من التاريخ

محمد علي باشا في السودان
إعداد: العقيد الركن أنطوان الفتى

الحكم الذي نشر الأمن والعمران وحقّق النهضة


ولد محمد علي في مقدونيا شمالي اليونان في العام 1769 لأسرة ألبانية، فَقَدَ والدَيه في سنّ صغيرة ونشأ يتيمًا. كفله حاكم قولة الشوربجي إسماعيل الذي أدخله في سلك الجندية، فأبدى شجاعة وحسن نظر، وتدرّج في السلك حتى أصبح في رتبة عالية. قرّبه الحاكم من أسرته ثمّ زوّجه من امرأة غنية.
في العام 1805، اشتعلت الثورة في مصر، فَعُزِل الوالي العثماني خورشيد باشا، واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم نقيب الأشراف، محمد علي ليتولّى الحكم، وأمام حكم الأمر الواقع، قبل السلطان العثماني سليم الثالث بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر، وتولية محمد علي مكانه.
تسلّح محمد علي باشا بالدهاء والحيلة، واعتمد سياسة «فرّق تسد» إزاء المماليك، مستخدمًا التنافس القديم بين زعمائهم، لإضعاف شوكتهم. أمّا في ما يخصّ الأتراك فقد استخدم سلاحًا آخر هو الرشوة.


فتح السودان (1820)
اعتزم محمد علي باشا تجريد حملةٍ على السّودان عقب انتهائه من حرب الوهابيّين، فحشد الجيش في مصر القديمة، حيث تمّ إعداد ثلاثة آلاف مركبٍ لنقل الجنود والذّخائر والمؤن عن طريق النّيل، ونحو ثلاثة آلافٍ من الإبل للسّير برًّا. سار في خدمة الحملة ألفان من الأتباع، وصحبها ثلاثة من العلماء مهمتهم دعوة الأهالي في البلاد التي يبلغها الجيش إلى الطاعة والاعتراف بسلطة الحكومة حقنًا للدماء. ركب الجنود المشاة المراكب فانحدروا في النّيل، وسار الفرسان ورجال المدفعيّة في البرّ الغربي، وتقدّمت الجيش طليعةٌ مؤلّفة من خمسمائة فارس، وتحرّكت الحملة قاصدةً حدود دنقلة، ثمّ تابعت سيرها جنوبًا.
اعتبر المصريّون السودان منذ القرون الغابرة جزءًا من مصر، وقد أثبت المؤرّخون أنّ ما بين البلدين روابط تاريخية قديمة، وأثبتوا من خلال النقوش الهيروغليفية أنّ الملك تحوتمس الأول توغّل حتى منطقة البحيرات، واحتلّ بعض المواقع الحربيّة التي كانت على النيل. وإذا كان السودان قد فُصِل عن مصر في بعض الأزمنة قديمًا أو حديثًا، فذلك لم يكن إلا خُروجًا على القاعدة التقليديّة، وهي أنه جزء لا يتجزأ من مصر.
  إضافةً إلى هذا السبب القوميّ، يحدّد المؤرخون أسبابًا أخرى دفعت محمد علي باشا إلى فتح السودان، ويمكن تلخيصها بالآتي:
• سعي محمد علي باشا إلى اكتشاف مناجم الذهب والألماس والحديد والنحاس التي تناقل الناس أنها موجودة في السودان، وخصوصًا في سنار وكردفان.
• القضاء على البقية الباقية من المماليك الذين كانوا لاجئين إلى إقليم دنقلة، وهم على الرغم مما كانوا فيه من الضعف، ظلّوا مصدر قلق لمحمد علي، فاعتزم القضاء عليهم كي لا يستردّوا قوتهم يومًا ما، ويزحفوا إلى مصر.
• مطالبة أهلِ السّودان مصرَ بإنشاء حكومة قويّة، تقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في بلادهم، وتُشيع الأمن والنّظام والطّمأنينة والرّخاء.
• توسيع مُلك مصر في الجنوب، وإرساء الروابط الاقتصادية مع السودان، وتوسيع نطاق المعاملات التجاريّة بينهما، إذ لم يكن يَقصِد السودان من العاملين في التجارة سوى فئة قليلة من المغامرين، وكانت أسفارهم في الغالب عرضة للخطر. وبالتّالي تحوّلت معظم متاجر السودان إلى طريق سواكن ومصوع من ثغور البحر الأحمر، وكاد ينقطع ورودها إلى مصر. وقد أدرك محمد علي باشا أنّ في توسيع نطاق التجارة بين مصر والسودان فائدة لعمران البلدين، وتنمية لمداخيل الحكومة ما يعوّضها بعض ما فقدته من الأموال والنفقات في الحرب الوهابية.
• رسالة مصر في السّودان، فقد اعتبر محمد علي باشا أنّ رسالته هي النّهوض بالسّودان إلى مصاف الدّول المتمدّنة.
• ضرورة الاطمئنان إلى توفير ما تحتاج إليه مصر، بل السّودان نفسه من مياه النّيل. فقد عمد حكّام الحبشة والنّوبة من الأزمنة القديمة إلى قطع مياه النّيل عن مصر، كلّما ساءت علاقاتها بهم. وحتّى عهد محمد علي باشا كان الخوف من تحويل مجرى النّيل ما يزال قائمًا، لذلك أمر بشقّ الطريق إلى حوض النّيل الأعلى، كذلك قام «المبباشي» سليم قبودان برحلاته الثلاث في النّيل الأبيض لاستكشاف منابع النّهر. فمحمد علي باشا الذي اشتهر ببعد النظر، كان يدرك ما للسودان من أهمية بالنسبة إلى مصر، ويدرك أن الاستقلال لا يتحقّق إلا إذا تملّكت مصر مجرى النيل من منبعه إلى مصبه.
• جلب الرقيق للعمل في الزراعة أو في خدمة البيوت، فضلًا عن تجنيدهم في الجيش المصري النظامي، لما اشتهر به الجنود السودانيون من الصبر والشجاعة وطاعة الرؤساء.
ويبدو من رسائل محمد علي باشا أنّ جلب الرقيق كان الهدف الرئيس لحملته على السّودان، لكنّه لم يحقّق النّتيجة المرجوّة. فبينما يُقَدّر عدد العبيد الّذين تمّ جمعهم وإرسالهم إلى الثكنات العسكريّة في أسوان بحوالى 20000، لم يبقَ منهم على قيد الحياة سوى 3000 فقط، بسبب عدم تأقلمهم في البيئة الجديدة.
• رغبة محمد علي باشا التخلّص من الفِرَق الباقية من عسكر الأرناؤوط في مصر، وقد ظلّوا على ما اعتادوه من النزوع إلى العصيان والتمرّد والإخلال بالنظام، لذلك رأى أن يتخلّص منهم بإرسالهم إلى السودان، وخصوصًا أنه كان قد شرع في تأسيس الجيش المصري النظامي.
يتبيّن مما سبق أن حملة السودان كانت لها أهداف اقتصاديّة وعسكريّة وسياسية - قوميّة، وهي تتمحور حول هدف أساس، هو تحقيق وحدة وادي النّيل، بعد السيطرة على الموارد البشرية (الرقيق) والطبيعية (ذهب وألماس ومعادن...). ولا يخفى أنّ مساحة السودان تفوق ضعف مساحة مصر، وبفتحه اتّسعت رقعة الدولة المصريّة، فبلغت ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، ووصلت إلى معظم حدودها الطبيعية.


