محاضرات

محاضراً في كلية القيادة والأركان
إعداد: ندين البلعة - ليال صقر

البروفسور ريتشارد البستاني:الحرب غير المتماثلة قد ترتد على الأقوى

 

حاضر البروفسور ريتشارد البستاني في قاعة المحاضرات بكلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان، يومي الأربعاء 6 والخميس 7 شباط 2008 تحت عنوانَين: «تطورات الحرب الحديثة» و«الحرب غير المتماثلة».
حضر العميد الركن الياس فرحات قائد الكلية، بالاضافة الى جمع من الضباط الذين يتابعون دورة الأركان. افتتح قائد الكلية المحاضرة بكلمة نوّه فيها بأعمال البروفسور البستاني، مقدماً نبذة عن حياته الحافلة بالمهام العسكرية والمعارف التاريخية المهمة.


تطوّر الحرب عبر التاريخ
البروفسور البستاني شرح كيف تطورت الحرب منذ الحرب العالمية الأولى، وصولاً الى أيامنا هذه. فقدم أمثلة وافرة توضح مسار التطور عبر مراحل العصر الحديث، ذاكراً بعض الشخصيات العسكرية اللامعة بنظرياتها في هذا الإطار.
واعتبر البستاني أن العالم عرف الحرب الحديثة منذ القرن الثامن عشر، مشدداً على أن الاستراتيجية العسكرية ليست حكراً على العسكريين، بل هناك من المدنيين من برعوا في هذا المجال، كمثل الكاردينال ريشيليو (Richelieu) الذي كان الصاحب الفعلي لنظرية توازن القوى (The balance of Powers)، وطبقها على ألمانيا.
وأوضح: لقد رأى هذا الكاردينال أن وحدة ألمانيا تشكل مصدر الخطر الحقيقي على فرنسا، لذلك سعت السياسة الفرنسية دائماً الى الإبقاء على شرذمة ألمانيا. واحتلال نابوليون لها، كان لمنع اتحادها بالقوة.
وتناول البروفسور البستاني الميزات التي جعلت الجيش الفرنسي قوياً وأن يضطلع بدور مهم في تطور الحرب الحديثة، فقال: إن وجود روح الثورة والحرية والإخاء والمساواة في فرنسا، أيقظ الروح العسكرية فأصبح كل مواطن يشعر بالانتماء الوطني. وبالتالي تمثلت في الجيش الفرنسي كل الطبقات الاجتماعية؛ وأصبح محبوباً فتزايد عدد المتطوعين فيه. واستطاع الجيش الفرنسي أن يهزم كل جيوش أوروبا متحدة.
واعتبر البستاني أن نابوليون اضطلع بدور أساسي في تطور الحرب الحديثة، خصوصاً في ما يتعلق بـ«الحرب الصاعقة التي ترتكز على الحركة السريعة» وقال إن نجاحه في معاركه الحربية ارتكز الى ثلاث نقاط:
• جعل الجيش الفرنسي مؤسسة وطنية محبوبة.
• التركيز على المعارك الحاسمة.
• تدريب الجيش على التقدم السريع والحشد.
