيلاً لعـمليات التـسوية والتسـديد التي يمـكن أن تؤمـن عودة ما بين 5 الى 10 آلاف عمـيـل للاقـتراض من المصـارف والتـوظيف بفـوائـد مقـبولـة.

- ­ دراسة إمكانية منح أموال إضافية لبعض المدينين الذين لديهم فرص كبيرة في الاستمرار لتجنيبهم حال التعثر أو الإفلاس.

- ­ العمل على تحريك موضوع العقارات عبر إدخالها في دورة الإنتاج، وذلك من خلال مشاركة متمولين وأصحاب مشاريع وتقديم العقارات المستملكة من المصارف لتبنى عليها المشاريع مقابل أسهم في المشاريع المعنية.

- ­ العمل والمساهمة في تحويل الإقتصاد الى التصدير. وهناك قطاعات عدة حققت نجاحاً ملفتاً، مثل الصناعات الغذائية، صناعة الإسمنت وتعبئة المياه وصناعة النبيذ، والمجوهرات.

- ­ تعزيز قطاعات الخدمات مثل السياحة والتعليم والإستشفاء، عبر تقديم برامج متكاملة بأسعار مقبولة ومدروسة.

- ­ السعي الى إطالة أجل الموارد لمنح تسليفات للقطاعات الإقتصادية لفترات أطول، وعدم اقتصار ذلك على قروض الأفراد.

- ­ عدم تركز نشاط المصارف في بيروت الكبرى التي تستحوذ على 55% من عدد الفروع و54% من حجم الودائع و65% من حجم التسهيلات.

 الى ذلك يتركز حجم كبير من التسهيلات لدى عدد قليل من العملاء، في حين يستفيد 80% من عدد المقترضين بنسبة 8.3% من حجم التسهيلات. هذا إضافة الى أن القطاع الزراعي لا تزيد حصته عن 1.4% من التسهيلات المصرفية.

 وختم البساط قائلاً: إن الثقة بلبنان ليست في نمو حجم ودائعه فقط، حيث لم تعد هذه الزيادة توظف في المشاريع الإنتاجية (زيادة الودائع 10.7% في أول عشرة أشهر من عام 2003 مقابل تراجع التسليفات بنسبة 4.2% خلال الفترة نفسها) ، بل تستخدم فقط في تمويل عجز الدولة المتنامي.

 ولا يمكن للبنان أن يعتمد فقط على الصدمات الخارجية الإيجابية (مثال باريس 2) ، بل يجب تعزيز بنيـة الإقتصاد في السنوات المقبلة. إن الثقة في وضع لبنان الإقتصادي تأتي من قيام المشاريع الإنتاجية التي تؤمن فرص عمل للشباب وتحد من الهجرة، وتقدم حلولاً للمشكلات الإجتماعية المتزايدة وتستقطب الاستثمارات، وتؤدي الى نمو إقتصادي حقيقي مبني على أسس متينة وديناميكية قوية وتنمية مستدامة.