المشاكل الّتي واجهها المصريّون خلال فتح السّودان
بدأت الحملة على السودان عقب انتهاء محمد علي باشا من حرب الوهابيين، وهذا يدل على قوة إرادته وبأس عزيمته ودأبه على توسيع ملك مصر. كانت حرب السودان - على كثرة ضحاياها - أقل مشقة وأقصر مدة من حرب الوهابيين، فقد كان الجيش المصري يواجه في جزيرة العرب قومًا مدرّبين على القتال، اشتهروا بشدة البأس وعاشوا للكرّ والفرّ، وهم فوق ذلك، معتزّون بانتصاراتهم على الحملات العثمانية من قبل، أما الجيش الذي تحرّك لفتح السودان فلم يلقَ أمامه سوى قوات مشتتة لا سلاح معها إلّا الرماح، وما إليها من الأسلحة البائدة، وهي تجهل أساليب القتال وفنونهَُ. لم يلقَ الجيش المصري مقاومة تذكر إلّا في بلاد الشابقية، وهم قبائل يسكنون جنوبي دنقلة، وفي كردفان التي كانت تابعة لسلطنة دارفور، وفي مملكة سنار، لكنّ العقبة التي اعترضت الجيش المصري كانت الأمراض والأوبئة التي حصدت الجنود، فكانت أشدّ خطرًا عليهم من القتال وخوض المعارك.
 