وفي نظرة الى تطبيق هذه المبادئ في العالم العربي، قال البستاني: في لبنان: ظهرت بوضوح الروح العسكرية والتعاون لدى الشعب اللبناني وتجلّت انضباطاً وتعاوناً لا مثيل لهما في الحرب ضد اسرائيل. فقد أثبت المقاومون أن القلة المدربة التي تتحلى بروح الإيمان بالوطن، تستطيع أن تحدث المعجزات. لم يتزعزع الشعب اللبناني ولا عقيدته، وأثبت للجيش العدو، القادم من دون خطة، أن الحروب لا تُكتسب بالتكنولوجيا.
وتطرق المحاضر الى نظرية الألماني كلاوزفيتس «الحرب جزء من السياسة». فقال: الحرب من وجهة نظر كلاوزفيتس، هي تحقيق للأهداف السياسية، فالجيش الذي لا يحقق هدفاً سياسياً هو جيش فاشل... وفي مقدّم هذه الجيوش، الجيش الاسرائيلي الذي لم يستطع تحقيق هدفه السياسي المعروف بالاستيلاء على معظم خريطة الشرق الأوسط.
وفي إطار استعراضه المؤثرات التي أثّرت في تطور الحرب الحديثة، قال: الى جانب القادة العسكريين الذين تركوا أثراً وأدوا دوراً مهماً في الحرب الحديثة، شاركت الثورة الصناعية في التأثير على إدارة الحرب، من تطور الأسلحة (من البندقية الى المدفع الرشاش) الى السكك الحديد والتلغراف العسكري، والطيران الحربي الذي شكّل عاملاً مهماً في الحرب.
وتوقف المحاضر عند الحرب العالمية الأولى وعند «حرب المجازر» حيث 20٪ من أطفال الشعب الألماني ماتوا جوعاً بسبب الحصار الذي فرضته بريطانيا على الموانئ الألمانية. فُرضت بعدها غرامة حربية على ألمانيا تفوق الغرامة التي فرضتها هي على فرنسا بعد حرب السبعين، بكثير. أفلست الدولة وانهار المارك الألماني؛ عادت الألزاس واللورين لفرنسا واقتُطعت أراضٍ ألمانية ضخمة، أُعطي جزء منها لدولة جديدة تدعى تشيكوسلوفاكيا والجزء الآخر لبولندا وأهمها إقليم غدانسك الذي كان السبب في الحرب العالمية الثانية.
وتحدث عن تأثير نظريات الجنرال جوليو دويه التكتية في الحرب الحديثة، فهو كان أول من طالب بحرب الإفناء، وسيطرة الطيران على جميع مرافئ الدولة، وضرب المدنيين وقتل أكبر عدد منهم من دون التمييز وذلك لمنع الجيش المعادي من الحشد أو إجراء تعبئة.
هذه النظرية طبقتها ألمانيا في حربها ضد بريطانيا ولكنها أخطأت في إرسال قاذفات القنابل من دون طائرات حراسة. فكانت بريطانيا على استعداد للرد على الهجمات الجوية الألمانية من خلال الرادارات وبداية تطويرها للكمبيوتر وامتلاكه طاقماً متطوراً من الطيارين، الأمر الذي شكّل بداية «الحرب غير المتماثلة».
تبع هذا الشرح المفصّل فيلم يعرض وقفات من الحرب العالمية الثانية والحرب الخاطفة، مع خرائط وشرح لسير العمليات الحربية وحرب الخنادق، للإشارة الى أهم مراحل الحرب الحديثة وعوامل هذا التطور.
وختم البروفسور ريتشارد البستاني محاضرته حول الحرب الحديثة بالقول: في العلاقات بين الدول، وخصوصاً خلال الحروب، لا يوجد حياد بل توجد مصالح!