نتائج الحملة
إنّ أبرز ما نتج من فتح السّودان وفق رأي العديد من المؤرّخين هو الآتي:

• التنظيم الإداري:
جعل محمد علي باشا على السودان حاكمًا يُسمى «حكمدار السودان» يجمع في يده السلطة العسكرية والمدنية ويرجع في إدارته إلى ديوان (وزارة) الداخلية في مصر. وبسبب بعد المسافة بين البلدين وصعوبة المواصلات امتلك حكمدار السودان سلطة مطلقة في إدارته، وجعل من مدينة الخرطوم التي أُنشئت في عهده، عاصمة السودان ومقرّ الحاكم العام، ومع الزّمن قُسّمت البلاد إلى مديريّات لكلّ منها مدير يحكمها تحت إدارة الحكمدار.
كانت الإدارة تتبع نظام الإدارة المصريّة، وصار عدد المديريّات في أواخر عهد محمد علي باشا سبعة، يتولّى كلًا منها مدير وإلى جانبه القاضي والمفتي فضلًا عن مجلس أهلي وضبطية (شرطة). وكان المديريّون ومَن معهم من الموظّفين تحت رقابة الحاكم العام (الحكمدار).
هكذا نرى أنّ السّودان قد خطت خطوتها الأولى في الإدارة والتنظيم مع محمد علي باشا رغم أنّ الكثير من الموظّفين كانوا ينزعون إلى الظلم والبطش.

• العمران وتأسيس المدن:
يرجع الفضل في نهضة السودان إلى الحكم المصري، وذلك عكس ما يَرِد في بعض الكتب التي تقول إن الأمبراطورية البريطانية هي التي كانت وراء هذه النهضة. ففي المرحلة الأولى أو ما عرف بعهد الفتح الأول أي عهد محمد علي باشا، ضحّى المصريون بأرواحهم ودمائهم في سبيل فتح السودان وبسط سلطة الأمن في ربوعه، وقد بلغ عدد من فقدهم الجيش المصري في هذا الفتح نحو ثلاثة آلاف رجل.
وكانت النتائج باهرة إذ نشر الحكم المصري لواء الحضارة والعمران في أصقاع السّودان، وأقام فيها مدنًا زاهرة صارت مبعث الحضارة والتقدم في أنحائه.
حين فتح المصريّون السّودان لم يختاروا إحدى مدنه القائمة مثل بربر أو سنار أو الأبيض عاصمة له، بل أنشأوا عاصمة جديدة وهي الخرطوم، ولم يكن مكانها قبل الفتح المصري سوى محلة صغيرة للصيّادين. ففي العام 1822 تمّ تأسيس معسكر ثابت للجنود فيها، وفي العام 1839 اتّخذها خورشيد باشا مقرًّا له وذلك لما لموقعها من أهميّةٍ. وقد سُمّيت «الخرطوم» لأنها ملتقى النيلين بشكل يشبه رأس خرطوم الفيل. أقيمت في المدينة المباني والعمائر، وأهمّها السراي الحكومي الفخم، وسراي مديريّة الخرطوم، إضافة إلى مسجدين أحدهما كبير بناه خورشيد باشا، والآخر صغير أقيم من بعده، ودار لإحدى البعثات الدينيّة المسيحيّة، وثكنة كبيرة للجنود ومستشفى، فضلًا عن مرافق صناعة السفن التي أخذت تنقل الجنود والمتاجر عبر النيل. وبذلك صارت الخرطوم من أهمّ المحطّات التجارية في أفريقيا، ومركزًا للرّحلات والاكتشافات الجغرافيّة والعلميّة...

• توطيد دعائم الأمن:
مهما اختلف المؤرّخون في تقديرهم لحكم محمد علي باشا للسودان، فإنهم يُجمِعون على الاعتراف بفضله في بسط الأمن في أصقاعه النائية. كانت الرحلة إليه قبل الفتح المصري محفوفة بالأخطار، بسبب اضطراب الأمن، وضعف سلطة الرؤساء، واستهداف قُطّاع الطرق لقوافل التجّار والحجّاج، ولكنّ الحكم المصري قضى على الفوضى وأرسى الأمن في البلاد.

• التّعليم:
أدّى تطوير شبكة المواصلات بين مصر والسّودان وتوطيد الأمن على الطّرقات إلى إقبال الشّبّان السودانيّين على الأزهر طلبًا للعلم. ولم يقتصر الأمر على الثقافة الدينيّة بل تعدّاه إلى مجالات أخرى بتشجيع من محمد علي باشا.