    
الحرب غير المتماثلة
حدد البروفسور ريتشارد البستاني الحرب غير المتماثلة بتلك التي تقع بين طرفين غير متساويين في نوعية الأسلحة المستخدمة وطبيعتها. فتكون بذلك الحرب غير متماثلة ويكون الطرفان غير متكافئين. وفي هذا الإطار تناول استخدام الأسلحة النووية في الحروب الثورية، وما يتأتى عن استخدام هذه الأسلحة المدمرة من عدم تكافؤ بين الأطراف المتنازعة، وبالتالي إمكان التقدم على الطرف الآخر الذي لا يمتلك إلا الأسلحة التقليدية. وأضاف المحاضر قائلاً:
هذا ما كنا نعتقد أنه يحصل، لكن الحقائق بهذا الخصوص مذهلة ومغايرة، فقد أظهر التاريخ أن الأسلحة النووية مهما عظم فتكها لم تؤمن لمستخدميها المطامع التي طمحوا لتحقيقها، على الرغم من قدرتها على إحداث الدمار الشامل وما تسببه من ظلم للعنصر البشري. فثمة عوامل أخرى تضعف الجانب المستخدم للسلاح الأقوى منها: إدارة الحرب (حيث يجب تحديد أغراض الحرب وأهدافها قبل شنّها، وعدم تغييرها خلال المعركة) والعامل النفسي الذي يحد من قدرة المقاتلين على الاستمرار في القتال.
كما عرض المحاضر للمحاولات التي ركّز من خلالها المجتمع الدولي على بذل الجهود لتلافي وقوع الحروب الكبيرة. أول من مهّد لبروز ظاهرة «الحرب غير المتماثلة» كان أميركا عندما ضربت جزيرتي هيروشيما ونكازاكي بالقنابل الذرية العام 1945.
أتى هذا العمل الإجرامي نتيجة قناعة راسخة لدى الأميركيين أن الحرب لو استمرت بالطرق والأسلحة التقليدية ستطول مدتها، فارتأى الأميركيون أن عليهم تجربة هذا السلاح الجديد من نوعه حينها وبدأ بذلك العصر النووي، عصر التخريب والذرة.
وأضاف المحاضر قائلاً:
هنا تكمن المعضلة، حين يستخدم العدو أسلحة يحظّر عليّ استعمالها فانتصاره محتّم، أمر يجعل من الحرب غير المتماثلة أضحوكة، فهناك أسلحة محرّمة دولياً وعالمياً مثل القنابل العنقودية التي تسمح إسرائيل لنفسها باستخدامها، ومن هذا المنطلق يحدث التفوّق.
واستعرض البستاني عدة قوانين نصّت على عدم استخدام هذه الأسلحة، والمحاولات التي بذلت في إطار ما سماه بالديبلوماسية الرشيدة بين أميركا وروسيا السوفياتية للحد من ظاهرة استعمال الأسلحة النووية والذرية التي تمثّل الشر المطلق والخسائر اللامحدودة ولتلافي الحروب بين الدول الكبرى.
واستعرض المحاضر بالتفصيل العوامل التي تحول الانتصار الى عكسه في حال تفوق أحد طرفي الحرب على الطرف الآخر في مجال التسلح والتكنولوجيا فاعتبر أن من يشن الحرب يجب أن يحدد نوع الحرب ويحدد بالتالي غرضه السياسي فمن دون نجاح الغرض السياسي تصبح عملية الحرب بحد ذاتها فاشلة مهما حققت هذه الحرب من انتصارات في ميادين القتال.
فأميركا نجحت في حربها على فيتنام وكوريا ولكنها لم تحقق الغرض السياسي من خلال الحرب التي شنتها ألا وهو توحيد الكوريتين. ولعل المثال الأبرز والأكثر حداثة حرب العراق.
لقد استباح الجنود الأميركيون العراق، ولكنهم لم يستطيعوا إيجاد الأسلحة المدمرة التي زعموا أنهم متأكدون من وجودها وأنهم ينوون تخليص العالم والبشرية من فتكها. فبدل أن ينسحبوا ويتركوا المنطقة، ما يزالون حتى اليوم فيها ولمدة تجاوزت الخمس سنوات... إذاً الأغراض المرجوة من الحرب هي غير تلك التي أعلنتها الإدارة الأميركية...
أما في ما يتعلق بإدارة الحرب، فتتكبد الدول الكبرى في الحروب العالمية عامة آلاف القتلى من الجنود الذين يتعذر عليهم نقلهم الى بلدانهم الأم بحيث يدفنون في الدول التي تشن دولهم الحرب عليها، وهو أمر غاية في الخطورة يساعد على تفاعل الرأي العام. ويدعم تفاعل الرأي العام وغضبه عامل آخر يتمثل بدور وسائل الإعلام. الـCNN، تنقل عن الحرب مشاهد تكوّن لديهم ردات فعل قوية إزاء الأحداث، وتتطور هذه الردات لتثير الغضب الشعبي ضد الحكومات وبالتالي إدارات الدول.
في ما يتعلق بتأثير العامل النفسي على مجريات المعركة، استعان المحاضر بحرب تموز العام 2006 حيث المقاتل الاسرائيلي كان فاقداً ثقته بنفسه ومدركاً حقيقة هويته ووضعه كمعتدٍ وليس معتدى عليه، فبأي نفسية يحارب ولأجل أي غرض، وهو أشد المدركين أنه مغتصب غاشم. وخلص الى القول إن المسألة ليست مسألة تسلّح فحسب.
وختم بالقول إن الحروب ينبغي من الأساس أن تكون في تكافؤ ليحدد في النهاية الغالب من المغلوب، فالحروب ينبغي قبل انطلاقها أن تكون متماثلة، وإلا فإن جزءاً من المعادلة والذي هو الجزء الضعيف يصل الى نتائج ممتازة بينما الجزء الذي يملك السلاح الأقوى يفشل في تحقيق الغرض السياسي.