• الزّراعة:
تطوّرت الزراعة في السودان خلال الحكم المصري إذ أُرسِلَت من مصر طائفةٌ من المزارعين لتدريب الأهالي على الزراعة، وسافر عدد من أبناء وجهاء السّودان إلى مصر حيث تعلّموا طرق الزّراعة التي كانت متقدّمة هناك. كذلك دخلت إلى السودان الزراعات المصريّة كالقمح والخضار، وغُرست أشجار الفاكهة المختلفة كالبرتقال واللّيمون والرمّان والعنب، ونُسّقت الحدائق.

• الحملات والبعثات الجغرافية:
شجّع الفتح المصري العلماء وروّاد الاكتشاف والاستطلاع على القيام بالرحلات العلميّة لاكتشاف أصقاع السودان النائية، وخصوصًا منابع النيل. وقد كان لمحمد علي باشا فضلٌ كبيرٌ في تشجيع الباحثين والعلماء، إذ شملهم برعاية الحكومة وعَهَدَ إلى جنده حمايتهم في رحلاتهم، فانطلقت من الخرطوم رحلات لاكتشاف منابع النيل وأواسط أفريقيا.

 

للإصلاح ثمن!
شكّلت فترة الحكم المصري بحسب المؤرّخين بداية تاريخ السودان الحديث، فقد ظهرت خلال هذه الفترة الكينونة السياسيّة الموحّدة للسودان، إذ أدخل الحكم المصري مظاهر التحديث إلى تلك البقعة من قارةٍ كانت حتّى ذلك العصر بقاعًا مجهولةً لم تطأها قدم إنسانٍ. فلولا الحملات الاستكشافيّة الّتي قام بها المصريّون لما فُتِحت الأبواب لاكتشاف ما تبقّى من قارة أفريقيا، ولربما بقي السّودان حتّى الآن مسرحًا تتناحر فيه القبائل، ويباع عبيده في أسواق النّخاسة. ولولا ذلك الرجل المندفع إلى الإصلاح، المتأثّر بأفكار الثورة الفرنسيّة وأنظمة الإمبراطوريّة الإنكليزيّة، لما وُلِد التنظيم الإداريّ في السّودان، ولما أُنشئت فيه المدن الحديثة والمدارس والمحاكم. ومن يتّهم محمد علي باشا بالعنصريّة لأنّه رغب جلب العبيد في بداية حملته، عليه أن يقرأ تاريخ السّودان جيّدًا ليتأكّد من أنّ تجارة الرقّ عادةٌ ألِفَها سكّان تلك المنطقة لقرونٍ متعددة سبقت عهد محمد علي باشا، حتّى أنّها كانت دعامةً من دعائم الاقتصاد الّتي يقوم عليها النظام القبلي في تلك المنطقة، وحَظرُها كان سببًا من أسباب قيام الثورة المهديّة. أمّا من يلومه على الضرائب الباهظة الّتي فرضها على السودانيّين، فيجب ألّا ينكر أنّ للإصلاح ثمنًا...


المصادر والمراجع:
- شقير نعوم، جغرافية وتاريخ السّودان الطبعة الأولى، الخرطوم، دار عزّة للنّشر، والتّوزيع، 2007.
- الرّافعي عبد الرحمن، الزعامة الشعبية في السنوات الأولى من حكم محمد علي، القاهرة، مطابع الهيئة المصرية العامة 1984 الجزء 3.
- الغنّام سليمان، سياسة محمد علي باشا التوسيعيّة في الجزيرة العربيّة والسّودان واليونان وسوريا (1811ـ 1840)، الدار البيضاء، المركز الثّقافي العربي، 2004.
- الرافعي عبد الرحمن، عصر محمد علي، الطبعة الرابعة، بيروت، دار المعارف، 1982.
- عبد اللّطيف الأمين، العلاقات السودانيّة المصريّة: رؤية مستقبليّة، الطّبعة الأولى، سوريا، مركز محمد عمر البشير للدراسات السودانيّة، 2006.
- إبراهيم حسن أحمد، محمد علي باشا في السودان، الطبعة الأولى، الخرطوم، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1973.
- موسى عبده مختار، «مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان»، الطبعة الأولى، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2009.
- موسى عباس صالح، مسار الحكم المحلّي في السودان، الطبعة الأولى، أمدرمان، مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانيّة، 2007.
- شكري محمد فؤاد، مصر والسودان تاريخ وحدة النّيل السّياسية في القرن التاسع عشر، (1820 - 1899)، القاهرة، دار المعارف.